جلبة حول المنهاج تذكر بوريقات الشجر التي حجبت الغابة!
"المدرسة مدرسة الدولة، حيث تجعل الشباب مخلوقات الدولة، اي لا شي سوى أبالسة الدولة. عندما دخلت المدرسة دخلت الدولة؛ لقد جعلتني المدرسة مطواعا الى الدولة، وصيرتني رجلا لابسا للدولة، رجلا منتظما ومنضبطا ومروضا وحامل شهادة وشاذا وكئيبا مثل جميع الاخرين. فعندما نشاهد رجالا، لا نشاهد الا رجالا تتلبسهم الدولة؛ خدم دولة يخدمونها منذ ولادتهم وبما يخالف الفطرة والطبيعة" انتهي الاقتباس من نص لتوماس برنارد.
منذ أيام يتصدر اسم أم كلثوم، واسم سميرة توفيق صفحات الميديا، واستحال الى ترند بلغة هذه الايام. والسبب هو اشتمال نصوص في المنهاج الدراسي على صور، وعلى مادة تعليمية يرد فيها اسم أم كلثوم وسميرة توفيق. وأعترف أن النقاش أو السجال بدا لي على المستوى النفسي مؤذيا، وأثار في نفسي الحزن. ومرد هذا الشعور الحزين أسباب عدة؛ ففي النقاش الذي جرى كان هناك ما يشبه التحقير الشخصي بإسمين ينتميان لعالم الفن والموسيقى، كما كان هناك تحقير بتراثهما الموسيقيي والفني والحضاري، ما يستبطن في النهاية احتقارا لفكرة، الفن والموسيقى، في حياة الأمم والشعوب.
أعترف أنني من المأخوذين ليس بتراث أم كلثوم الموسيقى والفني فقط، ولكني مأخوذ أيضا بالكيفية التي أحدثت بها أم كلثوم تحولات عميقة في حياة الشعب المصري وفي ثقافة المدينة المصرية عموماـ وهي جوانب قلما جرى الانتباه لها. فقبل أم كلثوم كانت الموسيقى تعني في حياة كثير من المصريين اللهو والعبث والمجون بل والسكر والعربدة. ولانها كذلك، فمن كان يريد سماع الموسيقى كان يذهب وحيدا او مع شلة الاصدقاء و"الانس" الى الحانات التي كانت المكان المرتبط بسماع الموسيقى وعزفها، والذهاب كان يجري خلسة. وبفضل جهد أم كلثوم وعبقريتها صار سماع الموسيقى طقسا جماعيا في حياة المصريين بل والعرب. وصار الذهاب الى سماع الموسيقى طقسا جماعيا واجتماعيا علنيا في حياة الامة المصرية، والمدينة المصرية. فمع ام كلثوم وبفضلها، صار الذهاب الى حفل موسيقى مصدرا حتى للهيبة والفخر الاجتماعيين، وبعد أن كان المصري يذهب خلسة وفي الخفاء لسماع الموسيقى، صار سماع الموسيقى علنيا وجماعيا، يذهب المصري اليه ليس برفقة الانس، وانما مع زوجته واهل بيته.
لم تُحدث أم كلثوم هذا التحول في حياة المصريين بدلعها وببيع صورة جسدها، بل كان هذا التحول نتيجة جهد في انتقاء نصوص أغانيها. فاستبدلت كلمات الاغنية من كلمات سوقية وحسية مثيرة للشهوات، بنصوص أحمد شوقي التي تتغنى مثلا بالرسول الكريم، وبنصوص ابراهيم الناجي واحمد رامي. واختارت من الملحنيين من نقلوا الموسيقى من جو المجون والحسية والشهوانية إلى جو الشاعرية والرومانسية بل والصوفية. من يسمع الاطلال والقلب يعشق كل جميل، والثلاثية المقدسة لام كلثوم يعرف جوّ الصوفية التي بثتها اغاني أم كلثوم. وكي تكتمل عبقرية فعلها، فقد بلغ عدد بروفات احدى أغانيها أربعا وعشرين بروفة. ولكم ان تتخيلوا عدد الايام والساعات وحجم جهد الملحن والموسيقيين وجهد ام كلثوم نفسها كي تخرج الاغنية في النهاية للجمهور، وهو ما يفسر سبب خلود موسيقى أم كلثوم. بالنسبة لي لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة أو مغنية، غنت للحب والحبيب، كما غنت للوطن وللعرب ولفلسطين ولبيسان التي انظر أليها كثيرا وانا اجلس في مكاني المفضل في سهول أم قيس. ام كلثوم فوق كل هذا هي فاعل اجتماعي وتاريخي غير كثيرا في تفاصيل الحياة اليومية لامة كاملة، وهي غيرت في مشهدية المدينة المصرية وفي ايقاع هذه المدينة الحضري.
