"وعد بلفور" أكثر من قرن على ضرب الجهاز المناعي للأمة
كان عام 1917 ملائما للصهاينة؛ فالطبقة السياسية في انجلترا تؤيد قضيتهم، وكانت مناصرة الصهيونية منتشرة في الرأي العام لأن التربية البروتستانتية، المدعومة بقوة التوراة، خلقت لدى الانجليز إلفة طبيعية مع أهداف الصهيونية، وجعلت من عودة اليهود إلى الأرض المقدسة تمهيدا لمجيء الأزمنة المسيحية.
إضافة لذلك كانت انجلترا تسعى لأن تسبق الصهاينة الألمان والنمساويين الذين يفاوضون مع حكومته للحصول على إعلان دعم للتطلعات الصهيونية، وكان مسعى الصهاينة الألمان والنمساويين في سياق عصره، فهؤلاء اليهود الذين كانوا يخافون الألمان، اصطفوا إلى جانب ألمانيا لأنها أعلنت الحرب على روسية القيصرية، مضطهدة اليهود، يضاف إلى ذلك أن الألمان في الإقليم الروسي المحتل، كانوا يقدمون أنفسهم كحماة لليهود المضطهدين.
وقد بذلت ألمانيا نفسها، خلال الحرب، جميع الجهود لجذب دعم اليهود، وأغرت الصهاينة بمشروع إعلان لدعمهم، ولكنها لم تستعجل في تحقيقيه، تجنبا لغضب حليفتها تركيا في الحرب. أمل الانجليز من إعلان لصالح الصهاينة أن يكون له مفعول لدى يهود روسيا والولايات المتحدة، إلا أن الكره اليهودي المعلن تجاه روسيا لا يمكن أن ينسجم مع مصالح الحلفاء، الذين هم بحاجة إلى الروس واليهود في آن واحد، لذلك رأت الحكومة البريطانية أنه من الملائم تقيديم تشجيع واضح للأطماع الصهيونية في فلسطين.
وتحت وطأة ضغوط الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية، أصدر وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في 2 تشرين ثاني 1917 إعلاناً إلى اللورد ليونيل روتشيلد – الذي ينتمي إلى أسرة روتشيلد اليهودية الثرية- والذي كان قد كلفه حاييم وايزمان بمهمة الحصول على وعد بإنشاء وطن يهودي في فلسطين، جاء فيه :
"إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يتضمن عملاً من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى".
وبذلك كتبت إحدى الصفحات الأكثر قتامة في المأساة الفلسطينية، ولم يكن لاعلان الحكومة البريطانية التي لم تكن لها أي سيادة على هذا الإقليم أي قيمة في القانون الدولي، ولا يستتبع دخول الجنرال اللنبي القدس عام 1917، ولا الانتداب الذي منحته عصبة الأمم على فلسطين، أي تنازل عن الاقليم أو نقل لسيادته إلى المحتل العسكري، وإلى المنتدب فيما بعد. لكن الانكليز لا يربكمهم " تفصي صغير جدا"، فقد كتب اللورد بلفور في مذكرة دبلوماسية عام 1919 بصراحة :"
لقد انحازت الدول العظمى( انكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وايطاليا) إلى جانب الصهيونية.
والصهيونية سواء أكانت على حق أم لا، حسنة أم سيئة، متجذرة في تقاليد بعيدة ولها حاجاتها الحاضرة وطموحاتها المستقبلية، الأهم بكثير من رغبات سبعمئة ألف عربي، يقيمون اليوم في هذه الأرض القديمة ..".
لم يجد المؤرخ الكبير أرنولد توينبي مناصاً من إدانة بلاده على تقديم "وعد بلفور" للحركة الصهيونية، معلناً أنه كإنجليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة. وسبق هذا الوعد موجة استشراق أسهم فيها مفكرون وعلماء وفنانون وشعراء، كانوا بمثابة مدفعية مهدت الأرض لامبريالية صاعدة مثلت فرنسا وبريطانيا أبرز جوانب وجهها القبيح.
كما جاء هذا الوعد البريطاني تتويجاً لمرحلة طويلة من العمل الصهيوني للحصول على البراءة الدولية للاستيطان في فلسطين. إن وعد بلفور هو اقتطاع جزء من الوطن العربي، وفرزه ليكون قاعدة للعدوان على الأمة العربية، وتجزئتها واستنزاف طاقاتها، وهو تغييب للشعب الفلسطيني - مادياً وحضارياً وسياسياً- وقطع لصلته بوطنه، ونفي لحقه التاريخي فيه، وهو كذلك تجاهل للأمة العربية وأهدافها المشروعة بالاستقلال والتقدم والوحدة، وتنكر للعهود التي قطعت لها في الحرب، بل هو تآمر على استقلالها ووحدتها ومستقبلها. ويندرج هذا الوعد في سلسلة الجرائم البشعة التي اقترفتها الدول الاستعمارية في بلدان العالم التي وقعت تحت سيطرتها، ولعله من أبشعها على العموم.
وبعد الوعد جرت مؤامرات سرية ومعلنة، وانسحبت دولة الانتداب من فلسطين مع تثبيت أركان المشروع الصهيوني وتقدمه، وتم صناعة كيان يشبه حاملة طائرات متقدمة في وطن عربي خرج من حقبة الاستعمار، ولتبدأ مرحلة جديدة من الصراع بين رعاة هذا المشروع الاستيطاني ، وبين الشعب الفلسطيني والأمة العربية ، لا يزال مستمراً في صيغة أو أخرى حتى الآن. إن الحتمية التاريخية تنتصر دائماً لفكرة زوال الكيانات المضادة للتاريخ والجغرافيا وفي مقدمتها اسرائيل، هذا ما قاله أرنولد توينبي:"عمر هذا الكيان لن يزيد على مئة عام"، والسؤال الآن ماذا نحن فاعلون حتى عام 2048؟