سوريا: قراءات مؤسفة في واقع مزرٍ!



في حين تتجه جميع الأنظار إلى ما يحدث شمال سوريا، فإنّ الخطر الحقيقيّ هناك في الجنوب!

بحجّة "داعش" ومكافحة الإرهاب احتلّت أمريكا شرق الفرات، والآن بحجّة "النُصرة" وخطر الإرهاب سيسعى الكيان الصهيونيّ (وقد يشترك معه في ذلك بعض العرب) لاحتلال بقيّة الجولان والمنطقة بطول الحدود السوريّة - اللبنانيّة لإقامة "محور فيلادلفيا" جديد هناك.

وحتى تكون الحبكة متينة أكثر، قد يستدعي الأمر إعادة تحريك "الإرهابييّن" وعصابات المسلّحين والمهرّبين في الجنوب السوريّ لخلق مبرّر لدخول قوّات تضبط فوضى الحدود التي يعجز النظام في دمشق عن ضبطها!

والهدف من ذلك كلّه تأمين "خط المواجهة" الوحيد غير المؤمَّن للآن بالنسبة للكيان الصهيونيّ (بعد أن تمّ تأمين جبهتي الأردن ومصر منذ وقت طويل)، وذلك عن طريق قطع التواصل الجغرافيّ لممر أو كاريدور الإمداد الممتد من إيران فالعراق فسوريا فالجولان وجنوب لبنان.

من هنا يأتي سرّ التقهقر السريع للجيش السوريّ، وتراخي حلفائه في مساعدته وإسناده؛ فهم يدركون أنّ الهدف هو تشتيت الموارد والقدرات، وجرّ الجيش السوريّ وحلفائه إلى حرب استنزاف في الشمال تُضعف من قدرتهم على صدّ ودرء المؤامرة في الجنوب!

وفي نفس الوقت، فإنّ هذا التحرّك السريع في الشمال سرعان ما سيرتدّ وفق هذا السيناريو في وجوه الفصائل التي قامت به وداعميها، وفي مقدمتهم تركيا، وذلك من أجل تأمين وإسناد وإمداد وإدارة هذه الجغرافيا والديموغرافيا الواسعة التي دخلوا إليها، وورّطوا أنفسهم بالسيطرة عليها، أي أنّ المُستنزِف سيتحوّل إلى مُستنزَف!

هذا هو الاحتمال الأول لقراءة تطورات الأحداث الأخيرة على الساحة السوريّة (وأتمنّى شخصيّاً أن يكون الاحتمال الصحيح)، وهو مبنيّ على فَرَض أساسيّ مفاده أنّ محور المقاومة ما يزال موحّداً ومتماسكاً، ومنظومة تحالفاته وشراكاته ما تزال قائمة.

ولكن في ضوء كِبَر نطاق الصراع، وحجم تداخلاته وتعقيداته وتشعّباته وتقلّباته وتبدّلاته الإقليميّة والدوليّة بين قوى مهيمنة وقوى صاعدة، وذلك في إطار "حرب عالميّة" يُحجم الجميع للآن عن تعليق الجرس وتسميتها رسميّاً "حرباً عالميّة".. فإنّ هناك احتمالات أخرى مبنيّة على فرضيّات أخرى لتفسير ما يحدث في سوريا، تتدرّج من السيء إلى الأشدّ سوءاً!

الاحتمال الثاني هو أنّ الانهيار الحاصل في الشمال قد حدث فعلاً رغماً عن أنف النظام السوريّ وليس من قبيل التكنيك وإعادة التموضع وتجنّب الانجرار إلى حرب استنزاف، وبوتيرة أسرع من قدرة حلفاء سوريا على تدارك الوضع ووقفه وعكس اتجاهه، وأنّ الجيش السوريّ وقاعدته الشعبيّة قد فقدا فعليّاً قدرتهما على الصمود، أو بالأحرى إرادة الصمود، وهذا احتمال وارد بشدّة في ضوء سلوك النظام السوريّ نفسه!

