هل هُزمت المقاومة؟!



الإجابة ببساطة لا!

لو تأملنا مليّاً، لوجدنا أنّ المقاومة، كمّاً ونوعاً، أقوى ممّا كانت عليه في أي يوم من الأيام!

في غزّة، وبعد أكثر من (455) يوماً من الإبادة المُمنهجة، ما تزال فصائل المقاومة تمتلك المبادرة، وما تزال قادرة على التنكيل بالعدو وعصابة حربه في جميع المناطق وسائر محاور التوغّل والتمركز، وما تزال قادرة على إطلاق الصواريخ نحو الداخل المحتل تحت أنف العدو، وما تزال تحافظ على الضبط والربط ومنظومة القيادة والسيطرة، وما تزال قادرة على تجديد دمائها وتعويض خسائرها، وما تزال قادرة على الإمساك بزمام الأمور وعدم السماح لها بالانزلاق نحو الفتنة والفوضى كما حاول ويحاول العدو وأذنابه منذ اليوم الأول، وما تزال تدير المفاوضات من موقع "النِد"، وما تزال هي الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه أو استبداله في "اليوم التالي" للحرب.

والأهم، أنّ الورقة الأقوى بيد المقاومة، الحاضنة الشعبيّة، ما تزال ثابتة وصامدة ومتماسكة برغم كلّ الحصار والتجويع والتنكيل والترويع وجرائم الحرب غير المسبوقة في التاريخ. وجميع المحاولات المسمومة والمغرضة للفصل بين "المقاومة" و"حاضنتها الشعبية" قد باءت بالفشل، بل إنّ مسار الأحداث يوماً بعد يوم يؤكّد ويعيد التأكيد على أن فصائل المقاومة هي انعكاس لحالة المقاومة التي يمثلها المجتمع الغزّاوي والإنسان الغزّاوي وليس العكس.

ونفس الملمح نجده في الضفّة، حيث انحياز القواعد الشعبيّة للمقاومة يزداد يوماً بعد يوم قياساً بالوضع السابق، وبرغم الواقع المزري الذي أفرزته عقود من مسخ الناس، وتشويه وعيهم، وإفساد ذممهم، وتكريس الانقسامات الفصائليّة والجهويّة بينهم، وابتزازهم باسم الوظيفة والراتب ولقمة العيش!

وفي لبنان، استطاعت المقاومة الإسلاميّة أن تمتص ضربات وتستوعب هزّات من النوع الذي تنهار بسببه جيوش وتسقط دول.

بل استطاعت المقاومة اللبنانيّة، وفي عزّ "حماوة" الضربة، ورغم كثرة الطاعنين في الظهر، أن تصمد، وأنّ تصدّ العدو، وتمنعه من التقدّم، وتنكّل به وبجنوده المرعوبين لدرجة دفعته للهاث والاستغاثة بالحلفاء والأعوان من أجل التوصّل لاتفاق ولو مؤقّت ومشروط لوقف إطلاق النار.

وطبعاً، خلال ذلك كلّه، احتفظت المقاومة اللبنانيّة بقدرتها على استهداف الداخل المحتل، ودكّ العدو في عقر داره، وإرسال قطعان حثالته ولممه إلى الملاجئ مذعورين متدافعين.. وهو ما عجزت عنه جميع الجيوش العربية عبر جميع حروبها ومواجهاتها مع الكيان الصهيونيّ.

وفي العراق، ورغم السلطة الجديدة التي أتتْ على ظهر دبابة أمريكيّة، ورغم الدولة الجديدة التي وُلدتْ من رحم الاستعمار الأمريكيّ ودستور "بريمر"، ورغم عشرات السنين من الشحن الطائفيّ والدعاية الطائفيّة.. ما تزال هناك على أرض الرافدين فصائل للمقاومة تتخذ من فلسطين بوصلة لها، وتقوم بما عجزت عنه أيضاً الجيوش والأنظمة العربيّة الحرّة المستقلّة: استهداف الداخل الصهيونيّ ودكّ قواعد الاستعمار الأمريكيّ!

وفي اليمن، ورغم سنوات القتل والدمار والحصار على يد القريب والبعيد، ها هم "أخوة الصدق" يفرضون إرادتهم في البحر الأحمر وبحر العرب، ويقارعون أمريكا وبريطانيا ومَن لفّ لفيفهما جهاراً نهاراً وبشكل مباشر، ويقطعون الإمداد عن الكيان الصهيونيّ (لولا المدد البديل الذي هبّ الأعراب والأتراك لمنحه لأحبّتهم الصهاينة)، ويطوّرون قوة صاروخيّة لا تحلم دول الاعتدال والازدهار العربي بامتلاكها ولو بعد 100 سنة، أو بالاحرى، السيد الصهيو - أمريكيّ لن يسمح لها بامتلاكها ولو بعد 100 سنة!

وفي إيران، وبرغم الحسابات والمحدّدات التي تضطر الدول للرضوخ لها والتعامل بموجبها، والتي تختلف عن حسابات ومحدّدات الحركات والفصائل، فقد استطاعت الدولة الإيرانيّة تغيير قواعد الردع والاشتباك، والانتقال من صيغة "الصبر الإستراتيجيّ" إلى صيغة "الضربة بضربة" و"الردّ بردّ أكبر"، بصورة اضطرّت الأمريكيّ والصهيونيّ (برغم الجعجعة الإعلاميّة) لإعادة حساباتهما، والتفكير مليّاً قبل التهوّر واللجوء إلى الخيار العسكريّ للتعامل مع الحالة الإيرانيّة، أو التورّط في مغامرة عسكريّة قد لا تحمد عقباها.

