في ذكرى وفاته.. سان جون بيرس شاعر البحر والملحمة
تمر اليوم ذكرى وفاة الأديب والدبلوماسي الفرنسي سان جون بيرس الذي رحل في عام 1975، بعد أن ترك بصمة خالدة في مجال الشعر، استحق بسببها نيل جائزة نوبل في الأدب عام 1960، وتميزت مؤلفاته الشعرية بصورها القوية والمعبرة التي عكست ظروف الحياة في عصره.
ولد سان جون بيرس في 31 مايو(أيار) 1887 بجزر جوادلوب الواقعة في البحر الكاريبي بين قارتي أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، فلم ينشأ في وطنه الأم فرنسا، وإنما في إحدى مستعمراتها، وفي سنة 1899 وهو في الثانية عشر من عمره غادر مسقط رأسه، باتجاه وطنه الأم، ولكنه لم ينفصل عن المكان الذي تفتحت به عيناه على الحياة، وتشكل وعيه بالعالم وبالأشياء.
وعندما أنهى الشاعر دراسته الثانوية وحصل على شهادة البكالوريا 1904، في تلك السنة تحديداً بدأ في كتابة قصيدته "صُور إلى كروزو"، وهي قصيدة استلهم فيها مناخات رواية الإنجليزي دانيل ديفو "حياة روبنسون كروزو ومغامراته العجيبة المفاجئة" وأثناء هذه القصيدة يتخيل بيرس أن بطل الرواية الشهير، عاد من جزيرته إلى عالم المدينة والحضارة ويطرح أسئلته عن الكون.
ثم درس سان جون بيرس علوم الأنثروبولوجيا والأساطير والملاحم إلى جانب دراسته للحقوق، ولكنه توقف عن الدراسة على أثر وفاة والده (1907) واضطر إلى رعاية شؤون عائلته، وكتب بيرس مجموعة قصائد تحت عنوان "احتفاء بطفولة، ومدائح، وقصائد أخرى" (1910)، كما تقدم لإجراء مناظرة أتاحت له الالتحاق بالدبلوماسية الفرنسية التي شكل دخوله إليها منعرجاً طبع حياته وشعره.
وعمل في وزارة الخارجية الفرنسية، بالسلك الدبلوماسي ومكث 5 سنوات في الصين، بين عامي 1916و 1921، عاد عقبها إلى باريس، وأمضى عقدين من الزمن، العشرينات والثلاثينات، من القرن الماضي، حيث تدرج في عمله الدبلوماسي حتى أصبح أميناً عاماً في وزارة الخارجية، ولكن مواقفه من سياسة النازيين في ألمانيا، تسببت بوقفه عن العمل، فغادر بلده فرنسا راحلاً إلى إنجلترا ثم كندا ثم أمريكا، وهناك عمل مستشاراً في مجال الشعر الفرنسي في مكتبة الكونغرس وبقي فيها حتى عام 1959.
وفي أمريكا كتب سان جون بيرس أروع نصوصه "منفى" (عام 1941) و"أمطار" (عام 1942) و"قصيدة للغريبة" (عام 1943) و"ثلوج" (عام 1944) و"رياح" (عام 1946)، متنقلا بين كارولينا الجنوبية وتكساس وأريزونا.
حضر البحر بجلاله وعظمته في معظم قصائد سان جون بيرس، وأحاط بها من كل جهة، كما سكنها الرعد والصواعق، وظهرت فيها عناصر الطبيعة، أما النفس الإنسانية فقد برزت في شعره بين التسامي الملحمي الخالد، والسقوط الدرامي المفجع، وكما يقول الشاعر والناقد التونسي علي اللواتي- "كمعْلم متفرد منعزل عن التقاليد الشعرية الحديثة، يلفه ضباب من الغموض وتزداد كثافته كلما اختلفت حوله التفسيرات والتأويلات، مما دعا أغلب النقاد إلى الاعتقاد بانعدام السبب بينه وبين الإبداع الشعري في الغرب، معتبرين أنه خلقا آخراً وظاهرة بلا أصول ولا روابط، ومن الواضح أن سمات شعر بيرس مهدت له الطريق إلى نوبل (عام 1960) وجعلت المترجمين يقبلون على نصوصه.
ورغم صعوبة ترجمة أشعاره، إلا أنها نُقلت إلى سائر اللغات الأوروبية كالإنجليزية والإيطالية والإسبانية والألمانية والسويدية، نقلاً لم يكتف فيه المترجمون بالنص في ذاته، بل أضافوا شروح تيسر قراءته وفهم أبعاده، دلالاته.
ويبدو أن بيرس بمنجزه الشعري، جاء ليحرك السواكن، لا سواكن المترجمين والنقاد ودارسي الأدب في الجامعات عبر العالم فقط، بل سواكن القراء أياً تكن اللغة التي يطالعون فيها نصوصه.