سكجها يستحضر كتابة:السَيف الدِمشقي، وكمال جُنبلاط، وحافظ الأسد!
هذا فصل من كتاب: أنا، ولكن، أستحضره الآن، في هذا الوقت بالذات، ولا أنسى أن أذكّر بمقالتي أمس التي حملت عنوان: الأسد وحيد في عرينه الدمشقي وغداً أمر! وحمى الله الحبيبة سوريا!
كانت الوجهة الغالبة، لنا، في تلك السنوات، بَيروت، وكانت الشام مكان توقّف في العودة، نتجوّل في سوق الحميدية، ونتبضّع، بعد أن نأكل البوظة الشامية الشهيرة عند بكداش، ثمّ ننام ليلة، ونتزوّد صباحاً بأطايبب حلوياتها، ونعود إلى عمّان. تلك كانت العادة، أمّا إذا كان الوقت صيفاً، ومَعرض دمشق الدولي منعقداً، فكانت الوجهة خصّيصاً للشام، نَقضي فيها أسبوعاً، أو أكثر، بين مطاعم على ضفّة بَرَدى، أو في الزبداني، وأخذتنا الطريق مرّة إلى اللاذقية.
على أنّ زيارتي لها، تلك التي حَملت مُفارقات أبعدتني عنها أربعة وثلاثين عاماً، باستثناء مرور عابر، لم يَدم سوى ليلة واحدة. أتت بالصدفة: كان والدي نقيباً للصحافيين، ومدعوّاً لحضور مؤتمر الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية، فجَهّز للسفر مع نقيب الأطباء الدكتور حسن خريس بسيارته، وفي اللحظة الأخيرة تغيّرت الترتيبات، لعطل في السيارة، وهكذا فكان الحلّ السريع أن أقود بهما سيارة أبي، وهذا ما كان.
نزلنا في قصر الشرق، وهو ناد، وفندق، ومنتجع، فاره للضباط بالقرب من موقع المناسبة: قاعة العمال، وأمّن لي والدي أسباب حضور الفعاليات، وأوّلها حفل عشاء برعاية حافظ الأسد. وَجَدت نفسي على طاولة طويلة واحدة، مع شخصيات لا أراهم سوى على الشاشات: فاروق القدومي، نايف حواتمه، جورج حبش، أبو إياد، أبو جهاد، وزهير محسن الذي أذكره، هُنا، وكان زعيماً لتنظيم "الصاعقة” الفلسطيني، التابع لحزب البعث السوري، لأنّه قال، ضِمن حوار طويل: كثيرون يطالبوننا بإغتيال أنور السادات. في اليوم التالي، كنّا في القاعة الكبيرة المحتشدة، وفي الصفّ الأوّل، يجلس حافظ الأسد وأركان حكمه، وكلّ قادة الثورة الفلسطينية وأولهم ياسر عرفات، وكلّ أركان الحركة الوطنية اللبنانية، وأوّلهم كمال جنبلاط.
نحن، الآن، في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1975 ، في الشهر السادس من عُمر الحرب الأهلية اللبنانية. ألقى عرفات خطبة دعا فيها الأسد إلى حماية الثورة، إذا تدخّلت إسرائيل، وكُنت أستمع له لأوّل مرّة في خطاب جماهيري، ولكنّ الموضوع ليس هنا، بل هو في كمال جنبلاط، الذي كانت شخصيّته تَفتنني، فأراه قدّيساً يَجمع كلّ أسباب الحبّ والتقدير، وحين وقف على المنصّة، هاجَت القاعة بتصفيق بدأه الأسد، ولستُ أنساه يوجّه كلامه له، فيقول: نريد أن نضرب بسيفكم في لبنان يا سيادة الرئيس.
كانت جُملة بَليغة، فالسيف الدمشقي هو الأصلب، والأبتر، في تاريخنا القديم، والحديث، أيضاً، ولكنّها لم تكن جملة حَكيمة، كما ستعلن الأيام، بعد قليل.
كان جنبلاط يدعو الأسد، بصراحة، ودون مواربة، وعلى مَسمعي، للتدخّل عسكرياً في بلده، وبعد ثلاثة أشهر، كان الجيش السوري يدخل لبنان، ولسبب مُناقض تماماً، فحاربت قوّاته ضيوفه بالأمس، وحاصرت مخيّم تل الزعتر. ودمّرته.
