الانتخابات في ظل الأزمات: الأردن كنموذج للديمقراطية المتجددة

 تُعد دورية الانتخابات واحدة من الركائز الأساسية في أي نظام ديمقراطي، فهي تُجسد التوازن بين الحاجة إلى الرقابة المستمرة على المسؤولين المنتخبين من قبل الناخبين، وبين ضرورة منح هؤلاء المسؤولين الوقت الكافي لاكتساب الخبرة وإثبات كفاءتهم. فدورية الانتخابات تمثل مبدأً جوهرياً في تداول السلطة، وتشكل أحد أبرز ملامح العملية الديمقراطية. حيث إنها تضمن تطبيق القواعد والإجراءات الانتخابية بشكل منتظم ودوري، بدون تمييز أو تحيز لفئة معينة، مما يعزز من نزاهة العملية الانتخابية ويعطيها طابعاً أكثر مصداقية .
 
إن مفهوم دورية الانتخابات يرتكز على مبدأ أساسي في الديمقراطية وهو تحديد المناصب السياسية بفترات زمنية محددة. ففي الأنظمة الديمقراطية، المسؤولون المنتخبون لا يُنتخبون مدى الحياة، بل يُلزمون بالعودة إلى الناخبين في نهاية فترات ولايتهم لاستفتاء آرائهم في أدائهم. هذا يعزز من مبدأ المساءلة السياسية، حيث لا يملك المسؤولون في الأنظمة الديمقراطية الحق في تأجيل أو إلغاء الانتخابات المقررة، كما لا يمكنهم تمديد فترات حكمهم دون الرجوع إلى الناخبين. وبالتالي، تُعتبر دورية الانتخابات أداة قوية بيد الشعب تمكنه من تغيير السلطات السياسية سواء كانت تنفيذية أو تشريعية، وتجديدها وتطويرها بما يتلاءم مع مصالحه .
 
في الأردن، خضع مبدأ دورية الانتخابات لاختبار حقيقي أثناء جائحة كورونا التي اجتاحت العالم قبل حوالي خمس سنوات. في تلك الفترة، كان الدكتور عمر الرزاز، خريج جامعة هارفارد، يتولى منصب رئيس الوزراء. الرزاز، الذي لطالما تباهى بمبادئ الغرب وعلى راسها الديمقراطية وحقوق الإنسان، وجد نفسه أمام تحدٍ حقيقي عندما واجهت البلاد ظروفاً استثنائية بسبب الجائحة. بحجة الحفاظ على السلامة العامة، تلكا وناور الرزاز وحاول تأجيل الانتخابات، مستنداً إلى الظروف الصعبة التي فرضتها الجائحة .
لكن إرادة الملك عبدالله الثاني، الذي يعرف بتاريخه العسكري وشخصيته الحازمة ، كانت حاسمة في هذا الموقف. الملك، المعروف بحزمه وقراراته الصارمة، رفض تأجيل الانتخابات وأصر على إجرائها في موعدها المحدد. رؤية الملك كانت واضحة: دورية الانتخابات ليست مجرد إجراء روتيني يمكن تأجيله عند الأزمات، بل هي ركيزة أساسية للديمقراطية لا يجب التنازل عنها تحت أي ظرف.
هذا القرار الملكي عكس التزام الأردن العميق بمبادئ الديمقراطية، وبرزت شخصية الملك العسكرية كعامل حاسم في اتخاذ القرار، مما أكد على أهمية دورية الانتخابات كأحد الأسس الديمقراطية الحيوية التي يجب الحفاظ عليها .
 
هذا الالتزام بمبدأ دورية الانتخابات لم يكن مجرد تنفيذ إجراء روتيني، بل كان تعبيراً عن التزام الدولة الأردنية بالديمقراطية كمبدأ ومنهج للحياة السياسية. وقد جاء هذا الالتزام رغم التحديات الكبيرة التي فرضتها الجائحة، حيث كان من الممكن تأجيل الانتخابات تحت ذريعة الحفاظ على الصحة العامة. لكن القيادة الأردنية رأت في إجراء الانتخابات دلالة على التمسك بالمبادئ الديمقراطية، بغض النظر عن الظروف المحيطة .
 
