الهندسة الاستباقيّة واحتلال الضفة الغربيّة!



كتب كمال ميرزا - 

في حياتنا اليوميّة، عندما يريد أحدنا أن يبني عمارة ما على سبيل المثال، هو لا يبني هذه العمارة أولاً ثمّ يقول: أنا أريد أن أبني عمارة!

في البداية يُفصح عن نيته للآخرين، ويبدأ بسؤالهم ومشاورتهم: هل تعرفون مهندساً جيداً لتصميم العمارة؟ هل تعرفون مقاولاً جيداً؟ ما هي إجراءات استصدار الرخص والتصاريح.. الخ؟

وبعدها يشرع ببناء عمارته: الأساسات، فالهيكل أو ما يُسمّى باللهجة الدارجة "العظم"، ثم التشطيبات النهائيّة!

في عالم السياسة الوضع مختلف تماماً.

عندما تريد دولة أو نظام ما تنفيذ خطة أو مشروع معيّن، خاصة إذا كان مشروعاً حسّاساً أو له أبعاد أمنيّة أو عسكريّة أو "صراعيّة"، فإنّ هذه الدولة لا تبدأ بالإفصاح عن نواياها ومخطّطاتها، ثمّ تشرع بعدها بالتنفيذ واتخاذ الخطوات العمليّة بعد أن أصبحت هذه النوايا مكشوفةً ومعروفةً لأعدائها أو خصومها أو منافسيها أو أولئك الذين ستمسّهم هذه المخططات..

في عالم السياسة تشرع الدول والأنظمة ببناء العمارة أولاً، ثم بعد الانتهاء منها، أو على الأقل بعد الانتهاء من وضع الأساسات وتشييد الهيكل العظم، تُفصح عن نيّتها ببناء عمارة!

بكلمات أخرى، في عالم السياسة لحظة الإعلان عن أي مخطط أو مشروع هي لحظة اكتماله وليس ابتدائه بالنسبة لأصحابه، ولحظة محاولتهم تدشينه كأمر واقع جديد على الجميع من الآن فصاعداً التعامل في ضوئه ووفق مقتضاه حتى وإن بقيت هناك بعض "التشطيبات" والرتوش النهائية غير المكتملة.

الكلام أعلاه ينطبق على المخططات والمشاريع الكبرى في المنطقة..

فـ "الشرق الأوسط الكبير" على سبيل المثال هو جميع الترتيبات والإجراءات المسبقة التي تمّ اتخاذها في المنطقة، طوعاً أو كرهاً، وصولاّ للإعلان رسميّاً عن شيء اسمه "الشرق الأوسط الكبير"، وكلّ ما يلي هذا الإعلان هو "تشطيبات" و"رتوش" واستكمال لما تمّ البدء به وإنجازه فعليّاً..

و"صفقة القرن" هي جميع الترتيبات والإجراءات التي تم اتخاذها، والأرضيّة التي تم تمهيدها، والبُني التحتيّة التي تمّ إرساؤها، والهياكل التشريعيّة والمؤسسيّة والفنيّة والبشريّة وحتى الثقافيّة التي تمّت هيكلتها وهندستها مسبقاً .. وصولاً للحظة الإعلان رسميّاً عن شيء اسمه "صفقة القرن"..

و"السلام الاقتصادي" نفس الشيء.. وهكذا دواليك!

وعليه، فعندما يقول "الكيان الصهيونيّ" أنّه يريد احتلال الضفة الغربيّة وضمّها إليه، فهذا لا يعني أنّ الفكرة وليدة اللحظة، وأنّه سيبدأ توّاً وحالاً إجراءات وترتيبات ومحاولات احتلال الضفة الغربيّة، بل هذا يعني أنّ الاحتلال يريد أن يعلن للملأ أنّه قد احتلّ الضفة الغربيّة بالفعل، وأنّ هناك أمراً واقعاً جديداً قد انبثق على الأرض، وأنّ على الجميع التعامل معه والتسليم به، وأنّه الآن في معرض إتمام "التشطيبات" ووضع الرتوش واللمسات النهائيّة على ما سبق التأسيس له وهندسته وتشييده، وقطف ثمار ما تمّ إنضاجه على نار هادئة على مدار عشرات السنوات، أو على الأقل منذ توقيع "اتفاقيّة أوسلو" ولغاية الآن!

نفس الكلام ينطبق على إعادة احتلال غزّة وضمّها، وعلى حرب "الإبادة والتهجير" المُسبقة والمُمنهجة التي يشنّها الكيان الصهيونيّ على الشعب الفلسطينيّ هناك.