كُنت، أيّامها، أدرس في مصر، ومصدرنا الإخباري إذاعة مونت كارلو. وفي يوم كانت أغنية :”أحنّ إلى خُبز أمّي” لمارسيل ودرويش تَستغرق الراديو، ولكنّها توقفت ليُعلَن عن إغتيال كمال جنبلاط. السيف الدمشقي الذي أراده السياسي المناضل المتصوّف داعماً له، جَزّ عنقه. تلك لحظات، تُشكّل في ذهن الشاب ذي التسعة عشر عاماً قناعات، وتجعله يُفكّر، ويُعيد التفكير، ويُقرّر. صدّقوني، فليس هناك كذب، ونفاق، ومواربة، وتدليس، وخيانة القول، أكثر من ذلك الذي تَعيشونه شخصياً، أن تَستمعون إلى شيئ، وتشاهدون على الأرض نقيضه. قناعتي، إذن، تشّكّلت، وَحَسمت أمري.
لا لدمشق...
لا، لن أعود إليها...
وكانت السنوات تمرّ، لتؤكد صَواب قراري، مِن تَطوّرات لبنان، ومجزرة حماة، والإجتياح الإسرائيلي، ولأنّني صرت صَحافياً، وكاتباً، لَم أُقصّر في الإعلان عن موقفي، على أنّه جاء وقت أخذتني فيه مهنتي لزيارة دمشق يوماً وليلة.
أردت سَبقاَ صحافياً بمقابلتين مع دريد لحام ومحمد الماغوط، اللذين ستُعرض لهما مسرحية في مهرجان جرش. كُنت، أّيامها، أصدر مجلة "صوت وصورة”، وحَصَلتُ على إمتياز التوزيع في المهرجان. العلاقات الاردنية السورية صارت في عزّها، بعد توتّر كاد يوصل إلى إشتباكات حدودية، مع أنّه أوصل لتفجيرات وإغتيالات، وكنتُ عرفتُ أنّ أقصى ما يمكن أن يحصل معي هو أن يمنعوني من الدخول.
أنا، إذن، ذاهبٌ إلى دمشق.
سافرنا، صديقي يوسف العلان، وأنا، في سيارته صباحاً، وحين سألنا الموظّف السوري عمّا سَنفعله في دمشق، وقُلنا: سنقابل دريد لحام بعد قليل، خَتَم الجوازين فوراً، وقال: سلّموا لي عليه، وقولوا له إنّكم لم تتأخّروا في الحدود. كان ذَكياً لدرجة إلتقاطه مَشهد وجودنا عنده، ومضمون فيلم شهير لدريد لحام تناول مشاكل المواطنين العرب في الحدود بين بلدين شقيقين. تطلّعنا، يوسف وأنا، إلى بعضنا البعض، وكانت على وجهنا إبتسامة صامتة. فنحن في سوريا.
خلال ساعَتين، كنّا نُقابل لحّام في مَكتبه في تَسوية تحت الأرض، وبعدها، نجتاح مَطعماً في باب توما، ثمّ غفوة في الفندق، فلقاء مؤثّر مع محمد الماغوط في شرفة غرفتنا التي تُطلّ على بَرَدى، باح لنا فيها، بعد كأسين، بأنّه بطل مَسرحية دريد التي كَتبها، وأنّ حياته في بلده لم يعد لها معنى. قال أشياء كثيرة، لا يُمكن تسجيلها، هُنا، لأنّ لسان الماغوط جارح، وماض، ولكبار الكبار فقط!
إنتهينا، وكان لا بدّ من ليلة شامية، سهرة تمتلئ بالقدود، والموسيقى، والصوفية، والحبّ، مَضَى أغلبها بإنصات، وثمّ بصخب جميل، وضحك، ودبكة، إلى أن جاءني صوت من طاولة بعيدة: وَلَك باسم شو جابك لَهون؟ عبثاً تطلّعت حولي، فالأضواء التي تتخلّل الظُلمة تمنع الرؤية، لكنّ الصوت لَم ينتظر، فجاء إليّ. آخر من كُنتُ أتوقّع أن أقابله، كان هو، ولكنّّه كان هو فعلاً.
ممدوح عدوان، الشاعر الحبيب، الذي إمتدّت سهراتُنا العمّانية، في بيت صَديقي عبد الله حمدان، إلى ما شاء الله. ذلك الممدوح الذي كانت ضِحكته، وبحّة صوته، تملأ الأمكنة. ذلك الذي كان عليه أن يموت، بَعد حين، بالمرض اللعين. وأكمل السهرة البديعة معنا. لم تكن مع صديقنا سيارة، فخرجنا سوية لنوصله.
