التغير في الموقف الإيراني في المنطقة.. قراءة تحليلية في الصراع الداخلي والتداعيات الإقليمية


كتب بشار زيدان - تشهد إيران في الآونة الأخيرة تغيرات سياسية داخلية، تعكس صراعًا محتدما بين تيارات متنافسة على توجيه السياسة الخارجية للبلاد.صراع اخذ يضرب  عميقا في اساسات النهج السائد ويربك الحلفاء ويدخلهم في منعرجات حرجة ، في وقت حساس للغاية  يتطلب وضوحا وحسما ما عاد موجودا البتة .. 

 هناك ثمة تغيرات قابلة للرصد  في الموقف الإيراني في المنطقة ، الامر الذي انعكس بشكل مباشر على محور المقاومة الذي يخوض حربا وجودية في غزة ولبنان مع الكيان الصهيوني ، وحتى نقترب اكثر من المشهد ونسبر غور هذه التباينات والتحولات التي طرأت على الموقف الايراني ، علينا ان نبدأ بتحليل هذه المتغيرات التي القت  بظلالها الثقيلة على ايران اولا ومحور المقاومة ثانيا والتي هي على النحو التالي :  

أولًا: الصراع الداخلي بين التيارات في إيران

تشير التقارير والتسريبات الإعلامية إلى وجود صراع بين تيارين رئيسيين داخل النظام الإيراني:
• تيار الحرس الثوري: الذي يمثل خط المقاومة المستمر في دعم حركات التحرر في المنطقة مثل حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، والحوثيين في اليمن، والحشد الشعبي في العراق. يعتبر هذا التيار أن دعم "محور المقاومة" ضرورة استراتيجية للحفاظ على النفوذ الإيراني في مواجهة القوى الغربية وإسرائيل. قادة الحرس الثوري، مثل الجنرال إسماعيل قاآني، يرون أن التخلي عن هذا النهج سيفقد إيران نفوذها في الشرق الأوسط.
• التيار الإصلاحي: الذي يقوده الرئيس الجديد مسعود بزكشيان ووزير الخارجية السابق جواد ظريف. يتميز هذا التيار بالميل إلى الانفتاح الدبلوماسي والتفاوض مع الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل، من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية ورفع العقوبات. بالنسبة لظريف، فإن البرنامج النووي الإيراني يمكن أن يُستخدم كورقة تفاوضية لتحسين الوضع الاقتصادي في الداخل الإيراني وكسر العزلة الدولية.
هذا التباين يعكس صراعًا داخليًا بين عقيدة عسكرية قائمة على دعم المقاومة المسلحة، وعقيدة إصلاحية تسعى إلى التفاوض وتحسين العلاقات الدولية.

ثانيًا: نظرية الاغتيالات كأداة لتمكين التيار الإصلاحي

ظهرت تسريبات تفيد بأن اغتيال إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية السابق حسين أمير عبداللهيان قد تكون جزءًا من صراع داخلي على السلطة في إيران. وفقًا لهذه النظرية، فإن التيار الإصلاحي قد يكون وراء هذه العمليات لتصفية الشخصيات المتشددة التي تعارض توجهاتهم التفاوضية. هذه الاغتيالات، سواء كانت حقيقة أو مجرد تسريبات، تشير إلى أن الصراع الداخلي في إيران قد تحول إلى مرحلة أكثر خطورة قد تؤثر على استقرار النظام.

ثالثًا: موقف إيران من حزب الله وتحفظها على قصف إسرائيل

إحدى النقاط البارزة في هذا السياق هي تحفظ إيران على السماح لحزب الله اللبناني باستخدام الصواريخ الثقيلة لضرب إسرائيل. هذا الموقف الجديد يعكس تغيرًا في السياسة الإيرانية تجاه تصعيد المواجهة مع إسرائيل. قد يكون هذا التحفظ مرتبطًا برغبة التيار الإصلاحي في تجنب أي تصعيد يؤدي إلى تعطيل المفاوضات مع الغرب بشأن البرنامج النووي. في المقابل، يرى الحرس الثوري أن دعم حزب الله في أي مواجهة مع إسرائيل يعد جزءًا أساسيًا من استراتيجية الردع الإيرانية في المنطقة.

