وحدة الساحات والخداع الصهيونيّ لتجييش "القطاريز" من العرب



منذ انطلاق معركة "طوفان الأقصى" المباركة ومبدأ "وحدة الساحات" بمثابة كابوس مؤرّق، ليس فقط بالنسبة للكيان الصهيونيّ الذي وجد نفسه عالقاً ومستنزفاً ومتعثّراً على عدّة جبهات، بل وبالنسبة للأنظمة العربية الصديقة والحليفة للكيان بكون وحدة الساحات كانت وما زالت مصدر إحراج كبير لهذه الأنظمة أمام شعوبها، وإدانة مضمرة لمواقفها المتخاذلة أو المتواطئة مع مخطط الإبادة والتهجير الذي ينفّذه الكيان ورعاته بشكل ممنهج ضد الشعب الفلسطينيّ.

ولقد تدرّجت بروبوغندا الخداع للماكينة الدعائيّة الصهيونيّة، وأعوانها الغربيّون والعرب، في التعامل مع "معضلة" وحدة الساحات، من الخبيث فالأخبث فالأشد خباثةً، وذلك تبعاً للأحداث ومسار تطوّرها.

ففي البدايات اتّبعت الدعاية الصهيونيّة أسلوب التشكيك بوحدة الساحات، واتهام بقية جبهات الإسناد بـ "التغرير" بغزّة، و"توريطها"، وتركها وحيدةً في الميدان تدفع الثمن.

ومع دخول بقيّة جبهات الإسناد تباعاً إلى المواجهة، عدّلت الماكينة الدعائيّة الصهيونيّة من تكتيكها، وتحوّلت إلى أسلوب "التشكيك" في جديّة وحدة الساحات وجدواها، وتصوير الإسناد الذي تقدمه بقية الجبهات لغزّة بالشكليّ أو الاستعراضيّ أو الذي يأتي في حدوده الدنيا ومن قبيل ذرّ الرماد في العيون.

وكما في المرحلة السابقة، فلقد أطلقت الماكينة الدعائية الصهيونيّة العنان لترسانتها من "الذباب الإلكترونيّ" و"دهماء السوشال ميديا"، تعاونها في ذلك وسائل الإعلام العربية المتصهينة وذخيرتها الوافرة من مذيعي ومقدّمي وكتّاب التدخّل السريع، والخبراء والمحلّلين والأكاديميين المرتزقة.

ولكن مع تصاعد وتيرة المواجهة على سائر جبهات الإسناد، وتحوّل كلّ جبهة من هذه الجبهات إلى جبهة رئيسيّة بحدّ ذاتها، وازدياد حجم الاخفاقات التي يُمنى بها الكيان والصفعات التي يتعرّض لها من قبل أبطال المقاومة من كلّ الجهات.. ما عادت بروبوغندا الكيان التي دخلت مرحلة من التخبّط و"الولدنة" تُجدي في التهوين من شأن "وحدة الساحات" أو الطعن بها، أو إنكار أثرها ومفاعيلها على الأرض ومآلات المواجهة.

ومؤخراً، ومع استماتة الكيان (رغم إنكاره ومكابرته وغطرسته) للتخفيف من وطأة الاستنزاف الذي يتعرض له وتداعي جبهته الداخلية، وأمله بتحييد واحدة أو أكثر من جبهات الإسناد، وعلى وجه الخصوص الجبهة اللبنانيّة، حتى تتسنّى له الفرصة لالتقاط أنفاسه قليلاً، واستجماع شتاته، وبناء استحكاماته، والاستفراد بجبهة غزّة وإتمام "مهمّته" فيها وفرض "الأمر الواقع" الذي يريده.. فقد عمد الكيان إلى تغيير أسلوبه مرّة أخرى في التعاطي مع وحدة الساحات، ولجأ إلى أسلوب جديد هو "التطنيش".

فها هو الكيان وأعوانه وأبواقه يتحدثون عن مفاوضات وقف إطلاق النار في لبنان، سواء في تأزّمها، أو في انفراجتها، والخلاف على البند الفلاني، والتوافق على النقطة الفلانيّة.. دون التطرّق من قريب أو بعيد إلى غزّة، وكأنّ وحدة الساحات غير موجودة البتّة، وكأنّ الفصل بين الجبهات/ الساحات هي مسألة محسومة وتحصيل حاصل ومن نافلة القول.