وفي غمرة هذا كلّه، يبدو أنّ "فصائل المقاومة" ومجمل "تيار الممانعة" هم الذين كانوا يعون الدرس جيداً، ويفهمون سياسة، ويتقنون لعبتها والتعامل معها ومع دهاليزها وسفالاتها، ومن هنا جاء "طوفان الأقصى" كضربة استباقيّة، ومن هنا جاءت كلّ هذه الترتيبات والتحضيرات المسبقة والإعداد المسبق استعداداً لـ "ساعة الصفر"، وقيام العدو بالتكشير عن أنيابه والإفصاح عن مخطّطاته عمليّاً جهاراً نهاراً!

أمّا بالنسبة لمَن يُطلق عليهم "النظام الرسميّ العربيّ"، فهم أحد احتمالين:

أمّا أنّهم يفهمون سياسة ويعون الكلام أعلاه جيداً، وبالتالي عدم إتيانهم بأي إجراءات وخطوات مضادة طوال السنوات الماضية، بل وتسهيلهم "المهمّة" على العدو، يوحي بأنّهم متواطئون مع مخططات هذا العدو، أو في أضعف الإيمان منسحقون أمامها، وكلّ ما يصدر عنهم الآن من شجب وندب وإدانة ورفض وتحذير هو فقط للاستهلاك الإعلاميّ، ومن قبيل "الضحك على اللحى" و"ذرّ الرماد في العيون"!

وإمّا أنّهم لا يفهمون سياسة ولا يعون الكلام أعلاه، وهذه كارثة أكبر: أنّ يموت البشر ويشرّدوا، وأن تتفكّك الأوطان وتتشرذم وتُباع و"تضيع" فقط لأنّ الأمّة ابتُليت بحفنة أغبياء يتولّون مقاليد أمرها!

أنا شخصيّاً ميّال للاحتمال الأول!

الكلام أعلاه ليس هدفه بثّ روح اليأس والقنوط بين الناس، أو تصوير مخطّطات العدو باعتبارها قدراً لا مفرّ منه وأمراً مقضيّاً، أو تصوير العدو وكأنّه "ربّ وثنيّ" يتحكّم بمصائر الأوطان والبشر ويتلاعب بها كيفما يشاء!

الهدف من الكلام أعلاه هو فهم كيف تجري الأمور، وفهم منطق تفكير العدو وأسلوب تعاطيه وبالتالي كيف يمكن أو ينبغي التعامل معه.. لكن في مقابل هذه المخطّطات والمؤامرات الشيطانيّة هناك ثلاثة اعتبارات لا يستطيع مؤمن عاقل وعاقل مؤمن أن يُسقطها من حساباته:

أولاً: ((.. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)).

ثانيّاً: كلّ من جرّب التورّط في ورطة العمار يعرف أنّ مرحلة "التشطيبات" هي أصعب مرحلة، وهي التي تستهلك أكبر كلفة وجهد ووقت، وهامش الأخطاء فيها واسع ومتشعّب ومتداخل، وأنّ تأخير "المواسرجي" في إنجاز عمله مثلاً سيترتب عليه تأخير "البلّيط" و"الكهربجي" و"الطرّيش" في إنجاز أعمالهم، و"التياسات" التي يقترفها "القصّير" (عامل المحارة باللهجة المصريّة) سيدفع ثمنها "معلم الألومونيوم" عندما يأتي لأخذ قياس الشبابيك وتفصيلها وتركيبها.. وهكذا.

ثالثاً: عندما يكون سمسار الأرض "ابن حرام"، والمهندس المصمم "ابن حرام"، والمقاول "ابن حرام"، ومَن يمنح الرخص والتصاريح "ابن حرام"، ومَن يشرف على البناء "ابن حرام"، ومَن يراقب ويضبط المخالفات "ابن حرام"، ومَن يحرس الورشة "ابن حرام".. الخ، مَن قال لك أن بنيانك سيخرج متيناً؟! أو أنّ أساساتك الخبيثة والمنخورة قادرة على الصمود في وجه الزمن؟! أو على الأقل لحين انتهائك من "تشطيباتك" المزعومة؟! وعندها ضربة "مهدّة" أو "مطرقة" واحدة أعلى البناء قد تؤدي إلى انهياره على قواعده، أو كما يقول الله تعالى في الآية (109) من "سورة التوبة":

((أفمَن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خيرٌ أم مَن أسّس بنيانه على شفا جُرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنّم والله لا يهدي القوم الظالمين))!

"مسكين" هو العدو عندما يكتشف أنّ كلّ عبقريّته الهندسيّة ومشاريعه العملاقة لا تكافئ هندسة "نفق" واحد!