الانتخابات البرلمانيّة: "فتحسّس رأسك.. فتحسّس رأسك"!



أخرجُ إلى الشارع، أهيمُ في الطرقات، أتمعّنُ في اليافطات الانتخابيّة واحدةً واحدةً، أتفرّس في وجوه المرشّحين واحداً واحداً.. لعلّ عبارةً ما تجذبني وتقنعني، أو ومضةً ما تشدّني وتضيء جانباً مظلماً من عقلي، أو إشارةً ما تهبط عليّ من السماء وتحسم قراري وتقنعني بالمشاركة والإدلاء بصوتي لأوّل مرّة في حياتي!

معرفيّاً أنا ضد "الديمقراطيّة" برغم ما تحمله هذه الكلمة من رونق وألق و"قداسة"، واعتبرها أخبث وسيلة تفتّق عنها فِكر الإنسان السياسيّ عبر التاريخ للتفريط بمبدأ "المسؤوليّة"، وإهدار دم أي قضيّة عادلة أو حقوق واجبة "بين القبائل".

بصدق، أنا لديّ قناعة راسخة أنّ نواة الديمقراطيّة بشكلها الحديث الذي نعرفه قد وُلدت في مكّة، وتحديداً زمن البعثة، عندما اقترح "أبو جهل" اختيار شاب قوّي من كلّ قبيلة كي يغتالوا الرسول صلى الله عليه وسلّم، ويضربوه ضربة رجل واحد فيضيع دمه بين القبائل، ولا يجد "بنو هاشم" وقتها بُدّاً من قبول الديّة والصلح.

يُقال أنّ الشيطان نفسه كان حاضراً وأثنى على فكرة "أبو جهل"، أي أنّ الشيطان نفسه قد أُعجب بشيطانيّة فكرة الديمقراطيّة!

وأكثر ما يستفزّني هو التحوير والتزوير الذي يمارسه الكثيرون، ومنهم مَن يفعل ذلك باسم التقوى والصلاح والالتزام، حين يخلطون بين "الديمقراطيّة" و"الشوري"، ويحاولون تصوير الأولى باعتبارها تساوي الثانية، وأنّ الثانية تكافئ الأولى.

في "الشورى"، وباستثناء الحلال البيّن والحرام البيّن، فإنّ وليّ الأمر مُلزم باستنفاد الوسع في سؤال "أهل الذكر"، وكلّ مَن يمكن أن يكون صاحب نُصح أو رأي أو مشورة حيال المسألة قيد النظر، والإحاطة ما أمكن بجميع الآراء والاجتهادات والتحليلات والاستبصارات.. لكن في نهاية المطاف هو الذي سيختار وهو الذي سيقرّر، لأنّه هو الذي سيتحمّل المسؤوليّة كاملةً، في الدنيا والآخرة، إزاء خياره وقراره، ولا يعفيه من ذلك أن يزرعها بذقن "الأغلبيّة"، أو بذقن هذه المؤسسة الدستوريّة أو تلك، أو بذقن "العمليّة الانتخابيّة" ومخرجاتها!

وحتى لو سلّمنا بـ "الديمقراطيّة" كفكرة نظريّة أو من حيث المبدأ، فإنّ الديمقراطيّة كما تمّ إرساؤها وترسيخها في الممارسة السياسيّة العمليّة الحديثة، حتى لدى أعرق وأعتى الديمقراطيّات في العالم، وارتباطها برأس المال والتمويل وشبكات المصالح من جهة، وارتباطها بالدعاية السياسيّة والإعلاميّة والتلاعب بالوعي وتصنيع الرأي العام من جهة أخرى.. كلّ ذلك من شأنه تفريغ فكرة "الديمقراطيّة" من فحواها، ومن أي وجاهة نظريّة وظاهريّة يمكن أن تدّعيها لنفسها.

وفي الوطن العربي يزداد الطين بلّة بفعل تدخّل وتداخل ما هو "سلطويّ" و"أمنيّ" في العملية الديمقراطيّة من ألفها إلى يائها، ومن بابها إلى محرابها، حتى وإن تواطأ الجميع في العلن على السكوت إزاء هذا الذي يعرفونه جيداً في قرارة أنفسهم، ويتهامسون به في جلساتهم وأحاديثهم الخاصّة. وتوظيف العمليّة الانتخابيّة كعامل فُرقة وتفريق وخلاف وإنقسام وإعادة التأكيد على استحكام "السلطة" وسطوتها.. لا كوسيلة لبناء الوحدة والإجماع المزعومَين و"تداول السلطة" المزعوم!

ومع هذا فإنّ موقفي من الانتخابات النيابيّة هذه المرّة ليس له أي علاقة من قريب أو بعيد بكلّ هذه التهويمات الفلسفيّة والفزلكات "الابستمولوجيّة" الصادرة عن شخص يحمل شهادة أكاديميّة "فرحان فيها"! بل هو نابع من اعتبارات واقعيّة وعمليّة وإجرائيّة بحتة ترتبط بالسياق الحالي.

فقناعتي الراسخة أنّ المنطقة كلّها (وربما العالم برمّته) بعد "طوفان الأقصى" هي غيرها قبل "طوفان الأقصى"، وبغض النظر عن مآل القتال ولمن ستميل الكفة والغَلَبَة في نهاية المطاف!