بل إنّ العدو ومن لفّ لفيفه يتعمّدون "تطنيش" تصريحات المقاومة اللبنانيّة نفسها، وتأكيداتها المتكرّرة بأنّه لن يكون هناك اتفاق لوقف إطلاق النار في لبنان ما لم يكن هناك اتفاق موازٍ لوقف إطلاق النار في غزّة تقرّ به المقاومة الفلسطينيّة ويلبّي شروطها.

وها هي تصريحات العدو ومزاعمه تتوالى عن نضج اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان (دون أن نعرف للآن حيثياته وتفاصيله النهائيّة)، وقرب إبرامه اليوم أو غداً أو بعد غد.. وغزّة مغيّبة تماماً، بل وحتى صوت المقاومة اللبنانيّة مُغيّب ويتم تجاهله بشكل متعمّد مع أنّها الطرف صاحب الكلمة الأخيرة والقول الفصل في أي اتفاق سيبرم!

الهدف من هذه المقاربة القذرة مزدوج: فأولاً إحراج المقاومة اللبنانيّة أمام شقيقتها الفلسطينيّة، وإظهارها بمظهر التي تفاوض منفردةً ومن أجل نفسها وقد تخلّت عن وحدة الساحات واستحقاقاتها. وفي مرحلة لاحقة إحراج المقاومة أمام بقية مكوّنات الدولة اللبنانيّة والتيارات السياسية والطائفيّة المناوئة لها.

ففي حال رفضت المقاومة اللبنانيّة إبرام أي اتفاق بمعزل عن وحدة الساحات (وفي نفس الوقت قامت الحكومة اللبنانيّة بتوقيع الاتفاق من طرفها دون انتظار موافقة المقاومة، أو التلاعب في صيغة ما تمّت الموافقة عليه وما تمّ توقيعه، أو توقيعه من طرف واحد فقط)، فإنّ هذا سيشرع الباب أمام خصوم المقاومة لاستخدام الورقة الدعائيّة التي سبق وأن استخدمتها وأرست لها أنظمة التخاذل العربيّة، واتهام "حزب الله" بأنّه يرهن مصير لبنان ومصلحته ومصلحة شعبه العليا بـ "خيارات الآخرين السياسيّة" التي فرضوها على الكلّ دون مشاروة أحد (والمقصود بذلك المقاومة الفلسطينيّة وقرارها بشن هجوم 7 أكتوبر المبارك).

وهذا سيمنح خصوم "حزب الله" في الداخل والخارج الذريعة لتصعيد لهجتهم أكثر، والمجاهرة أكثر وأكثر بالأدوار الوظيفيّة المشبوهة والعميلة التي طالما لعبوها بحكم ارتباطاتهم وولاءاتهم وشبكات مصالحهم الخارجيّة، ومنح الكيان الصهيونيّ الفرصة للعب مرّة أخرى على وتر الانقسامات والتشرذمات (وربما الصدامات) العربيّة ـ العربيّة الداخليّة، وتجييش قطاريزه من العرب ضد مقاوميه من العرب، وأن يحقق بالتآمر ما عجز عن تحقيقه في "الميدان"!

"وحدة الساحات" هي جزء من كلٍّ أكبر اسمه "الوحدة العربيّة" (والإسلاميّة)، وهذه الكلمة "الوحدة العربيّة" هي من أبغض الكلمات على نفس المشروع الرأسماليّ الإمبرياليّ الغربيّ، وعلى نفس الكيان الصهيونيّ الذي ما أُوجِد أساساً إلا من أجل خلق عائق فيزيقيّ ماديّ يحول دون هذه الوحدة، وعلى نفس الأنظمة القُطريّة العربيّة التي أوجدها الاستعمار لتكون كيانات وظيفيّة الهدف الأول منها الحيلولة دون اتحاد العرب والمسلمين وإعادة إنتاج الهيمنة الغربيّة.