بعد خطاب الملك في نيويورك ..ما هو المطلوب من اجهزة الدولة ،كيف نترجم الخلاصات الى خارطة طريق ومنهج عمل؟



كتب باسل العكور - ما قاله الملك عبدالله الثاني امام الجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك يوم امس هو التوصيف الادق للحال المزري الذي وصلت اليه الشرعة الدولية والامم المتحدة ، فبعد عام كامل من العدوان البربري الغاشم على الاهل في قطاع غزة ،ما عاد علمها الازرق ضامنا او حاميا لمن يلوذ به ، وما عاد موظفوها يتمتعون بالحصانة ، وما عادت قرارات محاكمها مصانة ، وتقف شاحنات الإغاثة التابعة لها بلا حراك على بعد أميال فقط من فلسطينيين يتضورون جوعا، ، ان الامم المتحدة - كما جاء في كلمة الملك الهامة -" تعيش ازمة تُهدد بانهيار الثقة العالمية بها وبسلطتها القانونية والاخلاقية" ..

عندما يقول الملك وهو من القادة الاكثر اعتدالا وتوازنا في قراراتهم وردود فعلهم الخارجية ، ان الضمير العالمي يئن تحت وطأة ما يرتكبه العدو الصهيوني من جرائم في غزة ولبنان:"لقد قتلت الحكومة الإسرائيلية في هذه الحرب أطفالا وصحفيين وعمال إغاثة إنسانية وطواقم طبية أكثر من أي حرب في التاريخ الحديث." ، فهذا يعني بالضرورة ان السيل قد بلغ الزبا ، وان ساعة الحقيقة قد حانت ، وان على المجتمع الدولي ان يضطلع بمسؤولياته قبل فوات الاوان وخروج سهم المنطقة من قوس التعقل والرشد ..

عام كامل من جهود احتواء الازمة وانهاء العدوان والاغاثة الانسانية للاشقاء في غزة والضفة الفلسطينية ، قادها الملك لم تلق اذنا دولية صاغية ، الملك في الامس اختار ان يسمي الاشياء بمسمياتها ، ولسان حاله يقول : لا مزيد من الدبلوماسية ، ومراعاة انحيازات القوى الكبرى واصطفافات قادتهم ، الملك قالها دون مواربة : الواقع الأليم الذي يتجلى أمام الكثيرين هو أن بعض الشعوب هي فعليا فوق القانون الدولي، وأن العدالة الدولية تنصاع للقوة، وأن حقوق الإنسان انتقائية؛ فهي امتياز يمنح للبعض ويحرم البعض الآخر منه حسب الأهواء ، إذا لم نكن أمما متحدة بالقناعة والإيمان بأن جميع البشر متساوون في الحقوق والكرامة والقيمة، وأن جميع الدول متساوية أمام القانون، فما هو العالم الذي نختاره لأنفسنا؟

نعم ، العدالة الدولية تنصاع للقوة ، وتنكسر ارادتها وتتعطل اذرعها القانونية والاغاثية وتتهشم مكانتها وصورتها وثقة الناس بها امام عنجهية وغطرسة وسطوة الولايات المتحدة الامريكية على مجلس الامن وبقية الهيئات التابعة للامم المتحدة ، اما حقوق الانسان فهي بلا شك "انتقائية" ، لا بل وموسمية واداة من ادوات السياسة الخارجية لأمريكا وحلفائها، والقانون الدولي والمحاكم الدولية فقد "تم انشاؤها لافريقيا وبوتين" كما قال احد الزعماء الغربيين لمدعي عام المحكمة الجنائية الدولية.!!

كيف نستوعب هذا التعطل في اليات المحاسبة والمساءلة الدولية لكيان يرتكب كل الموبقات وجرائم الحرب وينتهك كل الضوابط و المحددات التي وضعها القانون الدولي لتنظم علاقات السلم والحرب في المجتمع الدولي ، كيف نهضم هذه الحصانة التي يتمتع بها هذا الكيان الاستيطاني الاحلالي المارق ؟

الملك عبدالله الثاني توقف طويلا عند مسألة تحصين الكيان وتبرير ما يرتكبه من جرائم حيث قال : "لسنوات، مد العالم العربي يده لإسرائيل عبر مبادرة السلام العربية، مستعدا للاعتراف التام بها وتطبيع العلاقات معها مقابل السلام، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة اختارت المواجهة ورفضت السلام، نتيجة للحصانة التي اكتسبتها عبر سنوات في غياب أي رادع لها ، وفي غياب الرادع، ازدادت هذه الحصانة شيئا فشيئا" .وهنا انتهى الاقتباس .