اليوم، يعيش الأردن مرة أخرى تحدياً جديداً مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، وذلك في ظل ظروف إقليمية ودولية غاية في التعقيد. ففي غضون أقل من عشرة أيام، يتوجه الناخبون الأردنيون إلى صناديق الاقتراع، على الرغم من حالة الاضطراب التي تعيشها المنطقة بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، وما تبعه من تداعيات إقليمية ودولية.
إن إصرار الأردن على إجراء الانتخابات في هذه الظروف الصعبة يعكس مرة أخرى التزامه العميق بمبدأ دورية الانتخابات، الذي يُعد فرصة لتعزيز مسيرة الإصلاحات في البلاد، وإحداث تغييرات حقيقية في صفوف النخب البرلمانية بما يعزز من خصائصها المهنية والوظيفية .
 
ورغم التحديات الكثيرة التي تحيط بالعملية الانتخابية في الأردن، مثل طغيان ظاهرة المال السياسي، وتراجع وهبوط مستوى البرامج الانتخابية، وضعف أداء الأحزاب السياسية، خاصة الأحزاب الحديثة العهد، إلا أن مجرد إجراء الانتخابات يُعد إنجازاً وضرورة وطنية. فالانتخابات تسهم في تعزيز المشاركة الشعبية وتطوير الحياة النيابية، مما يدعم استقرار النظام السياسي ويقوي مناعته في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية .
عند استعراض تاريخ قوانين الانتخابات في الأردن منذ عام 1993 وحتى 2016، يتضح أنها لعبت دوراً كبيراً في تعزيز مكانة العشائرية و الشخصيات المستقلة، لكنها في الوقت ذاته أعاقت تطور الحياة الحزبية وعززت الهويات الفرعية في المجتمع. ومع ذلك، فإن القانون الجديد الذي تُجرى الانتخابات القادمة على أساسه يمثل تحولاً نوعياً وفرصة حقيقية لاختبار دور الأحزاب السياسية ومكانتها في البلاد .
في هذا السياق، يتصدر حزب جبهة العمل الإسلامي المشهد الانتخابي، مظهراً قدرته كحزب جماهيري يحظى باحترام وثقة واسعة بين الناخبين. هذا التميز لم يأتِ من فراغ؛ فقد بُني على تنظيم محكم واختيار دقيق لمرشحين يتمتعون بمصداقية عالية وسجل حافل بالإنجازات ،وطبعا رفض مطلق لظاهرة المال الاسود . وقد استطاع الحزب أن يعكس اهتمامه العميق بقضايا المجتمع والوطن والامة ، مما عزز من مكانته كقوة رئيسية في الساحة السياسية.
في ظل الظروف الإقليمية المعقدة وتأثيراتها المباشرة على الأردن، تشكل الانتخابات القادمة اختباراً حقيقياً لبقية الأحزاب السياسية. فالأحزاب التي لا تتمكن من اجتياز هذا الامتحان بنجاح، وتقديم مرشحين وبرامج تحظى بثقة الجماهير، قد تجد نفسها على هامش المشهد السياسي، وربما تختفي تماماً بعد الانتخابات . بهذا المعنى، يُعد حزب جبهة العمل الإسلامي نموذجاً لقدرة الأحزاب على البقاء والتكيف مع التحديات، من خلال التواصل الفعال مع الجماهير وتلبية تطلعاتهم والالتزام بقضاياهم .
 
في الختام، يمكن القول إن دورية الانتخابات ليست مجرد إجراء روتيني بل هي أساس لتمكين الشعب من ممارسة سيادته ومحاسبة حكامه. وهي تعكس التزام الدولة بالديمقراطية كمنهج حياة وسياسة، وتؤكد على أهمية الاستمرار في تعزيز العملية الديمقراطية حتى في ظل أصعب الظروف .