قضاؤنا .. نجيب الرشدان قبل النسيان
لتستعيد الاجيال ذاكرتها الوطنية وليترحم رجال العدالة على من رحلوا ولم يتركوا مالا ولا زرعوا ابناءهم في المناصب ولا مدوا اكفهم للاعطيات ولا تجرأ مسؤول او ثري على التوسط لديهم في مرفق العدالة ، حملوا ميزان العدالة وشمعة الحق بايديهم عبر قاعات المحاكم ومراجع الفقه لا عبر مؤتمرات السياحة والاعلام التي ينبغي أن ألا تقترب من ساحة العدالة فالتطور والانجاز يتحدث عن نفسه بنفسه ويلمسه رجال القانون بجناحيه ويسجله التاريخ ولا يحتاح الى دعم الجهات الدولية المانحة لان الدولة بكل مكوناتها ينبغي ان تكون عونا وسندا وحاميا لمرفق القضاء .
نستذكر اليوم واحدا من اعمدة القضاء الاردني .
ثلاثة وخمسون عاما من العمل في خدمة القضاء والعدالة .. وهذا أبسط ما يمكن قوله في المرحوم نجيب الرشدان الذي أبتدأ حياته العملية - بعد حصوله على ليسانس الحقوق من جامعة دمشق - كاتبا في محكمة بداية الكرك في العام 1936 الى أن أنهى حياته الوظيفية رئيسا لمحكمة التمييز ورئيسا للمجلس القضائي عام 1989 . لم يحصل المرحوم أبو محمد على لقب معالي وقد حصل ويحصل عليه شباب في مقتبل العمر بالكاد خرجوا من مرحلة المراهقة بجهد جهيد , ولم يحصل نجيب الرشدان على لقب باشا وقد حصد اللقب الاف الرجال في المملكة الفتية ,, بقي أسمه من العام 1936 وحتى انتقاله الى الرفيق الاعلى في العام ٢٠١٢ , ( القاضي نجيب بك الرشدان ) .. ليست المسألة مسألة القاب وانما مسألة أوزان , ومن يعرف نجيب الرشدان يدرك جيدا أن خمسين باشا وستمائة معالي - مع الاحترام للجميع – لن يكونوا بوزن نجيب الرشدان حتى لو أجتمعوا في كفة واحدة , ولا بوزن أي من رفاقه الاوائل علي مسمار وموسى الساكت وعبد الكريم معاذ وغيرهم كبار القضاة المتقاعدين الذين ما زالوا على قيد الحياة ومن قضوا الى رحمة الله وكنا نعرف أن بينهم من كان بالكاد يستطيع تدبير امر العلاج والدواء !! .
المسألة مسألة أوزان , فحين حمل رجال نعش نجيب الرشدان الى مثواه الاخير وجدوه خفيفا بعد أن أخذ المرض من جسده ما أخذ ولم يبق غير رقيق الجلد والعظم , ولكنهم كانوا يعرفون أنهم يحملون سفرا ضخما من تاريخ الاردن القضائي الى مكتبة التاريخ .. سفر تعجز عن كتابته الالقاب والنياشين.
كان قاضي الصلح حديث التعيين عنده قاض وقاضي التمييز قاض لا فرق بينهما في الاستقلال الدستوري والحصانة القضائية والاستقرار الوظيفي وكانت هيبته كرفاقه الذين سبقوه تفرض هالة من الحصانة الاضافية للقضاة الشباب في وجه اي تدخل في السلطة القضائية .
يالله كم هي أدارات الدولة وفية لتاريخ الكبار من أبناء الاردن فحين توفي الرشدان قدم نائب محافظ اربد العزاء باسم الدولة الاردنية .. المحافظ لم يكن موجودا – كما فهمنا – ورجال الدولة في السلطة كانوا متفرغين لمحاربة الفساد وتسليمه الى القضاء ,و هذه مهمة جليلة ولو قدر للرشدان أن يعود الى الحياة ساعة لأعذرهم عن المشاركة فالعدالة عنده أهم من التكريم وأهم من مشاعر العزاء والمواساة . وكم هي الدولة راشدة في الانفاق لدرجة أنها رفضت صرف بعض الادوية الضرورية لعلاج نجيب الرشدان في المستشفى قبيل وفاته !! .
خمس سنوات قضاها المرحوم الرشدان على فراش المرض الى حين وفاته ,ولم يزره مسؤول حكومي واحد للسؤال والاطمئنان , وقد طافوا جميعا رؤساء وزارات ووزراء على قدماء الفنانين بالتكريم والتوقير . وحين ذهبت في السبعينات لدراسة القانون كنت أعتقد أنني سأدرس القانون تلك الالة شجية العزف فاذا بي في كلية الحقوق أدرس علم القانون تذكرت ذلك الان وقلت ليتني درست العزف على ألة القانون لكنت أبدعت ووجدتني اليوم أحمل نياشين وجوائز تقديرية ويحظى بلقائي وزراء ورؤساء حكومات وصبايا حسناوات ويتسابق رؤساء العرب لعلاجي على حسابهم - دعاية جماهيرية - ..
الوفاء أيها السادة في هذا الزمن للرصيد البنكي وليس لرصيد العلم و الانجازات ولذلك خسر نجيب الرشدان معركة التنافس على تكريم - لم يطلبه – فقد تبين بعد وفاته أن رصيد حسابه في بنك الاردن فرع جبل الحسين ثلاثة وثمانون دينارا ونصف فقط لا غير ومع ذلك فنجيب الرشدان ملياردير لرصيده في تاريخ القضاء الاردني وعند رب العالمين .. وآه يا زمن