رابعًا: الاختراق الأمني المخيف لإيران

تعاني إيران في السنوات الأخيرة من اختراقات أمنية كبيرة، حيث تمكنت أجهزة استخباراتية مثل الموساد من تنفيذ عمليات داخل الأراضي الإيرانية، بما في ذلك اغتيال علماء نوويين وشخصيات بارزة في الحرس الثوري. آخر هذه العمليات كانت اغتيال قاسم سليماني في بغداد عام 2020، والذي كان يمثل حجر الزاوية في النفوذ الإيراني الإقليمي. هذا الاختراق الأمني يثير تساؤلات حول قدرة إيران على حماية قادتها وتأمين منشآتها الحساسة، خاصة في ظل الصراع الداخلي الذي قد يزيد من هشاشة البنية الأمنية للبلاد.

خامسًا: اغتيال إسماعيل هنية وعدم الرد

أثار اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، موجة من التساؤلات حول الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية والمقاومة. على الرغم من أن إيران كانت داعمًا رئيسيًا لحماس في السابق، إلا أن عدم الرد الإيراني على هذا الاغتيال يعكس تحولًا في الأولويات الإيرانية. قد يرتبط هذا الامتناع بالرغبة في الحفاظ على مسار المفاوضات النووية، أو قد يكون مؤشرًا على أن طهران تعيد تقييم تحالفاتها الإقليمية.

سادسًا: التباين بين الوضع الإيراني والمصري

تظهر مقارنة الموقف الإيراني بالموقف المصري تباينًا واضحًا. في مصر، يلعب الجيش دورًا رئيسيًا في توجيه السياسة الخارجية، ويقف في صف الولايات المتحدة وإسرائيل. مصر ابتعدت عن أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل، بل لعبت دورًا وسيطًا في فرض الحصار على غزة، مما ساهم في تأمين مكاسب اقتصادية وسياسية للنظام المصري. العلاقات المصرية مع إسرائيل وأمريكا سمحت للقاهرة بالحصول على دعم دولي ومساعدات اقتصادية ضخمة، وذلك مقابل موقف سلبي تجاه المقاومة الفلسطينية.

في المقابل، نجد أن الحرس الثوري الإيراني يمثل القوة التي تدعم المقاومة المسلحة في المنطقة، ويميل إلى دعم حزب الله وحماس في مواجهة إسرائيل. بينما نجد أن التيار الديني السياسي في مصر، الذي يمثله الإخوان المسلمون، كان يدعم المقاومة الفلسطينية، ولو بشكل رمزي أو خطابي. في إيران، التيار الديني السياسي هو الذي يقود عملية التفاوض وصياغة الصفقات مع الغرب، مما يعكس الفارق الكبير بين الدور الذي يلعبه الدين السياسي في كلتا الدولتين.

سابعًا: حاجة حزب الله لترسيخ معادلات الردع مع إسرائيل

يعتمد حزب الله في لبنان على الدعم الإيراني لتأمين قدراته العسكرية وتحديد معادلات الردع مع إسرائيل. تعرض الحزب لعدة اعتداءات إسرائيلية في السنوات الأخيرة، بما في ذلك عملية تفجير أجهزة البيجر وقصف الضاحية الجنوبية، بالإضافة إلى اغتيال بعض كبار قادته العسكريين كفؤاد شكر وإبراهيم عقيل. يفرض هذا الواقع على حزب الله ضرورة الحفاظ على معادلات الرد القوية مع إسرائيل، والرد على أي اعتداءات لضمان عدم كسر هذه المعادلات. الحزب يعتمد في هذا السياق على التنسيق الوثيق مع إيران، إلا أن تحفظ إيران على دعم الحزب في تصعيد الموقف العسكري قد يؤثر على هذا التوازن.

ثامنًا: سلبية المواقف العربية وغيابها عن التأثير

المواقف العربية تجاه القضايا الإقليمية تبدو ضعيفة وسلبية في الغالب. العديد من الدول العربية اتخذت موقفًا معاديًا لإيران وتحالفت مع إسرائيل والولايات المتحدة ضمن ما يعرف بـ"اتفاقيات التطبيع". هذه الدول غالبًا ما تشكو من التدخلات الإيرانية والتركية في الشؤون العربية، بينما هي نفسها لا تقدم أي دعم فعلي للشعوب العربية أو حركات المقاومة. في المقابل، تترك هذه الدول الفراغ لإيران لملء الفجوة الإقليمية، مما يزيد من تدخلات هذه القوى في الشؤون العربية.

