صوت التغيير يعلو على التشكيك: المقاطعة الشعبية مثالا
كتبت ريم مناع -
عندما يسعى أبناء وبنات المجتمعات المضطهدة لقيادة التغيير، تقف أمامهم سرديّات تشكيك تزرع في النفوس الإحباط وتُشكّل عائقاً حقيقيّاً أمام النضال الجماعي والعمل التنظيمي.
ولكن هذه المرّة لم تستطع عبارات مُحبطة ومثبطة الصمود أمام مُقاطعة الشعب الأردني لشركة كارفور وإخراجها من السوق الأردني لتواطئها في دعم الاحتلال الإسرائيلي.
عبارات مثل "كارفور لديه أكثر من 50 فرعاً في الأردن، لن نقدر عليه، "اسعار كارفور لا يمكن مقاومتها بسبب العروض المغرية، "كارفور يوظّف آلاف الأردنيين، والمقاطعة ستؤثر سلباً على معيشتهم، "حتى لو قاطعت، غيري لن يقاطع، بالماضي حاولوا آخرين ولم ينجحوا".
تتجلّى سرديّات التشكيك في مرحلتين من مراحل العمل التنظيمي، المرحلة الأولى:عند إطلاق العمل النضالي و أثناء المطالبة بالتغيير، ويركز التشكيك في هذه المرحلة على تحجيم الطموحات وتحويل الطاقات نحو التشكيك في فاعلية العمل الجماعي وفي مدى القدرة على التغيير، وتأكيد الضعف أمام العدو أو السلطة.
"حملة "مُش شاري" التي قامت حملة الأردن تقاطع بتنظيمها لمقاطعة "سلسلة كارفور" في الأردن، مع جهود تنظيمية من أطر طلابية وحزبية أخرى، نجحت وأسفرت عن سحب كارفور من السوق الأردني بفضل جهود تنظيمية شعبية دقيقة، تكمن أهميّه النجاح ليس فقط بتحقيق المطلب والهدف، ولكن أيضاً في نجاح المقاطعة في تفعيل الإيمان والعمل التغيري لدى مجموعة من الناس، فبالنهاية هنالك مجموعة قررت النهوض بأنفسهم، والعلّو على هواجس الإحباط التي تتربص بنا نحو العمل والتفكير في سبيل ولو كان صغيرا يمكن من خلاله دعم القضية، ويمكن من خلاله نقل الناس من السكون للفعل ولو كان الفعل هو مجرد "مقاطعة" بضائع.
فهنالك أفرادا شكلوا مجموعات منظمة ومعاً استعادوا شعور القوة والمقدرة، وهذا بحد ذاته يستحق التشجيع، يستحق الاحتفاء. وبصراحة نبارك لكلّ فرد كان أم أم طفل أم أب، عامل وعاملة، طالب وطالبة آمنوا بقدراتهم كأفراد، آمنوا بمبدأ والتزموا به ومعاً نجحوا.
أما المرحلة الثانية لسرديّة التشكيك والإحباط فتأت بعد تحقيق النجاح وتتجلى بأن يشكك البعض هنا ليس في مقدرة الناس على التغيير وإنمّا في نتائج الجهود المبذولة ويتحدثون عن نجاح "غير كامل" أو "غير مستمر" أو "بلا أثر". في حملة "مش شاري" بقيادة الأردن تقاطع تصاعدت أصوات مثل "هذا مجرد تغيير اسم، لكن الإدارة والبضاعة هي نفسها"، و"من يضمن لنا انه التشغيل الجديد للمحال لن يطبّع مع الكيان".
تكمن خطورة سرديات التشكيك في كل مراحل النضال والتغيير أنّها تُغرّسنا بالإحباط، وتكرس شعور الهزيمة وبالتالي تضعف الثقة في جدوى العمل النضالي المنظم ، وهي تقوم بهذا بثقة واستهزاء دون أدلة واضحة، مسنودة فقط على شعور الشخص الذي يبثها بالإحباط اصلاً، أو على تكهنّاته الشخصية التي تحتمل الصواب والخطأ.
بصراحة في المثال السابق، حتّى وان اثبت المستقبل أنه فعلاً ستقوم الشركة المالكة والمشغلة لكارفور سابقا بالتحايل من خلال الاسم الجديد وبقاء تطبيعها بطريقة ملتوية مع الكيان، عندما يثبت ذلك إن حدث فلا شكّ أنّ الشعب الذي تضامن وتكاتف وتنظّم وقاطع، ونجح، سيعيد الكرّة بذكاء وتكتيكات جديدة. فبالنهاية النضال ليس جولة واحدة، هو جولات من التخطيط والعمل تنتهي بعضها بالنجاح، وبعضها بالفشل، ولكنها تبني قاعدة نحو خبرة تنظيمية لا يستهان بها.
