نزوح الصحافيين في غزة: أن تحمل معدّاتك وتمشي




تسيطر حالة من البؤس والإرهاق الشديدين على الصحافيين في غزة نتيجة تكرار التنقل القسري في ظل التهديدات الإسرائيلية المتواصلة لمختلف مناطق القطاع، خصوصاً أن قسماً من المناطق التي يطلب الاحتلال إخلاءها تضم خياماً للصحافيين ووسائل الإعلام المحلية والدولية.

وتحدِث أوامر الإخلاء القسري التي يتبعها الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء عدوانه في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي حالة من التشتت والإرباك لدى الصحافيين في غزة ووسائل الاعلام المختلفة في القطاع، جراء صعوبة التحرك في ظل نقص الإمكانيات والموارد، إلى جانب صعوبة نقل الكاميرات، وأجهزة البث، وأجهزة الكمبيوتر، وشبكات الإنترنت، والمعدات الكبيرة والثقيلة بمختلف محتوياتها.

وإلى جانب التحديات التقنية المتمثلة في صعوبة نقل المعدات والأسلاك المتداخلة مع الحرص على عدم إتلافها لعدم وجود بدائل أو قطع غيار، يبرز تحدي فك وتركيب الخيام الخشبية والبلاستيكية المتهالكة أصلاً جراء طول أمد العدوان الإسرائيلي، وعمليات التنقل المتكررة، إلى جانب التحدي الأكبر، وهو إيجاد وجهة جديدة لمكان يمكنه استيعاب تلك الأجهزة والمعدات، مع ضمان سير التغطية الإعلامية ومواكبة الأحداث المتلاحقة على مدار اليوم.

وتتزامن معاناة الصحافيين في النزوح القسري المتواصل خلال تغطيتهم الميدانية، مع مجموعة أزمات إضافية تتمثل في الجانب العائلي وإمكانية نقل الأهل إلى أماكن آمنة، مع توفير متطلبات الحياة الأساسية، ومعها التحديات المهنية المتعلقة بالانقطاع التام في التيار الكهربائي والضعف الشديد في شبكات الاتصال والإنترنت ونفاد الوقود الذي من شأنه تحريك العربات نحو أماكن الأحداث، وتوفير الطاقة البديلة التي يمكنها المساعدة في إنجاز المهام المطلوبة، علاوة على التحدي الأبرز والمتمثل في الاستهداف المباشر للصحافيين، والذي سبّب استشهاد 173 صحافياً على مدار 11 شهراً.

مراسل التلفزيون العربي عبد الله مقداد يوضح أن عملية التنقل القسري بدأت منذ منتصف شهر أكتوبر الماضي، الذي شهد بداية العدوان على قطاع غزة، إذ طلب الاحتلال الإسرائيلي من الفلسطينيين في محافظتي غزة والشمال التوجه جنوب وادي غزة، نحو المحافظات الوسطى والجنوبية للقطاع.

ويقول مقداد "كنا من أوائل الناس الذين اضطروا إلى اتخاذ قرار النزوح، على الرغم من صعوبته البالغة، نتيجة التعقيدات في نقل الفريق واللوجستيات والمعدات، وهي تجربة شاقة ومتعبة للغاية، فيما تزداد صعوبتها مع كل عملية نزوح، على الرغم من التنسيق العالي بيننا بوصفنا مراسلين والحرص الشديد على عدم وجود أية ثغرات".

ويوضح مقداد لـ "العربي الجديد" صعوبة العمل الميداني داخل المستشفيات وأماكن النزوح غير المهيأة للعمل ومواصلة التغطية بأريحية في ظل حالة التشتت والنوم في السيارة والنقص الشديد في مختلف مقومات الحياة الأساسية، إلى جانب ضعف الإمكانيات وفقدان اللوجستيات ورداءة الاتصال والإنترنت. ويلفت مقداد إلى أن التهديد الإسرائيلي الأخير، والمتمثل في إخلاء مستشفى شهداء الأقصى التي كانت تبث منها القناة، خلق معضلة حقيقية جراء عدم وجود مكان بديل، بسبب تكدس معظم الأماكن بالنازحين، مضيفاً "إلا أننا ما زلنا نحاول الاجتهاد لمواكبة التغطية الميدانية وفضح الممارسات الإسرائيلية بحق المدنيين".

من جهته يقول مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة هشام زقوت إن الأوضاع تزداد صعوبة سواء على الصحافيين أو النازحين الفلسطينيين الذين أجبرهم الاحتلال الإسرائيلي على التنقل القسري والنزوح والتشرد أكثر من عشر مرات، لافتاً إلى أن تكرار عمليات النزوح وسط انعدام الأماكن بات يدفع العديد من الصحافيين في غزة إلى إقامة الخيام على مفترقات الطرق وبوابات المستشفيات الخارجية.