تاسعاً :مصير محور المقاومة: هل يواجه العزلة مثل غزة؟

مصير محور المقاومة مرتبط بشكل كبير بقدرة إيران على الحفاظ على دورها القيادي في دعم هذه الحركات. ومع ذلك، في حال تخلي إيران والعرب عن محور المقاومة، فإن هذا المحور قد يواجه مصيرًا مشابهًا لما واجهته حماس وغزة خلال عام من التصعيد الإسرائيلي المكثف والإبادة الجماعية والمجازر، حيث تُركت غزة شبه وحيدة في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية. ولكن هناك فروقات مهمة بين حالة غزة وبقية مكونات محور المقاومة:

1. حزب الله في لبنان يمتلك دعمًا شعبيًا واسعًا وقاعدة عسكرية قوية تمكنه من الرد على أي اعتداء إسرائيلي، إضافة إلى تمتعه بعلاقات استراتيجية مع بعض القوى الإقليمية مثل سوريا وروسيا. حتى في حال تراجع الدعم الإيراني، سيظل حزب الله قادرًا على الحفاظ على جزء كبير من قوته.
2. الحوثيون في اليمن أصبحوا قوة ذات تأثير كبير في الصراع الإقليمي، وقد أثبتوا قدرتهم على تحمل الضغوط العسكرية والسياسية على مدار سنوات الحرب. كما أن الوضع اليمني الداخلي يعزز من قدرة الحوثيين على الاستمرار في السيطرة على مناطقهم والتحكم في خطوط إمدادهم المحلية.
3. الحشد الشعبي في العراق يتمتع بقدرة على المناورة السياسية والعسكرية، حيث يمتلك قاعدة دعم شعبي وسياسي داخل العراق، وهو ما قد يمكنه من البقاء على الساحة حتى مع تقليص الدعم الإيراني.
ومع ذلك، فإن السيناريو الأكثر خطورة سيكون تخلي الدول العربية عن دعم المقاومة بشكل نهائي، واستمرارها في مسار التطبيع مع إسرائيل. في هذه الحالة، قد يجد محور المقاومة نفسه معزولًا بشكل أكبر، خصوصًا إذا فشلت القوى الأخرى مثل روسيا في ملء الفراغ الإيراني.
ترك المقاومة لمصيرها، كما حدث مع غزة، قد يؤدي إلى تعرضها لضربات إسرائيلية مكثفة، ولكن هذه القوى تمتلك قدرة أكبر على الصمود والتكيف مع الظروف القاسية.
 
خاتمة: مستقبل إيران ومحور المقاومة في ظل التغيرات الداخلية والإقليمية

إيران تقف اليوم على مفترق طرق استراتيجي، حيث يلقي الصراع الداخلي بين الحرس الثوري والتيار الإصلاحي بظلاله على الدور الإيراني في المنطقة. الحرس الثوري، الذي يشكل العصب المركزي لمحور المقاومة، يعتبر أن التخلي عن دعم حلفائه، سواء في لبنان أو فلسطين أو اليمن أو العراق، يعني التخلي عن نفوذ إيران الإقليمي الذي بُني على مدار عقود من الاستثمار العسكري والسياسي. في المقابل، يسعى التيار الإصلاحي بقيادة الرئيس مسعود وبدعم من الشخصيات الدبلوماسية السابقة مثل جواد ظريف إلى خفض التوتر مع الغرب، حتى لو كان ذلك على حساب محور المقاومة. هذا التحول في السياسة الإيرانية قد يؤدي إلى إعادة صياغة العلاقات بين إيران وحلفائها، ويطرح تساؤلات حول قدرة محور المقاومة على الحفاظ على وجوده واستمراريته في حال تراجع الدعم الإيراني.