في هذه اللحظات الحرجة التي نمر بها في العالم العربي، تصبح كل خطوة نحو التنظيم والعمل الجماعي تعبيرًا عن الإرادة الحرة. وكل تجربة تبني قوة الناس وتحركهم من دورهم الاستهلاكي إلى دور مجتمعي فعّال ولو بسيط تُعتبر تكثيف لخبرة نضالية نحو مجتمعات عزيزة كريمة مؤمنة بقدراتها وقادرة ان أرادت ثمّ إن تنظّت على التغيير.
التحدي في بث سرديات الإحباط والتشكيك أنّها ممُمارسة مجتمعية، تمارس في بيوتنا ومكاتبنا وبكلّ مكان، ونبثها بكبسة زر على الواتس اب، وبجمل عابرة في حديث أسري، نمارسها أحيانا من غير وعي لأسباب متعددة، أهمها ربما ما نعيشه اليوم من غضب وحزن وقهر على ابادة غزّة وحرب لبنان وما يحدث بالسودان، ولكن للاسف سبب تسرّب هذه السردية في أرواحنا ليس فقط مما نعيشه الآن، ولكنّه آتٍ بتغلل من أزمنة اضطهاد طويلة عاشتها منطقتنا وبلادنا، فحين نتعرّض لقمع طويل، يتشكل لدينا اعتقاد بأن أي محاولة للتغيير ستبوء بالفشل، مما يخلق نوعاً من المقاومة الداخلية لأية أفكار تغييرية فيتحول احباطنا وخوفنا إلى قوّة ذاتية تحد بذاتها التغيير.
وبالتالي فإن أفضل وسيلة لمواجهة سردية التشكيك خلال العمل التنظيمي هي متابعة العمل العمل التنظيمي، وتحقيق النجاح، وإدراك أنّ سردية التشكيك لا تنتهي بمجرد تحقيق النجاح بل تتطور، فعندما ننجح في تحقيق أهدافنا، تتحول هذه السردية من التشكيك في قدرتنا على التغيير إلى التشكيك في جدوى هذا التغيير ونجاحه أصلاً.
سرديّة التشكيك هي دوّامة احباط تمتصّك ولا تنتهي، لذلك يجب على " من قرر الانخراط في التغيير والنضال" أن يكون متيّقظا ولا يشارك عن غير قصد جزء من بثها وتعميمها، بل يحتفي بالقائمين على التغيير و بنجاحهم ويشجعهم على نشر النجاح وقوّة الناس للمساهمة على الأقل بوجود مساحة موزونة، فيها سردية تشكيك ولكن فيها أيضا دلائل قوة وقدرة على النجاح.
من المهم أيضاَ أن لا نتردد بخوض حوارات مع "المشككين" ، فمن يبث هذه السرديات ليس بالضرورة هم أعداء وليس بالضرورة يبثونها عن هدف واصرار، فأكثرهم احبابنا واهلنا وزملاء العمل، النقاش بهذه السرديات هو أولويّة مع صعوبته وعدم اعتيادنا عليه، خاصة في دوائرنا الضيقة، لأنّه من جهة يطوّر عضلاتنا وقدرتنا على الاحتفال بالانتصارات الصغيرة، ومن جهة أخرى يلعب دورا في تغيير نمطية التفكير بالنجاح عند المشككين، وإن لم يحصل هذا التغيير أثناء النقاش مباشرة لأنه غالباّ يتطوّر بالتدريج في عقلنا ما بعد النقاش.
عقود من التيه في عالمنا العربي، جعلتنا ننتظر ونؤمن فقط بالتغيير الجارف الذي يحدث دفعة واحدة، أو يأت على يد مخلّص واحد، ونهاب التغيير بخطوات بسيطة وبطيئة وأظن أنه هو الذي يراكم معرفة وخبرة نضال، لأنّ ثمنه مرتفع وطريقهُ طويلة، حتماً لن نستيقظ يوما من النوم لنرى التغيير أمامنا، لكننا بالتأكيد سنعيش حيثيات تخلق زخم التغيير يوماً بعد يوم إن لم نقاومه، وان شجعناه، ودافعنا عنه، فإن لم نستطع المساهمة في التغيير مباشرة، ولم نفرح بانجازات مجتمعية تنظيمية، على الأقل لا نثبّط عزائم من يطمحون لإحداث هذا التغيير.