فمنذ انحسار الهجمة الشرسة على سوريا بفضل التدخّل المباشر للأصدقاء وفي مقدّمتهم روسيا و"حزب الله"، ومنذ استعادة كثير مما سقط وبشكل خاص "حلب"، ومنذ تفاهمات "إستانة" وما تلاها.. والنظام السوريّ يتصرّف بأسلوب الطفل الأرعن الذي يصرّ على عدم تعلّم الدرس!

فبمجرد عودة الهدوء "عادت حليمة لعادتها القديمة" وكأنّ شيئاً لم يكن، وإلى جانب آثار الحرب وويلات الحصار (قانون قيصر)، عاد الشعب السوريّ المسكين ليعاني الأمريّن على يد مراكز القوى والمتنفّذين واللصوص والفاسدين والشبّيحة وتجّار الحرب، وأسوأ حتى مما كان الوضع عليه قبل اندلاع ما يُسمّى "الربيع العربيّ"!

وبدلاً من مكافأة الشعب السوريّ على إخلاصه وصموده وتضحياته، بات الوضع وكأنّ المطلوب هو معاقبة كلّ مواطن سوريّ لم ينشق، أو لم يستمرئ اللجوء، أو لم يفرّ بأمواله ومصالحه إلى الخارج، أو لم يركب البحر بحثاً عن مهجر مترف في أوروبا!

هذا السيناريو هو الأشدّ كارثيةً بالنسبة لمحور المقاومة وحلفاء سوريا، والأكثر بهجةً بالنسبة لأعداء المقاومة وسوريا وفي مقدمتهم الصهيونيّ والأمريكيّ!

السيناريو الثالث هو أن يكون هذا الانهيار مقصوداً من قِبَل النظام السوريّ، ولكن هذه المرّة من أجل ابتزاز حلفائه وتوريطهم في حرب استنزاف على التراب السوريّ تشتت تركيزهم وتضعف موقفهم على جبهات أخرى ذات أولويّة، مثل الجبهة الأوكرانيّة بالنسبة لروسيا، أو جبهة جنوب لبنان وغزّة بالنسبة لإيران.

فمرّة أخرى سلوك النظام السوريّ منذ استعادة الهدوء على يدّ حلفائه لا يبعث على الاطمئنان ولا يوحي بالثقة!

فانفتاح النظام السوريّ على بعض الأنظمة العربية التي كانت بالأمس القريب تجيّش ضده وتموّل العصابات التي تحاربه وتقضم أوصاله.. هو انفتاح يدعو إلى الريبة والتوجّس، وبما يتجاوز الرغبة الورديّة بالمصالحة أو رأب الصدع أو لمّ الشمل العربيّ، سيما وأنّ مِن هذه الأنظمة مَن يرتبط بعلاقات تطبيع وثيقة مع الكيان الصهيونيّ، ويقف قلباً وقالباً إلى جانب الكيان ضد المقاومة الفلسطينيّة و"طوفان الأقصى".

كما أنّ مجريات المواجهة خلال الـ (420) يوماً الماضيّة كشفت عن خروقات أمنيّة واستخباراتيّة كبيرة تعرّضت لها منظومات محور المقاومة، وبالأخص ما حدث مع "حزب الله"، والاحتمال الأكبر أنّ مثل هذه الخروقات قد حدثت، أو على الأقل ابتدأت، من البوابة السوريّة بحكم وضعها المتداعي، وبكونها الخاصرة الأمنيّة الأضعف والمستباحة، وبكوننا في الحالة السوريّة لم نعد قادرين، ولم يعد النظام السوريّ نفسه قادراً، على الجزم مَن هو الفاسد ومَن لا؟! ومَن الذي باع واشترى ومَن لا؟! ومن هو الذي انشقّ وخرج ومن الذي انشقّ وطُلب منه أن يلزم مكانه للاستفادة منه عند اللزوم؟!

السيناريو الرابع هو أن يكون حلفاء النظام السوريّ قد أدركوا أنّ صلاحيّته وإمكانيّة الاعتماد عليه والمتاجرة به قد انتهت، سواء لتداعيه، أو لفساده، أو لـ "لغوصاته" و"ألاعيبه السياسيّة".. لذا ارتؤوا أنّ أخفّ الضرر هو أن يُترك هذا النظام لينهار، على الأقل في الشمال، ولتنتقل أراضيه ومناطات نفوذه إلى التركيّ الذي يمكن للروسيّ والإيرانيّ والعراقيّ الدخول معه في تفاهمات على قاعدة "المصالح المشتركة".

