الخطر الذي لا يتحدث عنه أحد: أردوغان يقرب حدوده من إسرائيل


ترجمات - معاريف - عاميت ياغور

بهدوء نسبي في القنوات الإخبارية في إسرائيل، نشهد في هذه الأيام عملية استراتيجية مهمة جداً؛ سيطرة تركيا (وقطر) على سورية، والبدء بصوغ النظام الإقليمي الجديد. ومعنى ذلك أننا نشهد أمام أعيننا نموذجاً للإمبراطورية العثمانية، وفق الصورة الأردوغانية، أي منطقة يقودها ويهيمن عليها محور الإخوان المسلمين السنّي المتطرف، الذي يحل عملياً ونظرياً محل محور المقاومة الشيعي الذي انهار نتيجة خروج سورية من المعادلة.

وفي النهاية، أي فراغ لا بد من أن يمتلئ، وقد بدأ أردوغان بملئه على شكل خطوات سريعة، والأداة هي سورية الجديدة… وتعكس تصريحات المسؤولين الأتراك أجواء التفكير التركي بشأن سورية؛ إذ تحدّث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلام تنبؤي (حاول طمسه لاحقاً) عن سورية كمحافظة في تركيا الكبرى، كما تحدّثت مجموعة من كبار المسؤولين الأتراك عن المساعدة التي تنوي تركيا تقديمها إلى سورية الجديدة، وتشمل موضوعات سورية داخلية مع التشديد على المسألة الكردية (لقد صرّح أردوغان بأن على الأكراد التخلي عن سلاحهم أو سيُدفنون معه بغض النظر عما يقوله مؤيدوهم، ولدى تركيا خططها الخاصة)… ومن الموضوعات المهمة الموضوع الذي تحدّث عنه موقع "بلومبرغ" مؤخراً؛ إذ ينوي وزير المواصلات التركي البدء بمفاوضات مع سورية من أجل ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط، وهذا الاتفاق سيسمح "للدولتين بزيادة منطقة نفوذهما في التنقيب عن الطاقة." وأشار الوزير إلى أن تركيا مهتمة بالتعاون مع سورية في مشاريع بنى تحتية، بينها مرافئ. هذه الخطوة سبق أن قامت بها تركيا عبر توقيعها سنة 2019 مذكرة تفاهم مع ليبيا (طرابلس الغرب) جرى فيها ترسيم حدود بحرية جديدة بين الدولتين عبر تجاهُل اليونان (جزيرة كريت)، واستخدام سفن للتنقيب عن الغاز ترافقها سفن حربية. وفي مقابل ذلك، فقد قدّمت تركيا إلى ليبيا مساعدة عسكرية (عبارة عن سلاح ومسيّرات ومستشارين عسكريين وقوات). لكن لبنان أيضاً شهد زيارة مندوبين عن أردوغان، إذ تحاول تركيا أن تنشئ موطئ قدم لها هناك.

ومن منظور إقليمي (متعدد الأبعاد)، يرتسم أمامنا محور إسلامي سنّي متطرف تابع للإخوان المسلمين بقيادة تركيا وقطر في الأراضي السورية، بينما قطر البعيدة هي التي تقدم المال من أجل التمويل، وتركيا القريبة (على الرغم من وضعها الاقتصادي الصعب) هي التي تقدّم اليد العاملة والمشاريع والمساعدة العسكرية. وعلاوة على ذلك، وربما الأهم، فمن الممكن جداً أن خطط أردوغان العامة هي إحياء حلم تركيا الكبير، وتحويل تركيا إلى مركز لتسويق الغاز إلى أوروبا (في هذه الأثناء، وقّعت ألمانيا اتفاقاً للتزود بالغاز السائل مع قطر)، وسينطلق أنبوب الغاز من قطر، ويعبر الأراضي البرّية السورية إلى تركيا. وهذه نقطة مهمة يجب أن تثير اهتمام ترامب؛ فالخط البرّي الجديد الذي سينشأ سينافس الرؤية الاقتصادية للولايات المتحدة، أي الخط البرّي من الشرق عبر الإمارات والسعودية، والذي يمر بإسرائيل، ومن هناك إلى أوروبا.

