الطوفان وأزمة عزمي بشارة
كتب موسى السادة - شكَّل الطوفان والتحوّل العربي والعالمي في وضع القضية الفلسطينية أزمة فكرية للدكتور عزمي بشارة. فقد أتت إرهاصات هذه الحرب بشكل يتناقض مع ما دأب بشارة على طرحه من مقاربة (جديدة) للقضية الفلسطينية من ناحية تشخيصها واستراتيجية العمل المطلوب تبنيها. إن ما أحدثه الطوفان له أثر متعدد الأبعاد، من تحوّل على مستوى الشعب الفلسطيني نفسه، وآخر في داخل بنية جسم العدو كمجتمع ودولة، وأيضاً في الوضعين العربي والإقليمي، وأخيراً في الوضع الدولي والرأي العام العالمي. إلا أن بشارة يصر رغم كل ذلك، على تحييد هذه التحولات جانباً والإصرار على الاستمرار على ذات الطرح والمنظور بشكل جامد، وفي حيّز متعالي على الواقع والتحولات التي تحدث فيه في السنين الأخيرة. إن الأزمة التي يواجها بشارة هي أنه إنْ أسقط ما يطرح من منظور واستراتيجية على أرض الواقع وشكل العالم وفلسطين ما بعد الطوفان فسيضطر لمواجهة حقيقة فشل مقاربته من كل نواحيها.
أطروحة عزمي بشارة للقضية الفلسطينية
قدّم بشارة منظوره للقضية الفلسطينية في ثلاثة كتب: صفقة ترامب – نتنياهو: الطريق إلى النص ومنه الجواب على سؤال ما العمل؟ (2020)، قضية فلسطين أسئلة الحقيقة والعدالة (2022)، وأخيراً، الطوفان الحرب على فلسطين في غزة (2024). وعلى الرغم من الأحداث المفصلية خلال الأربع سنوات الماضية من اتفاقيات التطبيع، والتحولات الداخلية في كيان الاحتلال، مروراً بمعركة سيف القدس، وصولاً إلى زلزال طوفان الأقصى، فإن الأطروحة السياسية لبشارة ظلّت نفسها، متماسكة بشكل حرفي وبذات الجمل والمفردات. كان صدور كتاب (قضية فلسطين) باللغة الإنكليزية، كتوسعة لجواب ما العمل في الكتاب الذي سبقه. إلا أن ترجمته العربية لم تصدر سوى بعد عامين، أي بعد حدوث الطوفان، مما دفع بشارة لإصدار كتابه الأخير بالتوازي، والحرب لم تنه شهرها الرابع، والذي حمل عنوان (الطوفان).
تقوم الأطروحة النظرية لبشارة على إعادة بناء وتشخيص ماهية القضية الفلسطينية، وإعادة تقديمها بشكل مختلف يستدعي وفقاً له منظوراً ووسائل مختلفة. يقوم التشخيص على أن فلسطين تشغل حيّزاً ما بين "النظام الاستعماري الاستيطاني الفرنسي في الجزائر ونظام الاستعمار الهولندي الذي أنتج الفصل العنصري في جنوب أفريقيا” (1). وما يقوم به بشارة هنا هو التسليم باختلاف البنية التاريخية للاستعمار الصهيوني في فلسطين بين الأرض المحتلة عام 48 وتلك عام 67. وبالتالي، يبني على ذلك، أن هذه الحالة الاستثنائية تمزج بين الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني، وتستدعي استراتيجية عمل جديدة. هذه الاستراتيجية هي الأخرى، تشغل حيّزاً ما بين ما يتكرر عن (حل الدولة الواحدة) و(حل الدولتين)، وذلك للوصول لدولة واحدة ثنائية القومية تحفظ للعرب و”الإسرائيليين اليهود” هويتهم "القومية”، بما "يوفّر بديلاً عقلانياً وعادلاً للإسرائيليين اليهود” ولتجتمع "الشخصيتين الوطنيتين المتمايزتين وتطلعاتهما”(2) تحت الإطار القانوني للمواطنة والديمقراطية والعلمانية. أي أن البنية التحتية التي ينطلق منها بشارة في تشخيصه أن المشكلة وما يحدث في فلسطين هي حول مفهوم المواطنة في بقعة أرض يتشاركها "شعبان” وإنْ كان "الشعب الإسرائيلي” يقوم على أساس مشروع استعماري. والمثير هنا، أن بشارة يطرح حله "العادل” كمواطن إسرائيلي يساري أكثر من اليسار الإسرائيلي نفسه، منطلقاً من تسليم بنجاح الصهيونية في فرض واختلاق "هوية قومية” حديثة يقع وزر تخيّلها خارج صهيونيتها على العرب، وأيضاً في أكثر لحظات إطلاق كل الطيف السياسي الصهيوني من الديني إلى الأكثر "حداثة وديمقراطية” العنان لذاتهم الإبادية في استعادة للحظة 1948. أما عن وسيلة تحقيق المواطنة المتساوية، فهو مسار عبر دمقرطة العمل الفلسطيني المقاوم، وبناء المؤسسات الديمقراطية وضم القوى الديمقراطية في المنطقة والعالم.
