حين يضيق صدر القيادات الجامعية ويتسع صدر رجل الامن.


 أقود سيارتي منذ اكثر من عشرين عاما على طرق المملكة العديدة، ومنذ اكثر من عشرين عاما لم يحدث أن تم تسجيل مخالفة سير واحدة بحقي أو بحق مركبتي. يصل التزامي بقوانين السير مستوى غير مألوف في بلادنا ما يعرضني لضغط نفسي وتوتر من قبل من يصدف ويشاركني السير على الطريق واعتاد أن يتعامل بمنطق مختلف مع الطريق. وأعمل في التدريس الجامعي منذ اكثر من 25 عاما متنقلا بين جامعة اليرموك، والجامعة الاردنية، وجامعة العلوم والتكنولوجيا، ومعهد الاعلام الأردني، وجامعة بوردو الفرنسية. وعلى مدى كل هذه السنين الطويلة لم يحصل قط أن حصل ولو احتكاك صغير مع أي من طلبتي الذين عرفت كيف أبادلهم الاحترام كي يبادولنني أياه.

وبالتوازي، فإنني أكتب ومنذ سنين طويلة كباحث جامعي اكاديمي في مجلات علمية محكمة، كما وأكتب منذ سنين طويلة في الصحافة والمواقع الالكترونية داخل الاردن وخارجها. وعلى مدى كل هذه السنين كانت كتاباتي العلمية كما الصحافية دوما ذات طابع نقدي بل وذات نكهة أقرب للمعارضة السياسية منها للموالاة. وفي كثير من كتاباتي لامست موضوعات ينظر اليها حتى كثير من المعارضين الاردنيين على أنها سقوف خطرة، وخطوط حمراء لا يجب ملامستها أو حتى الاقتراب منها. كتبت عن قطاع الطاقة، والعلاقة مع الكيان، وأزمة الجامعات وغيرها. لامست موضوعات تعد تابوهات بالمعنى الاجتماعي والسياسي حيث كتبت ممجدا دولة المواطنة والمواطنين منتقدا ومهاجما دولة العصبيات والعشيرة والطائفة. والحال، أن أحدا لم ينتقد العشيرة من حيث هي تنظيم سياسي، واجتماعي، وقيمي كما فعلت أنا، دون أن أنزلق ولو للحظة لمنطق شتم أبناء العشيرة والعشائر. ثمة فارق هائل بين العشيرة من حيث هي تنظيم سياسي، وقيمي هو في جوهره معاد لمنطق الدولة والمواطنة، وبين العشيرة كبناء ينتمي اليه أفراد واعضاء تستحق كراماتهم كل الاحترام والتقدير.

وبالرغم من هذا السجل الطويل في الكتابة العلمية والصحافية، ثمة أمر تقتضي الامانة والنزاهة أن أسجله. وهو أنه وفي حين كان كثير من الاصدقاء والاهل يتواصلون كي يظهروا مشاعر القلق والخوف مما اكتب ومن السقوف التي يرونها عالية في كتاباتي، فأنني أقسم أنه لم يحصل قط أن قامت أي جهة في الدولة الاردنية باستدعائي أو التواصل ولو تلفونيا معي كي تبدي انزعاجها مما أكتب. ولم يحصل قط أن تعرضت لأي مضايقة من أي جهاز في أجهزة الامن بسبب ما أكتب. أعرف أن كثيرا مما أكتب لم يكن يروق لكثيرين في هذه الاجهزة، ولكن اقصى ما تناهى الى سمعي وأنا أصادف بعض القيادات التي تعمل في هذه الاجهزة أنهم يرون أنني لا أكتب مع السرب ومن داخله، بل أكتب وأغرد خارج السرب. أعرف أن الكتابة خارج السرب قد تكلف موقعا هنا، او كرسيا هناك، ولكني وبكل صدر رحب جاهز كي اتحمل هذه التكلفة. السماح لي بالكتابة وممارسة حقي في النقد والمعارضة أمر لطالما سجلته بعين التقدير والاحترام.

