بيجرات حزب الله: مجنون يحكي وعاقل يسمع!
الرواية الأوليّة التي عمد الإعلام على تناقلها وترسيخها حول الخرق الأمنيّ لشبكة اتصالات "حزب الله" هو أنّه قد تمّ تسخين بطاريات الليثيوم لأجهزة البيجر التي يستخدمها عناصر الحزب عبر تطبيقات خبيثة، وباستخدام تقنيّات فائقة، مما أدى إلى انفجار هذه الأجهزة بشكل متزامن وإلحاق إصابات بالغة بحامليها وصلت حدّ الوفاة.
هذه الرواية التي قد تبدو منطقيّةً و"عِلميّةً" للوهلة الأولى هي فعليّاً على طريقة التعبير الشعبي: "مجنون يحكي وعاقل يسمع"!
فإذا كانت بطارية الليثيوم التي تشغّل أجهزة الاتصال الحديثة كالهواتف الخلويّة وأجهزة البيجر موضوع الحديث هنا تنضوي من حيث المبدأ على كلّ هذه الطاقة الانفجاريّة، بغض النظر عن كيفيّة حدوث أو تفعيل هذا التفجير، فنحن هنا أمام خرق أمنيّ على مستوى العالم كلّه، بمعنى، كلّ جهاز اتصال في العالم هو عمليّاً بمثابة قنبلة موقوتة جاهزة للتفجير في أي لحظة، سواء لعطل فنيّ عارض أو من قِبَل أولئك الذين يمتلكون "التقنيات الفائقة" اللازمة!
سبق وأن سمعنا عن إصابات لحقتْ بأشخاص جرّاء انفجار بطاريات الليثيوم للأجهزة الخلويّة التي يستخدمونها، وسبق أن سمعنا تحذيرات لتقنيّين وخبراء سلامة بهذا الخصوص، وسبق أن شاهدنا فيديوهات تصوّر مثل هذه الحوادث.. لكن الإصابات والحروق التي سبق لنا وأن شاهدناها لا توازي خطورة وفداحة الإصابات الناجمة عن انفجار أجهزة "حزب الله" وفق التقارير الواردة ووفق ما تظهره بعض مقاطع الفيديو المسرّبة!
هل بطاريات أجهزة حزب الله "غير"؟! أم أنّ الذي انفجر داخل هذه الأجهزة هو شيء "غير"، أي جسم أو شريحة أو شحنة ما غير بطارية الجهاز؟!
نفس التساؤلات يثيرها الحديث عن الاستعانة ببرمجيات خبيثة في عملية تفعيل الانفجار، أو "تسخين البطاريّات" وفق الرواية المتداولة.
من أين أتت هذه البرمجيّات؟ فبحسب المتداوَل أنّ السبب الرئيسي لاستخدام "حزب الله" أجهزة البيجر هو أنّها غير مرتبطة بشبكة الانترنت، وبالتالي لا يمكن اختراقها أو قرصنتها أو تنزيل برمجيّات خبيثة عليها خلسة!
هل هناك مثلاً "تقنيات فائقة" تتيح نقل وتنزيل البرمجيّات الخبيثة عبر إشارات اللاسلكي على أجهزة البيجر من دون الحاجة للربط على شبكة الإنترنت؟ أم أنّ هذه الأجهزة التي وُصفت بأنّها "الأحدث" قد أدخلت ضمن مواصفاتها خيار الشبك على الإنترنت وهنا كان مقتلها؟ أم أنّ البرمجيات الخبيثة التي استُخدمت لتفعيل التفجير قد كانت محمّلة أساساً على الأجهزة؟!
الأسئلة أعلاه تقود إلى أنّ التفسير الأكثر منطقيّةً وعلميّةً لما حدث، وبعيداً عن افتتان البعض بروايات الخيال العلميّ أو رغبته بتصديق الهالة الهوليووديّة التي يحاول العدو أن يضفيها على إمكاناته وقدراته، هو أنّ الأجهزة المعنيّة كانت تحمل شحنةً متفجّرة من نوع ما يمكن تفجيرها بكود أو شيفرة معيّنة عن بُعد.
أي أنّنا هنا لا نتحدث عن "تقنيّة فائقة"، بل هي تقنيّة عاديّة ومعروفة ومُستخدمة.. وإنما نتحدث عن "خرق أمنيّ" فائق!
و"الخرق الأمنيّ" هنا خرقان: الأول اختراق لـ "مصدر" الأجهزة الملغومة، سواء عند توريد "مُدخلات الإنتاج"، أو أثناء عملية التصنيع، أو أثناء عملية توريد الأجهزة وشحنها وإيصالها إلى وجهتها النهائيّة.
والخرق الثاني هو عند استلام هذه الأجهزة من قِبَل المعنيّين في "حزب الله"، والإجراءات و"البروتوكولات" الاحترازيّة المُفترضة التي تم القيام بها للتأكّد من سلامتها ومطابقتها و"أمانها" بالمعنى التقنيّ والاستخباراتيّ لكلمة أمان!
الخرق الأول، أي خرق المصدر، لا يمكن تفسيره إلّا بوجود "خيانة" أو "عمالة" بشريّة ما في مرحلة ما!