الكفاح المسلح: بين منظوره وبين الواقع
ولكي يقدم بشارة مثل هذا الطرح كان لا بد له من نقض الأطروحات الأخرى، من مسار المفاوضات والسلطة الفلسطينية، وبشكل أبرز خيار المقاومة والكفاح المسلح. فبالنسبة له يعد الكفاح المسلح استراتيجية قديمة، "وأن الواقع العربي الذي سمح بظهور المنظمات المسلحة تغير إلى غير رجعة”(3). مضيفاً أن المقاومة المسلحة المنظمة الراهنة في غزة ولبنان قد "أوضحت بالقول والفعل أنها شكل منظم من الدفاع والردع”(4) و”أنها لا تشكل استراتيجية للتحرير بل للدفاع عن القطاع وحماية المنجزات السياسية لسلطة حماس الحاكمة” (5). وأن "حزب الله” و”حماس” لم يبدآ أو ينطلقا كحركة تحرر وطني ولم يتطورا إلى حركة تحرر بمرور الزمن، بل إنهما حركتا مقاومة ضد احتلال أرضهما تطورا إلى قوتين سياسيتين لديهما قدرة على الردع، لا التحرير، فلم يتحقق التحرير أو أي تقدم في هذا الاتجاه وفقاً له، وهو ما يشمل عملية طوفان الأقصى حيث أنها وفقاً له تندرج أيضاً ضمن العملية الردعية.
أزمة الأطروحة في ضوء الطوفان
أتى الطوفان ليعمل عبر التجربة والرهان على تفكيك أطروحة بشارة، ففي حين يتعمد بشارة تقديم حركات المقاومة كنماذج جامدة تاريخية، عبر تزييفه المتكرر لقولها وفعلها وعن واقع انخراطها الحثيث والجاد في مسار تحرري طويل ومستمر لتحرير كامل فلسطين. قد جاء الطوفان كأوج لزخم تراكم استراتيجي من العمل الكفاحي المسلح المستمر ضد المستعمرة الصهيونية، وعلى الرغم من التقديم الجامد لبشارة لسردية "الدفاع والردع” فإن الاستراتيجية العربية التحريرية قائمة على تشخيص الاستعمار الصهيوني كنموذج للاستعمارات الاستيطانية والاحتلالات الامبريالية. وعليه، البناء على التجارب السابقة في فيتنام والجزائر والصين وغيرها وصناعة الشخصية التحررية وآلية العمل الفلسطيني والعربي تحت هذه المظلة. كل ذلك، ضمن هدف ضرب المستعمرة وإيذاء بنيتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية الدائم حتى انهاكها وتفكيكها.