ذلك مشهد سيبقى في الذاكرة، ولتعذرني روحه على نشره. هو في المقعد الأمامي، إلى جانب يوسف، يقودنا في الطريق. نصل إلى مجموعة عمارات سكنية، فيؤشر بيده إلى إحداها، ويقول: هناك بيتي، بل هو بيت زوجتي، أنا ما زلت أنتظر منذ سنوات وسنوات الحصول على بيت. سَكَت، ومن ثمّ أخذ يبكي، ثمّ صار ينتحب، بدا، وكأنّه يغسل روحه بماء الدموع، قال: يعزّ عليّ أن لا تكونوا ضيوفي على مائدتي، في بيت، أو في مطعم. تلك لحظات ليست دمشقية الطابع فحسب، بل هي عربية بإمتياز، فمبدعونا مقهورون, سجناً، وجوعاً، ولوعة، وحنيناً، ولعلّ روح ممدوح تُسامحني.
وكان على دمشق أن تأتي، أيضاً...
مرّت عشرون سنة، أو أكثر قليلاً، ولأنّنا مَطبوعون أصلاً على الشَكل، وَنَتعامل مع السياسات بالقطعة، وكأنّنا عُمّال مياومة، ظننتُ أنّ دمشق السياسة تغيّرت. كُنتُ أنغمس بالمسلسلات التلفزيونية السورية، وما فيها من قفزات إبداعية تَشي بتغيّر النظام، وأعجب بقراءة دراسات تُثبت أنّ سوريا وصلت إلى الإكتفاء الغذائي، وقبل ذلك، وبعده، كانت سوريا قدّمت أبدع وقوف أمام إسرائيل، من خلال حزب الله اللبناني. لأوّل مرّة، في حياتي، شعرت بنشوة النصر على العدو.
في تلك الأجواء، قرّرنا في سهرة عمّانية طويلة، سامي الزبيدي، أحمد النعيمات، سميح جبرين، وأنا، أن لا يكون فطورنا عند هاشم، وسط عمّان، بل في الشام.
وَعَدنا سامي بأنواع مأكولات لا نسمع عنها إلاّ في المسلسلات الدمشقية. في طريقنا مَررنا على بلدة الزبيدية، وكان على مَقعد قيادة سيّارته، قبل خمس سنوات من حادث السير المُفجع الذي راح هو وكلّ أفراد عائلته ضحايا له. على الطريق نفسها، فدفنّاه في البلدة، التي زرناها في طريقنا إلى دمشق فجراً، لأنّه أراد الإطمئنان على أهله. صديقي كان مهووساً بحبّ الشام، المكان، مع أنّ والده الذي ظلّ نائباً في البرلمان السوري أربع سنوات، إضطرّ للهروب منها، إلى الأردن، بعد إنقلاب عسكري، صار يُسجن الناس معه على الهويّة.
على الحدود، أنجزنا المعاملات بسرعة، بَعد أن طَلبَ مُوظّف رَشوة دفعناها. جَلستُ مكان سامي على مقعد القيادة، وكُنّا نتغنّى في سحر دمشق، وتاريخها العتيق، حين وصلنا إلى مشارفها. الشمس تكاد تَظهر في السماء، وها هي تواجهنا جَحافل قاطعي الشارع من جنود ذاهبين إلى معسكراتهم، بهندام لا يدلّ على العسكرية، وفوضى لا تَشي سوى بالفوضى، فباغتني بقوله: خَربانة، والله خربانة!
رحمك الله، يا سامي، يا صَديقي البَدويّ الأردني السوريّ، الذي لم يَعرف أهله حُدوداً بين بلدين. يا صديقي الذي إستغرق في حوار مع فتاة تعرّفنا إليها بالصدفة، في مطعم يُطلّ على دمشق، من جبل قاسيون الرائع، حيث تبدو المدينة المُعتّقة صَحناً مُضاءً بالشموع، فقط لأنّه إكتشف أنّها من الجولان. أقصد أنّ أهلها كانوا من هناك، وهي وُلدت، هُنا، في دمشق، ولكنّ أسئلة سامي العميقة، أوصلت إلى دموعها، إلى أن قالت: ما زالوا يُطلقون علينا لقب "النازحين”. كانت تُعلن عن قَسوة حياة شَخص لجأ من بلده إلى بلده. كان لسان حالها يقول: ها أنا ضحيّة العدو، التي أصبحت ضحية الأهل.
ولسان حال سامي كان يقول لي: خربانة، والله خربانة.