حرية ديموقراطية وليست علمانية



السوريون الذين خرجوا ضد نظام القهر والطغيان كانوا يهتفون بصوت واحد "سوريا بدها حرية" ولم نسمع أن سوريا واحدا خرج مطالبا بالعلمانية. فهدف الثورة حسم، منذ اليوم الأول للثورة، قبل ثلاثة عشر عاما وهي اسقاط النظام لإقامة دولة ديمقراطية حرة.

وقبل أن يتحمس بعض مدعي العلمانية بالرد سنحاول أن نوضح الفرق بين الدولة "الديمقراطية الحرة" و "والدولة العلمانية" الذي غالبا ما يتغافلون عنه.

الدولة الديمقراطية الحرة لا يمكن أن تكون مستبدة أو ديكتاتورية لا مع كل المواطنين، ولا مع بعضهم. لا تقصي أي مواطن أو حزب من النشاط السياسي، ولا تقصي أي شريعة أو تشريع من أن يكون من ضمن القوانين التي يمكن أن يسنها نواب الشعب المنتخبون ويشرعون فيها القوانين بكامل الحرية، ولهم حق الأخذ (والترك) من كل التشريعات، بما في ذلك الشريعة الإسلامية، بالقدر الذي يريدون، ولهم باستمرار وبلا حدود حق تغيير ما أخذوه.

أما الدولة العلمانية، فلها عدة أشكال وليس شكلا واحدا:
فيحتمل أن تكون الدولة العلمانية دولة ديمقراطية حرة، وفق المواصفات المذكورة آنفاً أو أغلبها.
ويحتمل أن تكون الدولة العلمانية غير ديموقراطية، مثل الصين وكوبا وكوريا الشمالية وغالبية الأنظمة الشيوعية والعسكرية. فالعلمانية لا تعني بالضرورة الديمقراطية، والعلمانية والديموقراطية لا تعنيان بالضرورة اللبرالية. وقد تقبل العلمانية باللبرالية الأتوقراطية ولكنها لا تقبل بالأتوقراطية الإسلامية وتصفها بالثيوقراطية.

في بريطانيا وألمانيا يسمح بتشكيل حزب ديمقراطي مسيحي، وبالرموز الدينية، والحجاب.. ويشار للدين في الدستور، دون أن يعتبر هذا خرقا للعلمانية، بينما يعتبر كل هذا في فرنسا انتهاكا خطيرا للعلمانية، يعاقب عليه القانون. وهناك أيضا علمانية ديكتاتورية متفردة وإقصائية تجاه الدين الاسلامي فقط، كالعلمانية الأتتوركية.. فأي علمانية يريد هؤلاء؟

إن عدم وجود مفهوم واحد، أو تطبيق واحد، للعلمانية عامل مهم في الابتعاد عنها من قبل السوريين، والعامل المهم الآخر هو الحساسية البالغة عند كثير من السوريين تجاه مصطلح العلمانية، لأن النظام السابق في نظر العالم هو نظام علماني، ومن غير المعقول أن تقوم الثورة على نظام علماني، لإقامة نظام علماني قد يكون استباديا مثله.

والأمر الأهم أن جزءا كبيرا من الثوار عانوا اضطهادا دينيا من النظام الأسدي، باسم العلمانية، ودفعوا ثمنا باهظا، بسبب عداء النظام لدينهم، ومن المحال إقناعهم بأن يحل نظام معاد للدين (أو يمكن أن يكون معاديا للدين) مكان النظام المعادي للدين والذي ثاروا عليه.

إن تقديم هدف العلمانية على هدف الديمقراطية هدف خبيث ودعوة مشبوهة وبحثا متعمدا عن الصدام والمواجهة والعداء والانقسام، للالتفاف على الثورة كما حصل في مصر، حين انحازت الغالبية الساحقة من العلمانيين إلى العلمانية على حساب الديمقراطية، وأيدوا بدون تحفظ نظاما عسكريا متوحشا قتل التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر. وتكرر الأمر في تونس حيث اندفع العلمانيون نحو تأييد نظام يقتل الديمقراطية ويبقي على العلمانية.

علمانية هؤلاء قائمة على الإقصاء والحظر والمنع والإبعاد (إبعاد الدين والمتدينين عن العمل السياسي، وعن التشريع)، فيما كانت فكرة الثورة الأساسية هي الحرية، وشعار الثورة السورية الأساسي هو "سوريا بدها حرية".

عندما يكون ملايين من الشعب السوري يطالبون بأن تكون القوانين مستمدة من التشريع الإسلامي، ويأتي بعض المنظرين بعد اثني عشر عاما على تفجر الثورة، وبعد أكثر من خمسين عاما على نظام الاستبداد، ليقولوا لهم ستكون نسبة ما يمكن أن يؤخذ من التشريع الإسلامي صفر بالمئة، ولو فزتم بكل مقاعد البرلمان!.. هذه ليست أكثر من دعوة للصدام.

ثم إن رفع شعار علمانية الدولة والدستور، يخدم التيارات الرافضة للديمقراطية، ويعطيها حجة بأن العلمانية لا الديمقراطية هي هدف العلمانيين، وبعض الشواهد بينت أن العلمانيين يقبلون بالديمقراطية والانتخابات فقط إذا أوصلتهم إلى السلطة، أما إذا أوصلت غيرهم وخاصة الاسلاميين، فإنهم ينقبلون عليها ويدعمون الحكم العسكري ولا ضير إن ألقى بخصومهم السياسيين في السجون أو علقهم على أحبال المشانق، دون أدنى شعور بالتناقض.

بالمقابل فإن الدولة الديمقراطية لا تقصي العلمانيين ولا العلمانية ولا بأي قدر كان. في الدولة الديمقراطية يمكن للعلمانيين الدعوة للعلمانية، وتشكيل أحزاب علمانية، وإذا فازوا بالانتخابات يصبح البرلمان ذو أغلبية علمانية، ويصدر قوانين علمانية واجبة التطبيق من قبل الجميع، وتتشكل حكومة علمانية، تتبع سياسات علمانية.

لقد قتل مليون من الأغلبية السورية وشرد وعذب ملايين لأجل الحرية، وليس العلمانية، وقهرهم وإجبارهم على وضع العلمانية فوق الدستور وفوق الدولة يخلق بذرة صراع مرير يضاف للصراعات القائمة. صراع عبثي وغير مجدي، لأن اجتثاث الإسلام من سورية هو المستحيل عينه.

والزعم أن لا حرية ولا ديمقراطية إلا بعلمانية الدولة والدستور، سيدفع كثيراً من السوريين إلى رفض الديمقراطية والعلمانية معا، رغم شوقهم وحاجتهم الكبيرة للحرية والديمقراطية.

لذلك فإن اختيار الدولة (الحرة الديمقراطية) شعارا وهدفا للثورة السورية، قمة الحكمة والمصلحة والتسامح والانفتاح والتحرر، وسيكون تحويله إلى الدولة العلمانية، قمة الحماقة والاستبداد والأذى، وقد يؤدى إلى أن لا تعرف سورية الديمقراطية.. أبداً.