هذا السيناريو يقتضي أنّ النظام التركيّ ورئيسه ما يزالان يحتفظان بحدّ أدنى من الشرف والمروءة والغيرة.. خلافاً للكلاحة وانعدام ماء الوجه الذي تتميّز بها البرجماتيّة الأردوغانيّة في الظاهر!

وهناك سيناريوهات فرعيّة أخرى محتملة، كأنّ يكون الروسيّ والأمريكيّ، والإيرانيّ والأمريكيّ، والتركيّ والأمريكيّ.. قد عقدوا صفقات وتفاهمات من تحت الطاولة على حساب سوريا والدولة السوريّة. ولن يكون مستغرباً لو تبيّن أن النظام السوريّ نفسه هو جزء من هذه التفاهمات، كأن يوافق النظام على مخطط تقسيم سوريا مقابل أن يحتفظ لنفسه بدولة علويّة على الساحل تمتلك الموانئ والغاز، وتحتضن القواعد الروسيّة، أما بالنسبة للمجاهدين والثوّار السُنّة في الداخل "فليذهبوا للجحيم"! وليهنؤوا بأرضهم اليباب منزوعة الموارد والمخنوقة من كلّ الجوانب (ومثلهم سُنّة العراق)، وليستمتعوا بعبوديّتهم العصريّة عند الأمريكيّ والصهيونيّ كخزان بشريّ من العمالة الرخيصة ضمن مشاريع "الشرق الأوسط الجديد" و"صفقة القرن" و"السلام الاقتصاديّ"!

الاحتمالات والسيناريوهات عديدة، وهي رهن بمسار الأحداث وتطوّراتها على الأرض، ومرّة أخرى أتمنّى أن يكون الاحتمال الأول هو الصحيح بكونه أهون الضرر، وباعتبار أنّ الخاسر الأكبر وفق بقية السيناريوهات هو فلسطين وغزّة و"طوفان الأقصى"!

أمّا بالنسبة للأردن، فكمواطن أردنيّ غيور، أحب بلدي وأغار عليه من نسمة الهواء، وفي نفس الوقت لا أرى معنى لأردنيّتي وانتمائي بمعزل عن امتداد الأردن العروبيّ وعمقه الإسلاميّ، والقضية الفلسطينيّة هي قضيتي المركزيّة شأنّي في ذلك شأن أي مواطن شريف وعربيّ أبيّ ومسلم ملتزمٍ وإنسان صاحب فطرة وحسّ سليمين.. فإنّ ما يعنيني هنا بشكل خاص أنّ جميع السيناريوهات أعلاه تقتضي أن يلعب الأردن طوعاً أو كرهاً دوراً ما في الجنوب السوريّ/ الشمال الأردنيّ، وهو ما يستدعي من جميع الأردنيين المخلصين الحذر، شعباً، وقوىً شعبيّةً وحزبيّةً، وصانعي القرار الرسميّ والأمنيّ والعسكريّ، وعدم السماح لأيّ كان بخداع الأردن، وجرّه أو توريطه للعب أدوار ما في الداخل السوريّ (وبالمثل في الضفة)، أو استخدام أراضيه منطلقاً لذلك، مهما كانت الأعذار والمبرّرات، ومهما كانت الوعود المبرمة والضمانات المُقدّمة.

وهنا نذكّر أنفسنا بأنّ بوصلة الأردن كانت وما تزال وينبغي أن تبقّى موجهةً إلى فلسطين والقدس، وهو العهد الذي تشرّبناه ونتشّربه جميعاً من نشيد "جيشنا العربيّ" مصدر فخرنا وصمام أماننا:

((يا قدس يا أرض الهدى
أرواحنا لكِ فدا
غداً سنلتقي غدا
على ثراكِ الطيبِ
يا جيشنا يا عربيّ)).