أسوق كل هذه التفاصيل في الشأن الخاص بي ليس من باب الترويج للانا، أو مدح الذات، بل أسوقها كي ألج من هذا الخاص إلى الشأن العام. وكي اتحدث عن الجامعات وعن بعض ما يجري فيها وهو كله على صلة بما سقته من وقائع في الشأن الخاص. ففي مقابل هذا الجو الاجتماعي والسياسي واستطرادا الامني الذي تمتعت فيه كتاباتي بنوع من التساهل ولن أقول التسامح، فإن الحال كان مختلفا، والصورة كانت مغايرة في الجامعات أو لنقل في بعضها حيث باتت بعض الجامعات أشبه بثكنات أمنية تشيع فيها أجواء المكارثية بل باتت تشبه اجواء الفضاء العام، والفضاء الجامعي الذي ساد في اميركا اللاتينية أثناء حقبة العسكر والانقلابات العسكرية حيث بات بعض القيادات الجامعية يتمثل الجامعة على هيئة فضاء أمني وثكنة امنية وعسكرية، وهو الحاكم والامر الناهي فيها غير مدرك أن الفضاء الجامعي يفقد اسمه وهويته باللحظة التي يفقد فيه صفته كمصنع حر للفكر والرأي والتعبير.

فقبل ما يزيد على الستة أعوام تمت ملاحقتي داخل الجامعة إثر مقالة كتبتها، كانت تتعلق بالشأن العام واذ أحرص بشدة على التمييز بين نقد السياسات والقرارات من جهة وبين ما ينتمي للشخص من مساحة شخصية واذ اصر دائما على محاكمة القرارات والسياسات لا الهويات الشخصية والدينية والعشائرية والعائلية لمن يتخذون القرارات. وأما المفارقة في ذلك، فهي أن إدارة الجامعة أو لنقل بعض الاصابع المشبوهة حينها قررت اتخاذ اجراء قانوني بحقي، ليس بسبب افتئات إداري ارتكبته، وليس لفساد مالي أو أخلاقي اقترفته. السبب كان مقالة، وكتابة عدد من الكلمات جادت بها القريحة. وعليه، فقد تحركت تلك الاصابع يومها وبسرعة بل وأثناء الليل، كي تتخذ قرارات بتشكيل لجنتي تحقيق لتحاسب من كتب. يومها، كان قراري حازما أنني ومهما كانت التكلفة المادية والمهنية فأنني سوف أستمر في المواجهة، ولن أمثل حتى أمام هاتين اللجنتين. وهو ما حصل بالفعل. وتم طي كتاب تشكيل هاتين اللجنتين.

وقبل سنين قليلة، عايشت لحظة بلحظة قيام نفس الاصابع المشبوهة بالنيل من قامة علمية كبيرة في كلية علمية هامة، سبق لها وان قررت وبعد أن شغلت واحدة من اهم الرتب في المؤسسة العسكرية الاردنية أن تأتي لتخدم بلدها من خلال عالم الجامعة والاكاديميا، فقررت هذه الاصابع وبأجرءات تمثل اقصى درجات العبث بالقانون، والعلم، والضمير أن توجه عقوبة له. ولكم أن تتخيلوا أي نوع من المشاعر المهينة التي يعيشها من كان يتولى وبأمانة مسؤولية قيادة الاف الجنود والرتب العسكرية حين تتم فبركة مكيدة قانونية له كي يتم توجيه انذار اكاديمي. احزم ان الوقع النفسي على الرجل كان مدمرا بالرغم من أن قرار الانذار تم سحبه والغاؤه لاحقا بعدما تبين بطلان أسبابه توجيهه، ولكن وللاسف دون معاقبة هذه الاصابع التي عبثت بالقانون كي تصنع مكيدة بحق هذه القامة العلمية والاكاديمية. ومرة أخرى، فان الرجل لم يعاقب لسرقة للمال العام أو لتعد على قوانين الجامعة، بل كان السبب هو أن الرجل يمارس في القول وفي التعبير ما لا يروق لبعض العناصر النافذة في الجامعة.