وبالعودة إلى موضوع النقاش والسجال حول ايراد نصوص تتعلق بام كلثوم وسميرة توفيق في المنهاج. فبالاضافة الى تأذي القلب من هذا السجال لما فيه من تحقير ومساس بقيمة وموقع ام كلثوم في حياة مصر والعرب بل والتراث الانساني عموما. فقد كان السجال ايضا مرعبا للعقل. فالسجال تمحور حول ام كلثوم وحول سميرة توفيق، وحول المنهاج في أحسن الظروف، وهو دخل في التفاصيل التي هي بمثابة نتائج ولكنه لم يستطع أن يخوض فيما هو استراتيجي ومركزي. أي موضوعة المناهج الدراسية نفسها من حيث ماهية المناهج، وماذا تعني وتمثل، ومن هي الاطراف التي يجب أن تضعها، ومن يجب أن يقوم بتنفيذها؟
ولانني اخشى الاطالة، وتحول النص الى نص ثقيل بسبب طوله وعدد كلماته، فانني سوف اقول أن النقاش لم يستطع أن يثير أي تساؤلات كبيرة وجوهرية حول المناهج. فمن الملفت في البلاد أن المناهج باتت هي من عمل وتخصص جهة أو مجلس يقوم بوضع المناهج، بحيث تحولت المناهج الدراسية الى مجرد عمل تقني وعلمي وبيروقراطي بل وفردي في كثير من الاحيان. ومع كل الاحترام للجهة الموقرة التي تشرف على وضع المناهج، وانا بالفعل لا احمل لها سوى التقدير والاحترام، فإن ايكال وضع المناهج الدراسية بجهة تقنية وعلمية محددة هو امر خطير وفيه قصور وخطأ استراتيجيين وبما يهدد كل مشروع الدولة في الاردن.
فالمنهاج الدراسي والمدرسة هما الوسيلتان الاستراتيجيتان التي ابتدعتهما الامم االمتطورة لتنتج، ولتعيد انتاج نفسيهما من خلالهما. فصناعة الامة بما تشتمل عليه من مهارات علمية، ومن حزم معرفية ومعلوماتية، ومن نظم قيمية واخلاقية تجري كلها من خلال المدرسة، ففي المدرسة يتم زراعة المهارات والمعلومات والقيم والمنظومات الخلقية التي تقررها الامة. ولان المدرسة هي كذلك، فإن الطفل يغادر صباحا وفي وقت مبكر الى المدرسة ليمضي تقريبا معظم يومه فيها، وليعود في ساعات المساء الى بيته وعائلته. ما يعني أن الطفل يمضي من الوقت، اكثر مما يمضي مع اهله وعائلته. ما يعني أيضا أن الامم الحديثة تعتبر أن المدرسة هي التي يجب أن تربي وليس البيت أو العائلة، وهو ما يفسر حجم الموارد المالية التي تستثمرها الدولة الحديثة بنسقها الغربي في المدرسة وفي التعليم، بحيث تتوافر في المدرسة كل عناصر تربية الطفل من مدرس كفؤ، ومن مرافق رياضية، ومن الات موسيقية، وصولا إلى الكافيتريا الصحية. ما يجعلنا نصل في النهاية الى السؤال الجوهري ما هي المدرسة وما هي المناهج، وماذا يمثلان في حياة الامم الحديثة؟ ومن الذي يجب أن يضع المنهاج الدراسي؟ وصولا الى طرح الاسئلة حول الجهة التي تقوم بوضع المناهج في المملكة؟ وهل يجب أن تكون جهة تصمم المناهج أم جهة أن جهة أخرى يجب أن تقوم بوضع الخطوط العامة للمناهج قيميا واخلاقيا ومهاراتيا ومعلوماتيا، في حين يقوم المجلس الوطني لتطوير المناهج بالتنفيذ من خلال تصميم الكتب والمناهج نصوصا وصورا ووسائل تعليمية؟
ولان المدرسة في المجتمع الحديث هي ما ينتج الجماعة والمجتمع اخلاقيا، وقيميا، ومهاراتيا، ومعرفيا، وتقنيا فإن المنهاج الدراسي هو من صنع الدولة والامة بكامل مكوناتها وعناصرها وطبقاتها وتشكيلاتها السياسية والايديولوجية. صحيح أن المنهاج الدراسي في كل الدول هو انعكاس لموازين القوى الطبقية والايديولوجية لان الطرف الميهمن ايديولوجيا وطبقيا هو من سيتمكن من فرض فكره وثقافته وقيمه لتنعكس في المنهاج. ولكن ولان الدولة في النهاية هي انعكاس لموازين القوى الاجتماعية والطبقية والايديولوجية لمكوناتهأ، فان المنهاج هو في النهاية عمل الدولة، ومن صنع عقل الدولة وبما تنتجه موازين القوة الداخلية فيها.
وهنا نصل إلى خلاصة ما نود أن نقوله، وهو أن المناهج في البلاد لن تفي بالمطلوب وسوف تبقى عاجزة وقاصرة ومليئة بالثقوب كتلك الموجودة في الجبنة السويسرية الشهيرة، طالما أن المنهاج والمدرسة لا يفهمان على انهما من نتاج الدولة ومن عملهما. فالمنهاج الدراسي ولان فيه انتاج واعادة انتاج للدولة والمجتمع والامة بكاملها، يجب أن يمثل في الحالة الاردنية حصيلة ما يريده الاردنيون كشكل لدولتهم في السياسة، وحصيلة لما يريده الاردنيون من مهارات حياتية ويومية يودون زرعها في أبنائهم، وكنسق من المهارات التقنية واليومية يودون زرعها في وعي ابنائهم. وباختصار، فان المنهاج الدراسي يجب أن يكون من عمل الدولة والمجتمع الاردنيين حين يقرران أي نسق من الدولة يودان أن ينتجا، وأي نسق من الكائنات والمخلوقات يودان أن يصنعا.
ما زلت اذكر أنه وفي احدى السنين المجيدة تم تشكيل لجنة ملكية روعي في تشكيلها كل اطياف المجتمع الاردني لتناقش وتقرر شكل المناهج. وفي هذه اللجنة كان هناك من ينتمي لجذور بدوية، وكان هناك الاخواني، وكان هناك الليبرالي، والشيشاني، وكان هناك من ينتصر لقضايا المرأة، وكان هناك من يرى أن المرأة يجب أن تظل حبيسة البيت.