ما وصفته حتى الآن يشكّل عاملاً استراتيجياً جوهرياً في صورة الشرق الأوسط الجديد، لكن، مع الأسف هنا أيضاً، إسرائيل تتصرف كما تصرفت خلال الحرب كلها، فهي جيدة جداً في التحدث باللغة العسكرية، وفيما يتعلق بسورية نفسها، فقد حسنت بصورة كبيرة منظوماتها الأمنية في الأراضي السورية، بالإضافة إلى تدمير الجيش السوري، وهذا كل شيء، ومن الآن فصاعداً، هناك جمود ومحافظة على الستاتيكو. وفي المقابل، فإن تركيا (كـ "حماس" وحزب الله) جيدة جداً في الكلام المدني والاقتصادي، وتحقق مصالحها بالوجه المدني (البريء) بعد الحرب، وعبر الحصول على شرعية دولية وتشجيع من مختلف أصحاب المصالح الاقتصادية. وإن التمركز المدني وإعادة الإعمار المدني يحملان دائماً معهما لاحقاً التدخل العسكري… تتحدث تركيا باللغة المدنية، وتحاول أن تحقق لنفسها الهيمنة والنفوذ المدنيَين، وهو ما سيؤدي لاحقاً إلى الوجود العسكري، وقد صدرت تصريحات تركية بشأن إقامة حلف استراتيجي بين تركيا وسورية الجديدة… وفي مواجهة كل هذه التطورات، تواجه إسرائيل معضلة وتقف أمام خيارين: معارضة الحكم الجديد في سورية، والتعامل معه بصفته "ذئباً في ثياب حَمَل" يتبنّى أيديولوجيا إسلامية سنّية متطرفة ويرتدي قناعاً موقتاً للحصول على الشرعية الدولية. والمغزى من ذلك: في أراضي سورية الجديدة سينشأ عملياً ونظرياً أردوغستان، أي محور إسلامي سنّي متطرف يحظى بحماية وتأييد عسكريَين من الجيش التركي، والذي مع مرور الزمن سيتحدى إسرائيل على حدودها (بحراً وبراً وجواً). في المقابل، الاعتراف بالحُكم الجديد، بهدف التأثير في الصورة المستقبلية لسورية كجزء من نظام إقليمي جديد، ومن أجل قطْع الطريق على قيام أردوغستان. ومعنى ذلك اعتراف إسرائيلي بالحُكم الإسلامي السنّي المتطرف الذي عند الانتهاء من ترسيخ وضعه الداخلي، سيبدأ في استخدام قواته المتطرفة من أجل تحدي إسرائيل… الخياران مثيران للقلق، لكنهما أفضل من التحدي اليومي الذي كانت تمثله إيران في سورية، من دون الحديث عن حزب الله في لبنان كقوة عسكرية مهمة.
لكن الحياة ليست أبيض أو أسود، ويوجد خيار ثالث: إنشاء نظام جديد في الشرق الأوسط يتلاءم مع مصالح إسرائيل البعيدة المدى، والأداة الأساسية هي أداة مدنية وليست عسكرية؛ التسلل والقيادة والهيمنة عبر موضوع إعادة الاعمار (الذي سيحدث سواء شئنا أم أبينا). وثمة مصلحة مشابهة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن كل ما له علاقة باليوم التالي في الشرق الأوسط، وهذا يترافق مع مصالح اقتصادية مهمة جداً في مسائل الطرق البرّية من الشرق الأوسط وتوسيع اتفاقات أبراهام. والولايات المتحدة ودول اتفاقات أبراهام هي الوحيدة القادرة على أن تدعم اقتصادياً إعادة الاعمار (الأمر الذي لا يستطيع أردوغان القيام به في ظل الوضع الاقتصادي التركي الصعب حالياً). والطريقة هي تسخير إدارة ترامب على خلفية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، من أجل "خطة مارشال" (خطة إعادة إعمار شاملة). وشرط إسرائيل من أجل الاعتراف بالحُكم الجديد هو أن تدرس هذا الحُكم وتتعامل معه بصورة مشروطة وعلى مراحل متدرجة لوقت طويل (وفي مرحلة معينة الطلب منه الاعتراف رسمياً بإسرائيل)، وفي هذه الأثناء، عدم ترك الساحة للمحور التركي - القطري، وهيمنة إسرائيل من وراء الكواليس مع العمل مع طاقم أميركي يدخل الساحة ويُخرج الأتراك منها. وبصورة مثيرة للدهشة، فإن تطبيق خطة مارشال بقيادة إسرائيل ستحوّل كل المناطق المختلَف عليها عسكرياً مع إسرائيل إلى قاعدة للتعاون، وهو ما سيؤدي عملياً إلى قيام حِلف إقليمي دولي عبر استغلال المصلحة المشتركة لكل اللاعبين، ألا وهي إعادة الإعمار. ومن ناحية أُخرى، فإن هذا سيجعل "حماس" في قطاع غزة وتركيا غير ذات دلالة في مواجهة قوات أكبر منها (كثرة اللاعبين والمال الكثير والمواد والقدرات لبناء اتفاقات أبراهام).

إن النفوذ الأميركي لإدارة ترامب (وليس بايدن) والأوضاع الصعبة للمتمردين سيسمحان بصوغ سورية الجديدة، وحماية الأقليات. كما ستجري حماية الأكراد من تركيا، وربما لاحقاً منْع إنشاء دولة "داعش" على حدودنا الشمالية، ومع مرور الوقت، فإن هذا سيسمح بوجود نفوذ داخلي يساعد في إيجاد بديل لمجموعة المتمردين التي تشكّل الحُكم الحالي. وهكذا، وعندما تكون هناك جزرة (في مقابل سلسلة من الشروط) إلى جانب العصا، فسيكون من الممكن صوغ نظام إقليمي جديد والتأثير فيه بدلاً من الجلوس جانباً والمراقبة.

إن المبادرة ستمنح إسرائيل ائتماناً دولياً من جديد، وستساعد، بعكس الماضي، في تأمين المصالح الإسرائيلية (بما في ذلك السيطرة الأمنية الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة). وهذه الخطة ستجعل "حماس" وحزب الله والمتمردين في سورية في مواجهة معضلة؛ إذ إن تحركهم ضد جهود إعادة الإعمار سيجعلهم موضع إدانة دولية وإقليمية، وسيُظهرهم للمرة الأولى وبوضوح أنهم يعملون ضد شعوبهم، الأمر الذي سيُلحق ضرراً كبيراً بشرعيتهم الشعبية. وفي هذه المرحلة، يمكن تحقيق ذلك، بينما سيكون من الصعب في مراحل لاحقة على الولايات المتحدة، وبالتأكيد على إسرائيل، تحقيق مبادئ النظام الجديد في الشرق الأوسط، ومن المرجح أن تضطر إسرائيل إلى التعامل مع التحدي العسكري الذي سيشكله لها الأتراك على الأقل في المياه الاقتصادية، وعلى الحدود السورية وفي الأجواء.