ومنذ سنين باتت الاخبار عن شكاوي المحاكم، ولجوء الناس للقضاء، كما باتت الاخبار تتواتر كثيرا عن تشكيل لجان تحقيق ومجالس تأديبية في الجامعة بما يشي بل ويقول صراحة أن ذات الاصابع ما زالت تتحرك، وبما يثير الكثير من الاسئلة حول المآلات التي آلت اليها بعض الجامعات وحيث بات رجل الامن والسياسة يتسامح في الحريات وفي حرية التعبير بأضعاف أضعاف ما باتت بعض الادارات الجامعية تتسامح معه. ففي بعض الجامعات باتت كلمة أو عبارة يتم نقلها ولو كذبا لرئيس الجامعة سببا كي تتحرك جيوش من المستشارين القانونيين، ومن اساتذة القانون في الكليات، ومن مدراء الدوائر القانونية وكي تعمل بسرعة بل وبتسرع من اجل ايقاع العقوبة والسبب دائما هو أن هامش التسامح مع يمكن أن ينسب لموظف من قول أو موقف تجاه عميده أو تجاه ادارة الجامعة تقرر ادارة الجامعة أن لا تتسامح معه.

وفي أحدى الحالات التي تمثل نموذجا صارخا على تحول بعض الجامعات إلى ثكنات أمنية يتم نقل أحدى المدرسات في كلية كبيرة بالرغم من سلسلة طويلة من كتب التقدير من رئيس الجامعة، ومن العميد ومن رئيسها المباشر أي رئيس القسم الاكاديمي، وبعد شهرين من قيام الجامعة بترقية المدرسة إداريا ومكافئتها ماليا، تفاجئ بقرار نقلها الى كلية لا يشتمل كادرها الوظيفي مطلقا على مسماها الوظيفي، وليتم أيكال أعمال ومهام بصورة شفوية حددها القانون لمن يشغل موقع سكرتيرة في هذه الجامعة. وأما تتمة القصة فكانت بتشكيل لجنة للتحقيق لم تستغرق سوى أيام كي تتشكل، وكي تنعقد، وكي تضع تقريرها، وكي تبعث توصية للرئيس، وكي يقرر الرئيس تحويل المدرسة للمجلس التأديبي، وكيف يباشر المجلس التأديبي جلساته، كل ذلك حصل في مدة لا تتجاوز الاسابيع الثلاث او الاربعة. وفي كل تلك الاجراءات لم تمنح المدرسة ولو عشر الحصانات القانونية التي يمنحها القضاء الاردني لمن يتهمون حتى في جرائم وجنايات لا يمكن مقارنتها مطلقا بالتهمة السمجة الموجهة لهذه المدرسة.

العقلية الامنية التي باتت تتحكم ببعض رؤساء الجامعات، كما تنفذ بعض العناصر المثيرة للجدل داخل الادارات العليا في بعض الجامعات، مضافا اليه الكيفية التي يتم بها استخدام الاليات العقابية من لجان تحقيق، ومجالس تأديبية وقرارات للرئيس بناء على توصياتها قد تصل حد فصل الموظف، أو تهديده بلقمة عيشه دون مراعاة ادنى الضوابط القانونية التي يصر عليها القضاء الاردني، تجعل الجامعات تتحول إلى جهاز قضائي عقابي ولكن دون مراعاة الضوابط التي تصر عليها المنظومة القضائية في الاردن، سواء فيما يتعلق بعقلنة نوع القضايا التي يحق للقضاء النظر بها، أو ما يتعلق بمبدأ التناسبية بين الجرم المرتكب ونوع العقوبة المقررة، أو ما يتعلق بحق من صدر بحقه حكم اللجوء لمستويات أعلى في القضاء من استئناف وتمييز، كل ذلك يخلق أسئلة مقلقة حول ما يجري في الجامعات، وحول الاليات التي تستخدمها هذه الجامعات في ممارسة حقها وواجبها في ضبط جهازها الاداري والاكاديمي والطلابي.