يدعي بشارة تغير الواقع العربي المرتبط بالمنظمات المسلحة، وهو ادعاء صحيح، إلا أن التغيير على عكس ما يزيّفه، فقد جاء لمصلحة حركات وقوى المقاومة، حيث شكل الطوفان سابقة تاريخية لم تحدث في تاريخ النضال الفلسطيني على طول ومدى وأثر وحجم مشاركة القوى المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني. يصف بشارة في مقال له بعد اغتيال الأمين العام "لحزب الله” أهمية هذه المعارك والهجمات العسكرية بالمعنوية وأنه "تتم مبالغة أهميتها العسكرية” (6)، ومن أن بشارة نفسه، وبعهدها بأسطر يقر بأنه "تنذر المعركة الدائرة في غزة ولبنان بين إسرائيل وفصائل المقاومة بإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، وسيترتب عليها نتائج كبيرة في اتجاه نجاح المشروع الإسرائيلي أو إفشاله” (7)، لكي تتحول الأهمية المعنوية إلى نتائج كبيرة تعيد تشكيل كل المشهد.
يتعمد نقد بشارة للكفاح المسلح الخلط بين مفهومي النصر والهزيمة العسكريتين، معتمداً مفهوم النصر والحسم العسكريين بين الجيوش والقوى المتناظرة، وأن الانتصارات فيهما جلية لطرف. وعليه، فهو يصر على تكرار أن نتيجة المعارك ضد العدو الإسرائيلي في غزة ولبنان ليست "نصراً عسكرياً” بل "مقاومة بطولية”. تنطلق المسألة هنا من رفض بشارة الحثيث واللاعقلاني بأن الكفاح المسلّح اليوم ضد الصهيوني يندرج ضمن إطارين:
(1) أن فلسطين قضية استعمار وتحرر وطني تشكل امتدادا للجزائر وفيتنام وغيرهما، وأن المقاومة العربية في لبنان وفلسطين نماذج تحرر وطني.
(2) أن مفهوم النصر العسكري في نموذج حركات التحرر والحروب اللاتناظرية، بين الجيوش الاستعمارية والمقاومات الشعبية، مفهوم قائم بذاته. وهو مفهوم يقوم على معيار أن النصر العسكري ونجاح الكفاح المسلح قائم على المقاومة البطولية وإفشال العدوان.
بتعبير آخر، أن النتيجة والثمن الاستراتيجي الذي تحصله الجيوش النظامية في الانتصارات المتناظرة، تحصل عليه حركات التحرر بالانتصار اللامتناظر. يضاف إلى ذلك، أن آلية عمل استراتيجية الكفاح المسلح هي عملية تراكم هذه الانتصارات اللامتناظرة في إفشال أهداف العدو وصلابة المقاومة البطولية. وهذا تحديداً ما يشير له بشارة في اعترافه بأن نتائج المعركة "سيترتب عليها نتائج كبيرة اتجاه نجاح المشروع الإسرائيلي” و”تغيير المشهد الإقليمي”، وهذا تحديداً هو جوهر الصراع ومعيار النصر فيه، وبدون هذا المعيار للانتصار تكون جميع تجارب فيتنام والجزائر "ليست نصراً عسكرياً”.
تشخيص خاطئ لحركة التضامن العالمية
أما الجانب الآخر، والذي حاول بشارة تداركه وتزييفه، يقوم على محاولته التغطية على انهيار نموذج تحالف من يطلق عليهم "الديمقراطيين الفلسطينيين” مع القوى الديمقراطية وحركات التضامن المؤمنة بالقيم الليبرالية. فقد أنتج الطوفان، وباعتراف بشارة، أكبر حركة تضامن شعبي حول العالم منذ النكبة. إلا أنه يزيّف من جديد أمرين، حيث يصر في كتابه عن الطوفان، على إحالة منجز التضامن العالمي إلى حجم الفظائع الإسرائيلية والتعاطف الشعبي معها، وكذلك ادعاء مزيف أن هذا المنجز لم يكن بحسبان حركة حماس. بينما واقع الأمر، أن خطاب الشهيد يحيى السنوار ما قبل الطوفان وبيان القائد محمد الضيف يوم السابع من أكتوبر، وخطاب المتحدث الرسمي لكتائب القسام أبو عبيدة يؤكد على هذا، رؤية هذا الهدف والمنجز. والأهم في ذلك، هو رفض بشارة لواقع أن حركة التضامن العالمية الأكبر لم تبن عبر تبني خطاب الديمقراطية والقيم الليبرالية، بل أن الجماهير ومن قلب عواصم الديمقراطيات الغربية العريقة تهتف وتحتشد وتعبر عن وقوفها مع حق المقاومة المسلحة في فلسطين ولبنان واليمن. ويضاف إلى ذلك، كيف كشف الطوفان دجل منظومة القيم الديمقراطية الغربية، والانهيار الكامل والفاضح للمنظومة الدولية القائمة على خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة والعدالة، ذات القيم التي نظّر بشارة التمترس خلفها للتصدي للمشروع الصهيوني.