ويتابع "في الكثير من الأحيان لا نتمكن من أخذ أغراضنا ما يخلق حالة من التشتت ويعقد عملية النزوح المعقدة أصلاً، خاصة في ظل القصف المتواصل الذي بات يستهدف كل شيء، ولا يستثني أماكن تجمع الصحافيين في غزة ومحطات نزوحهم الجديدة، فيما تشكل عمليات الإخلاء والنزوح هاجس فقدان الخيام لعدم وجود البدائل، حيث يمنع الاحتلال الإسرائيلي إدخالها منذ سيطرته على معبر رفح مطلع شهر مايو/ أيار الماضي".

ويلفت زقوت لـ "العربي الجديد" إلى أن الصحافيين في غزة لم يسلموا من القصف الإسرائيلي المتواصل، حيث يلاحق الصحافي ويستهدف ويقصف كما حدث مع زميله إسماعيل الغول، مشدداً على أن كل الممارسات الإسرائيلية تهدف إلى الضغط على الفلسطينيين ومن بينهم الصحافيون الذين يعانون نقص الإمكانيات ومعدات السلامة.

ويصف زقوت معاناته وفريق القناة مع التنقل القسري قائلاً "نزحنا من غزة إلى دير البلح ومن ثم إلى خانيونس وبعدها إلى مدينة رفح، ثمّ عدنا إلى خانيونس المدمرة التي لا نجد فيها الماء أو الكهرباء أو الصرف الصحي أو مواد التنظيف، وما زالت حركة نزوحنا متواصلة وسط واقع صعب لا يمكن وصفه بكل الكلمات بفعل تواصل الحرب المدمرة التي تبيد كل شيء".

وتتضاعف المعاناة لدى الصحافيات الفلسطينيات عند كل تهديد إسرائيلي بالإخلاء والنزوح، الأمر الذي يزيد من حالة إرباكهن على المستويين الأسري والمهني. وتوضح مراسلة تلفزيون سوريا شروق شاهين أن حياة النزوح والتنقل القسري وسط انعدام أدنى درجات الخصوصية أوصلها إلى مرحلة الإرهاق والتعب النفسي والإرباك والاستنزاف وفقدان الطاقة "بشكل لا يمكن أن يتحمله مخلوق على وجه الأرض".

 
الصحافيون في غزة... شهادات تحت النار
وتلفت شاهين التي بدا صوتها مخنوقاً وهي تتحدث لـ"العربي الجديد" إلى أنها ما زالت تواصل التغطية من داخل مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة على الرغم من التهديد بالإخلاء، وذلك لعدم وجود أماكن بديلة، وتقول "أشعر بالرعب الحقيقي وأتخيل طوال الوقت أنه سيتم استهدافنا، الخطر يحيط بنا من كل جانب، مع انعدام كل وسائل الأمان والراحة والاستقرار، بفعل أوامر الإخلاء لكل منطقة، مع بدء التأقلم التدريجي".

وتتابع بعد تنهيدة طويلة "ما زلنا نبحث عن مكان بديل لمواصلة التغطية منذ أيام، كغيرنا من المواطنين الذين يراودهم سؤال (وين بدنا نروح) إلا أننا لم نتمكن بفعل انعدام الأماكن جراء الاكتظاظ الشديد بالنازحين"، موضحة أن الخيار الوحيد المتبقي هو مستشفى ناصر الطبي، فيما تعتبر مدينة خانيونس التي تضمّ "منطقة منكوبة" تفتقر إلى وجود أدنى مقومات الحياة، وعلى الرغم من ذلك فهي تعاني أيضاً اكتظاظاً شديداً جراء انعدام البدائل أمام المواطنين والصحافيين ووسائل الإعلام.

وتشدد شاهين على ضرورة وجود مكان أو مخيم خاص بالصحافيين يمكنهم من العمل والمبيت، حيث تتطلب التغطية المتواصلة البقاء على أهبة الاستعداد طوال الوقت، فيما تشهد الطرق حالة صعبة جداً في التنقل بسبب الاكتظاظ الشديد، إلى جانب النقص الحاد في وسائل النقل والمواصلات الأمر الذي يستغرق نحو أربع ساعات ذهاباً وإياباً. وتضيف: "لا صحافيين في العالم يعيشون الظروف نفسها التي نعيشها، في ظل حياة النزوح المتواصل، المترافقة مع انعدام الأفق والنقص الشديد في كل مقومات الحياة، إلى جانب الخوف على الأهل والخوف على الذات والخوف على المعدات والأجهزة".