أمّا الخرق الثاني فهناك أكثر من احتمال لتفسيره: فهناك احتمال الخيانة والعمالة من الداخل وهو أمر مستبعد في حالة "حزب الله"، وهناك احتمال الإهمال وهو أيضاً خيار مستبعد في حالة "حزب الله"، وهناك احتمال أنّ فحص الأجهزة وكشف التلاعب الحاصل فيها هي مسألة تستدعي امتلاك قدرات فنيّة تفوق قدرات "حزب الله"، وهذا خيار ممكن وإن كان غير مرجّح هو الآخر.. والاحتمال الأخير أنّ ثقة حزب الله "العمياء" بالأجهزة المورّدة إليه مردّها أنّ هذه الأجهزة قد جاءت إليه من مصدر "موثوق" أو يُفترض أنّه موثوق على طريقة "مِن مأمنه يُؤتَى الحَذِر"!
المسألة الأخرى التي تستدعي التوقّف والتساؤل في هذا الحدث الأمنيّ والعمليّاتيّ الصعب هو التوقيت: لماذا اختار العدو الصهيونيّ هذا التوقيت بالذات لاستخدام هذه الورقة وفضح امتلاكه إمكانيّة الاستهداف الواسع لعناصر "حزب الله" بهذه الطريقة؟
هل هذا تمهيد لبدء الحرب على لبنان أو شنّ عمليّة واسعة في الجنوب اللبنانيّ، سيما وأنّ عصابة الحرب الصهيونيّة وأبواقها الإعلاميّة قد كثّفت من نفخها في هذا البوق خلال الأسبوعين الأخيرين؟!
أم أنّ الهدف هو إحداث نوع من الإرباك والبلبلة والقلق داخل صفوف "حزب الله" تثنيه عن المبادرة لشن هجوم من طرفه، وتجعله ينزع إلى التهدئة وتلافي التصعيد كي يتمكن من احتواء وقع الصدمة ولملمة جراحاته وتدارك خساراته ومراجعة حساباته؟!
أم أنّ الهدف على النقيض تماماً، أي دفع "حزب الله" لأن يبدأ الحرب من طرفه كي يثبتَ أنّه ما يزال قويّاً ومعافى ويحتفظ بقوّة شكيمته.. وبالتالي تحقيق رغبة "نتنياهو" وعصابة حربه التي طالما سعوا إليها طوال الأشهر الماضية وهي جرّ الجميع بما فيهم الحليف الأمريكيّ و"الأصدقاء في المنطقة" إلى حرب إقليميّة شاملة؟!
الإجابة على بعض الأسئلة أعلاه هي رهن بتحديثات وتطوّرات الساعات المقبلة، ومنها ما قد تحتاج إلى مدة من الزمن قبل الإجابة عليها، ومنها التي ربما لن نعرف إجابتها إطلاقاً!
لكن الشيء المؤكّد الذي تشي به مثل هذه العمليات، ومثل هذه الخروقات الأمنيّة، أنّ المسألة لم تكن يوماً مسألة فارق إمكانيّات، أو مسألة تكنولوجيا وتقنيات فائقة.. بل هي مسألة "عنصر بشريّ"، وأمانة مقابل خيانة، وإخلاص مقابل عمالة، وكفاءة وأخذ بالأسباب مقابل ترهل وتواكل.. وهنا يجب أن يكون مكمن السؤال، وهنا ينبغي أن يكون البحث!
وفي المقابل، فإنّ مثل هذا العمليات والخروقات الأمنيّة تعيد التأكيد على أحد معالم عبقريّة "طوفان الأقصى"، وهو تركيزه على العنصر البشريّ وتعويله عليه في المقام الأول، وتنظيف البيت الداخليّ (وإلى حدّ كبير الحاضنة الشعبيّة) من الخونة والعملاء والجواسيس والمندسّين والرخوين، وهو ما مكّن المقاومة الفلسطينيّة من إبداء كلّ هذا الصمود والإتيان بكلّ هذه البطولات لغاية الآن برغم الفرق الهائل في الإمكانيّات من الناحية التقنيّة والتكنولوجيّة!
بالعودة إلى الخرق الأمنيّ الذي تعرّض له "حزب الله"، فإنّ الإنصاف يقتضي التنويه إلى أنّ مثل هذه الخروقات أكبر من أن يتم تنفيذها على يد فرد أو اثنين أو مجموعة من الأفراد، بل إنّها تستدعي ضلوع وتواطؤ أجهزة استخباراتيّة ودول بأكملها.
ومن ناحيتي أستطيع مثل أي شخص آخر أن أخرج باستنتاجاتي الخاصّة إزاء مَن هو "العميل المزدوج" الذي خان، وعند أي نقطة، ومَن الذي ساعده عمليّاً ولوجستيّاً على الأرض، ومَن الذي أغراه وأغواه وكان بريد الشيطان بينه وبين العدو.. لكنّني سأحجم عن ذكر استنتاجاتي هذه لأنّها أولاً وأخيراً لن تعدوا عن كونها "رجماً بالغيب".. ولأنّ هول ما حدث لا يحتمل المزيد من الإشاعات والبلبلات وصبّ الزيت على النار أو المزاودة.. ولأنّ، وهو الأهم، العبرة مما حدث هي أهم كثيراً من تفاصيل وحيثيات ما حدث نفسه!