ثمة اسئلة كثيرة عن تلك العدالة التي باتت تتكرس في بعض الفضاءات الجامعية وحيث كان ينتظر الناس في بعضها مثلا قرارات من رئاسة الجامعة تتعلق بقضايا وملفات مالية أثارت الكثير من اللغط حولها، كما حول ترقيات أكاديمية بالجملة جرت في كلية كبيرة تم بث الكثير من الوقائع حول وجود سرقات علمية كبيرة تم ارتكابها، كما حول تعيينات جرت في سنوات سابقة خارج نظام الكارت تسبب بملايين الدنانير من الهدر، كما تعيينات لعشرات بل مئات من اعضاء هيئة التدريس دون وجود عبء تدريسي مقنع يبرر تعيينهم، ليفاجأ العاملون في تلك الفضاءات بأن أي من هذه الملفات لم تتشكل له لجنة تحقيق أو حتى تحقق بل يتم تشكيل لجنة تحقيق ويتم ايقاع العقوبة على مقالة نشرت أو على اعتراض قانوني مارسه موظف محترم ضد قرار نقله تعسفيا.

وما يجري في بعض الجامعات على صعيد كثرة القضايا التي تخرج منها باتجاه القضاء الاردني، او على صعيد كثرة لجان التحقيق وكثرة انعقاد المجالس التأديبية في بعضها، بات يطرح أسئلة كثيرة، ويكشف عن أزمة عميقة تعيشها الجامعات كمؤسسات أكاديمية، وكمؤسسات تمثل مصانع للعلم وللقانون والعدالة في أي بلد. فلا يعقل أن يحترم القضاة الذي درسوا القضاء في الجامعات الاردنية مبادئ العدالة من خلال احترام قواعد العدالة واجراءاتها أكثر من احترام بعض الجامعات لهذه القواعد التي سبق وعلمتها لهؤلاء القضاة.

ما يجري في الجامعات يجب أن يعيد النقاش أيضا ليسلط الضوء تلك الاشكالية المتعلقة بعدم تمييز صانع القرار في الجامعات كما في معظم مؤسسات الدولة بين تلك المساحة العمومية في شخصه القابلة للنقد والمحاكمة من قبل مرؤسيه وموظيفه، وبين تلك المساحة الخاصة التي تعود له ولعائلته وبيته ولا يحق الاقتراب منها. من يشغل موقعا عاما وتمتع بشرف صدور إرادة ملكية سامية باسمه، فهو بالضرورة بات يشتمل على مساحتين؛ خاصة يحرم الاقتراب منها ويحق لمعاليه أو عطوفته أن يلجأ للقضاء أو أن يشكل المجالس التأدييبية كي يعاقب على جرم الاقتراب منها، وعامة يضمن الدستور والقانون لكل مواطن أن يقترب منها وأن يحاكمها بل ويهاجمها.

لقد بات من الضروري النظر في إمكانية عقد دورات تدريبية لشاغلي المواقع العامة كي يدركوا معنى التحول الذي طرأ على شخصهم يوم صدور الارادة الملكية بتعييينهم كي يتحولوا ألى موظفين عموميين، أو أن يتم تضمين بنود في عقود عملهم تنص على ضرورة تمييزهم بين تلك المساحتين في شخص كل واحد منهم، وعلى ضرورة احترام حق الناس في نقد تلك المساحة دون أن يقوموا بتحويل اولئك الناس الى خصوم واعداء وليلاحقوا فيما بعد برزقهم وبكراماتهم.

لن أبالغ مطلقا إذا قلت انه حينما تضرب العدالة في الجامعات فإن أسس صناعة الدولة والمجتمع تكون قد ضربت. ففي الجامعة فقط باتت تصنع الامم، وبات يصنع مجدها، وباتت تصنع العروش والممالك بعد قرون طويلة كان السيف والبأس والقوة ، هي من تصنع العروش والممالك. ففي عصر الحداثة استبدلت حركة التاريخ نبالة السيف كصانع للامم وللامبراطوريات ولحدودها كي تحل مكانها نبالة الروب أو الثوب الجامعي الذي بات هو من يحدد نشوء الدول وحدود قوتها. إذا ماتت الجامعة وماتت العدالة فيها ماتت الامة وماتت الدولة.