وعليه، فأنّنا بصدد تحوّلات كبرى تمسّ الدول والأنظمة والمجتمعات في صميمها وجوديّاً ووظيفيّاً، إن بهذا الاتجاه أو بهذا الاتجاه (وتدهشني هنا السهولة والاحتفائيّة التي يستخدم بها الغالبيّة كلمة تحوّل دون أن يدركوا ما تنطوي عليه من دلالات خطيرة)، وهذه التحوّلات أيّاً كان منحاها، لا بدّ وأن يتم تخريجها بمظهر التي تحظى بـ "قبول" و"إجماع" شعبيّين من أجل إسباغ "الشرعيّة" اللازمة عليها ولو ظاهريّاً.

نحن برأيي بصدد حالة تشبه إقرار "معاهدة وادي عربة" سنة 1994 لكن مضروبة في عشرة!

من هنا أرى سبب إصرار المرجعيّات الأردنيّة العليا على إجراء الانتخابات البرلمانيّة في هذا الظرف الحسّاس، وحثّ الجميع من أقصى "اليسار" إلى أقصى "اليمين" والمجتمع المدنيّ بكافة "ألوانه" على المشاركة فيها بحماس وفاعليّة، ومنحهم "تطمينات" بهذا الخصوص.. بما يتجاوز كثيراً مجرد الحرص على إمضاء "الاستحقاق الدستوريّ" في موعده (سيما وأنّ هناك حالات قد سبق تأجيله وتأخيره فيها)، أو الحرص على الديمقراطيّة والحريّة والفصل بين السلطات في الوقت الذي ما يزال فيه "قانون الدفاع" ساري المفعول على سبيل المثال، وفي وقت يشهد توسّعاً في سياسة التضييق والاعتقالات بسيف تشريعات فضفاضة مثل "قانون منع الجرائم" أو "قانون الجرائم الإلكترونيّة" التي لم نسمع للآن أنّها موضوعة على أجندة النظر والتعديل أو حتى الإلغاء أمام مجلس النواب المنتظر القادم!

ومن هنا يأتي تحفّظي وتردّدي الشخصيّ في المشاركة في الانتخابات الحاليّة؛ فكلما تأمّلتُ في الوجوه والأسماء أكثر، وكلما تأملتُ في الخريطة الانتخابيّة، زادت قناعتي أنّ "الطاقيّة" التي نحن مقبلون عليها أكبر من "راس" الأسماء المطروحة قديمها وحديثها، وبشقيّها الطبيعيّ والاعتباريّ.

بل إنّ "الطاقيّة" أكبر حتى من "راس" السلطة التنفيذيّة الحاليّة، والتي باتت في السنوات الأخيرة تتجاوز مجرد "الحكومة" و"ولايتها العامّة" المُفترضة، والتي تبدأ عندها العمليّة التشريعيّة باعتبارها المسؤولة عن إعداد مشاريع القوانين مشفوعةً بـ "أسبابها الموجِبة"، وإليها تؤول مسؤوليّة إنفاذ هذه القوانين وإمضائها بعد إقرارها.. هي وما سينبثق عنها من أنظمة وتعليمات ولوائح وإجراءات تقرّرها وتقرّها السلطة التنفيذيّة أيضاً.

قناعتي أنّ الأردن في هذه المرحلة الحسّاسة ليس بحاجة إلى انتخابات برلمانيّة بالضرورة، بل هو بحاجة إلى "حكومة إنقاذ وطنيّ" تضمّ شخصيّات وطنيّة حقيقيّة ذات وزن وباع ليست صنيعة دعايّة انتخابيّة وفضاء تواصليّ وعلاقات شخصيّة، قادرة بالتعاون مع القوّات المسلّحة والأجهزة الأمنيّة على الحفاظ على بوصلة الوطن في محيط مائج، وتحصين جبهتيه الداخليّة والخارجيّة، وإدارة دفته وسط الأحداث العاصفة، والوقوف في وجه التحدّيات المصيريّة التي تواجه الأردن والأردنيّين وفي مقدّمتها نوايا وأطماع عصابة الحرب الصهيونيّة غرب النهر، وهي الأطماع التي باتت مخطّطات مُعلنَة ومُمارسات عمليّة ملموسة على أرض الواقع!

قبل حوالي أسبوعين بادرني قريب شاب خلال إحدى المناسبات العائليّة بسؤال: لماذا لا تترشّح للانتخابات البرلمانيّة؟!

من ناحية شعرتُ بسرور وإطراء أنّ هناك إنسان واحد على الأقل يكنّ لي مثل هذا العشم والثقة.. لكن من ناحية أخرى هالني مقدار عدم إدراك الشباب حجم وأبعاد ما نحن مقبلين عليه، وهم الذين يُفترض أن يكونوا الشريحة الأساسيّة التي يُعوَّل عليها للانخراط والمشاركة في الحياة السياسيّة وبثّ الروح فيها في المرحلة المقبلة!

أيام قليلة تفصلنا عن يوم الاقتراع، وما زلتُ أخرجُ هائماً في الطرقات، أتأملُ اليافطات والوجوه، وأحاول إقناع نفسي بأن تستخير، فيستحوذ عليّ مثال "القبعة" و"الراس"، ولا أستطيع التفكير إلّا بالمقطع الشهير للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور: ".. فتحسّس رأسك.. فتحسّس رأسك"!