خيارات تيار المقاومة في حال تراجع الدعم الإيراني

في حال حدوث تغير جذري في الموقف الإيراني وتراجع دعم طهران لمحور المقاومة، سيجد هذا المحور نفسه أمام تحديات كبيرة تتطلب إعادة ترتيب الأولويات وإيجاد حلول بديلة لضمان استمراريته. ولكن خيارات المقاومة في هذا السيناريو تعتمد على عدة عوامل:

1. الاعتماد على الاكتفاء الذاتي والتعبئة الشعبية: محور المقاومة، ممثلًا بـ حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق، قد يجد نفسه مضطرًا إلى زيادة اعتماده على قدراته الذاتية وقدراته المحلية. حزب الله، على سبيل المثال، يمتلك شبكة دعم محلية وشعبية واسعة في لبنان، كما أن الحوثيين أثبتوا قدرتهم على الصمود رغم الحصار والتدخل العسكري السعودي في اليمن. يمكن لهذه القوى التركيز على تعبئة الجبهات الداخلية وتجنيد الدعم الشعبي لتعويض أي نقص في الدعم الخارجي.
2. توسيع التحالفات الإقليمية: إذا تراجعت إيران عن دعم محور المقاومة، قد تبحث هذه الحركات عن توسيع تحالفاتها الإقليمية مع دول وقوى أخرى ترغب في مواجهة النفوذ الغربي أو الإسرائيلي. يمكن أن تتجه هذه الحركات إلى تركيا، التي تسعى إلى تعزيز نفوذها الإقليمي، أو إلى روسيا، التي تمتلك علاقات استراتيجية مع عدد من دول المنطقة.
3. تعزيز العمليات العسكرية ضد إسرائيل: محور المقاومة قد يتجه إلى تعزيز العمليات العسكرية ضد إسرائيل، على غرار ما قامت به حماس في 7 أكتوبر. هذا النوع من العمليات يمكن أن يعيد ترتيب الأوراق على الساحة الإقليمية ويجبر القوى الغربية والعربية على إعادة النظر في حساباتها. التصعيد العسكري الكبير من قبل حركات المقاومة قد يؤدي إلى تعطيل مسارات التطبيع مع إسرائيل، كما حدث بعد الهجوم الفلسطيني الأخير. يمكن أن تسعى هذه الحركات إلى استخدام استراتيجيات غير تقليدية لإحداث تغييرات جذرية على الأرض، بهدف إحياء القضية الفلسطينية وكسر حالة الجمود.
4. استغلال الضعف الإسرائيلي الداخلي: الأوضاع الداخلية في إسرائيل، بما في ذلك الخلافات السياسية والانقسامات المجتمعية، قد توفر فرصة لمحور المقاومة لتعزيز موقعه. يمكن لهذه الحركات استغلال ضعف الحكومة الإسرائيلية في مرحلة ما بعد الانتخابات الأخيرة، والتي شهدت تصاعد الصراعات بين التيارات السياسية المختلفة. في هذا السياق، قد تكون العمليات العسكرية المكثفة أو الهجمات على الأهداف الإسرائيلية الحساسة وسيلة لتغيير قواعد اللعبة.
 
 
 
 
المصادر:

•  Middle East Eye: تقارير عن الصراع الداخلي في إيران وتوجهات التيارات المختلفة داخل النظام، بما في ذلك الحرس الثوري والتيار الإصلاحي.
•  Al Jazeera: تقارير وتحليلات حول دور الحرس الثوري الإيراني في دعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق.
•  Haaretz وJerusalem Post: تقارير عن المواجهات بين حزب الله وإسرائيل، بما في ذلك عمليات اغتيال القادة العسكريين والتوترات المستمرة في لبنان.
•  Reuters: تقارير عن السياسة الإسرائيلية والتحديات الداخلية التي تواجه الحكومة الإسرائيلية والانقسامات السياسية والمجتمعية في إسرائيل.
•  Al Monitor: تحليل العلاقات المصرية-الإسرائيلية، وموقف الجيش المصري من قضية غزة ومسار التطبيع مع إسرائيل، ومقارنة هذا الموقف مع الدور الإيراني في دعم المقاومة.
•  The Guardian وBBC: تقارير حول تطورات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، والتحليل حول آثار هذه الاتفاقيات على المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة الإقليمي.
•  Al Arabiya وAl Hurra: تقارير حول المواقف العربية من إيران والتدخلات الإقليمية.
•  Foreign Affairs: تحليلات معمقة حول الأوضاع الأمنية في إيران، بما في ذلك الاختراقات الأمنية والاغتيالات السياسية التي تعرضت لها القيادات الإيرانية في السنوات الأخيرة.