الملك يؤكد من على اهم منبر دولي ان الرهان على خيار السلام قد تداعى تماما ، وان الحكومات الصهيونية اليمينية المتطرفة اختارت المواجهة والتوسع والاستيطان والتهجير والقتل والابادة والفصل العنصري ، اختارت سيناريوهات الموت والخراب والدمار ،والعبث باستقرار المنطقة وتغيير ملامحها وحدودها وهويتها وصولا لفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والامنية والثقافية عليها .. ان الاتفاقيات التي وقعت مع بعض الدول العربية باتت حبرا على ورق ،واصبح الحديث عن التزام الكيان الصهيوني بما نصت عليه من مواد ونصوص محل تندر وسخرية ، لذلك جاء رد الملك حاسما وقاطعا في هذا السياق : " اما عن الذين يروجون باستمرار لفكرة الأردن كوطن بديل. دعوني أكون واضحا تماما: هذا لن يحدث أبدا. ولن نقبل أبدا بالتهجير القسري للفلسطينيين، فهو جريمة حرب" .

اليوم ، وبعد ان تبلورت هذه القناعات الواقعية الموضوعية لدى صانع القرار، فلقد باتت المعادلة واضحة ، والخيارات محدودة ، فاما ان نقبل بهيمنة نتنياهو وعصابته اليمينية المتطرفة على الاقليم ، ونتنازل عندها عن كل شيء، وهنا اقصد كل شيء بكل ما يعنيه ذلك من ابعاد ودلالات ، لا سيما بعد انكشاف الدعم الغربي المطلق وغير المشروط لليمين الصهيوني المتطرف ، واما ان نواجه هذا المخطط ونتصدى له بكل ما نملك من قوة واوراق وادوات وعناصر ضغط وايلام للعدو وحلفائه ..لا حلول وسط ، لا خيار ثالث ولا طريق فرعيا نلوذ به لنهرب من هذا الاستحاق القادم لا محاله ، انه الموت المادي و المعنوي الهوياتي الحضاري الثقافي الكامل واما حياة بعزة وكرامة وشموخ .. هذه الخلاصة الاهم في كلمة الملك الكاشفة والتي علينا ان ندركها تماما ونشتغل على وقعها داخليا، وهي رسالة على اجهزة الدولة ان تتلقفها وتعمل على ترجمتها مشاريع وخطط وبرامج على الارض.

ليس مقبولا بعد اليوم ان تستمر الجهات الامنية في ملاحقة النشطاء والمتظاهرين المتضامنين مع اهلنا في غزة والضفة ولبنان؛ هؤلاء يقولون حرفيا ما عبر عنه الملك امام قادة العالم وتابعتها الشعوب عبر وسائل الاعلام المختلفة ، المطلوب اليوم -ونحن نشهد حالة انكشاف استراتيجي للعدو واطماعه واهدافه - ان نمتّن جبهتنا الداخلية، هذه وسيلتنا الانجع لمواجهة هذا الخطر الوجودي على بلادنا.

المراهنون على معسكر التطبيع في مراكز القرار أو الجالسين على دكة الاحتياط من المخزون التقليدي لشاغلي المناصب الرسمية، ويربطون ذلك برفاه اقتصادي موعود مزعوم، فعليهم ان يتذكروا جيدا مشاهد الموت والدمار في غزة والضفة الفلسطينية وجنوب لبنان ، عليهم ان يتذكروا جيدا بشاعة ونذالة وخسة هذا العدو ووحشيته ودناءته وغدره ، وكيف انه وظف كل امكاناته لقتل الابرياء وتدمير فرص حياتهم حتى وصل الامر الى استحضار نصوص توراتية تدعو لقتل النسل والحرث والماشية على ارض فلسطين المباركة . تذكروا جيدا هذه المشاهد ولتُطّبع في ذاكرتكم المثقوبة ، ولتكن منطلقا لتحول عميق في قناعاتكم المهلهلة ، وخياراتكم الباهتة البالية المتهدلة والمتهالكة .