أزمة بشارة الفكرية كامتداد لأزمة الأيديولوجيا الليبرالية
تكمن المسألة هنا في الجوهر الأيديولوجي لبشارة القائم على القيم الليبرالية، وتخيل أن العالم الغربي هو ذاته العالم الليبرالي في نهاية التسعينات، وأن التاريخ حقاً انتهى مع مقال فرانسيس فوكوياما. ويتضح ذلك في حديث بشارة عن المظاهرات الطلابية التي عصفت بالجامعات الغربية، ففي إحدى مقابلاته التلفزيونية، يحاول بشارة تخيل الواقع الطلابي والجماهيري الغربي كنوع من التعفف من الأيديولوجيا و”اللا أيديولوجي” والمنطلق من قيم الأخلاقية فقط (8). رغم أن تعريف الأيديولوجيا الذي يقفز عليه الدكتور هو بالأصل حزمة من القيم الأخلاقية والسياسية، فهنا تكون "اللا أيديولوجيا” هي أيديولوجيا. إلا أن أساس المسألة، هو أن العماد الصلب للنشاط الطلابي والجماهيري في الغرب بعد كتلة المهاجرين العرب الأساسية في هذه النضالات، هي أدلجة هؤلاء الشباب وليس لا أدلجتهم، بل أن المسألة هي انتماؤهم اليساري والتحرري الراديكالي وإيمانهم بالكفاح المسلّح والمقاومة ونفورهم من انكشاف سقوط البنية الأخلاقية للخطاب الليبرالي الديمقراطي للبنية الحاكمة في الغرب ومؤسساتها غير الحكومية. وهو ذات الانتماء الراديكالي الذي يبخّس منه بشارة أمام أهمية الأطروحات الأكاديمية المحكّمة كمنظور للقضية الفلسطينية، الذي يشير في كتاب (قضية فلسطين) إلى انتهائه منذ الستينات أمام اليسار الليبرالي الديمقراطي اليوم، بينما واقع الحال، أن هذا المنظور الراديكالي المعادي للاستعمار يشهد إعادة ولادة في كل من أوروبا والولايات المتحدة، في مقابل صعود آخر للتيارات اليمينية.
إن صلب أزمة بشارة مع الطوفان أن صوت الأكاديميا والتنظير الحبيس في الصالونات الثقافية ودفات الكتب يدخل في امتحان حقيقي ما إن تقع المعركة، وفي هذا الامتحان برزت هشاشة منظور بشارة ولتذهب كل الجهود والموارد التي عمل عبرها في تقديم أطروحته. والخطير واللا أخلاقي واللا وطني وبل حتى اللا علمي أو أكاديمي هو التكابر على المراجعة والنقد الذاتي والإصرار على ذات المنهج، ولو كلف ذلك الاستمرار في الحديث أن الطريقة المثلى لمواجهة مشاريع الصهيونية ومخططاتها الدينية في إبادة غزة والانتقال الذي بدأ بمشروع خطير في الضفة، بتواطؤ مع كل الديمقراطيات الغربية، لتصفية القضية الفلسطينية يكون عبر المسار الديمقراطي، والانشغال بالكتابة عن "فشل” الكفاح المسلح في وسط احتدام المعركة التي ترسم كل المشهد العربي لقرون قادمة، بدلاً عن تسخير القدرات والموارد السخية لخدمتها.
نقلا عن تقدم