وحتى في سوريا، ومن قبيل "رُبّ ضارة نافعة"، فقد أتاح سقوط النظام السوريّ لمحور المقاومة فرصةً للانتقال من خانة المُستنزَف إلى خانة المُستنزِف، وأراحته من عبء دعم وإسناد وإدامة نظام متداعٍ مُخترَق، لم يتعلّم من دروسه السابقة، وفرّط بالفرص العديدة التي أُتيحت أمامه، ولم يعد يُعرف صادقه من كاذبه ومخلصه من منشقّه وشريفه من مخبره وجاسوسه، ولم يعد يُؤتمن جانبه بعد انفتاحه المريب على أنظمة عربيّة تدين بالولاء للكيان الصهيونيّ أكثر مما تدين بالولاء لأنفسها ودولها وشعوبها ودينها وتاريخها!

في ضوء جميع ما تقدم، فإنّ آخر شيء يمكن أم نقوله عن المقاومة أنّها هُزمت أو أنّها ضعيفة.

ولكن إذا كان الحال كذلك، فمن أين يأتي كلّ هذا الخطاب الانهزاميّ الذي يجتاح الفضاء التواصليّ بشقيه وسائل الإعلام والسوشال ميديا؟ ومن أين يأتي ذلك الإحساس العام بالهزيمة الذي يشيع بين الناس، أو بالأحرى يصر الناس على إشاعته فيما بينهم؟

حسناً، إذا كانت المقاومة، كنسبة وتناسب، أقوى ممّا كانت عليه في أي يوم من الأيام، فإنّ الخيانة والعمالة والتواطؤ والانقسام والانحياز إلى الصهيونيّ والأمريكيّ هي الأخرى أشدّ مما كانت عليه في أي يوم من الأيام!

لدينا حاليّاً أنظمة عربيّة وإسلاميّة تناصب المقاومة العداء، وترفض في ذروة الإبادة والتهجير مجرد الاعتراف بفصائل المقاومة كحركات تحرّر وطنيّ مشروعة.. وفي المقابل تعترف هذه الأنظمة بكلّ صفاقة بـ "شرعيّة" ما تُسمّى "دولة إسرائيل"، وحقّها بـ "الوجود" و"الدفاع عن النفس"، وتصرّ هذه الأنظمة بكلّ عناد على الاحتفاظ بعلاقاتها كاملةً مع الكيان الصهيونيّ، وإدامة مختلف أوجه تطبيعها وتعاونها الاقتصاديّ وتبادلها التجاريّ معه، ورفده بحاجته من السلع والوقود وسائر مقومات الصمود والاستمرار.

ولدينا حاليّاً جيوش وأجهزة أمنيّة عربيّة وإسلاميّة مهمتها الأساسيّة إدامة تعاونها العمليّاتيّ وتنسيقها الأمنيّ مع الأمريكيّ والصهيونيّ، والحفاظ على مصالح وهيمنة الأول، وحماية حدود وأمن الثاني، وتسخير جميع مواردها وأراضيها وقواعدها وبناها التحتيّة في سبيل ذلك.

ولدينا حاليّاً نخب حاكمة عربيّة وإسلاميّة قد ربطت وجودها ومصيرها بمصير الكيان الصهيونيّ في المنطقة، وتتنافس فيما بينها لإقناع السيدين الأمريكيّ والصهيونيّ بأنّها الخادم الأفضل لمصالحهما، والمزوّد الأفضل لـ "الأدوار الوظيفيّة" المطلوبة، وجُلّ هَمّ هذه النخب هو نيل الرضا، والسكوت عن فسادها، وعدم رفع الغطاء عنها، والسماح لها بإقامة "البزنس" مع الأسياد ولو من موقع السمسار والتابع و"عبد المأمور".

ولدينا حاليّاً ثوار ومجاهدون أولويّتهم الثورة والجهاد ضدّ أبناء جلدتهم، يتحرّكون وفق فتاوى تكفير جمعيّة مُعلّبة، يغضّون الطرف عن حقيقة مصارد تمويلهم وتسليحهم، ولا يسألون أنفسهم الذي يموّلهم لماذا يموّلهم؟ والذي يسلّحهم لماذا يسلّحهم؟ ويقنعون أنفسهم أنّ الله قد سخّر لهم "الكفّار" ليستعينوا بهم على "الكفّار"، ولا يتبادر لواحدهم ولو للحظة أنّهم هم المُسخَّرين من قِبَل الكفّار، ولا تستوقفهم حقيقة أنّ جهادهم المزعوم خلال الخمسين سنة الماضية قد صبّ دائماً في المصلحة الأمريكيّة والغربيّة (سبحان الله!)، ولم يسبق لهم إطلاق ولو رصاصة واحدة ضدّ الكيان الصهيونيّ، ولم يُعرف عنهم أنّهم يضمرون النيّة لإطلاق رصاصة واحدة ضدّ الكيان الصهيونيّ، ولا يدّخرون فرصةً للتأكيد على أنّهم لا يكنّون أساساً أي عداوة للكيان باعتبار أنّ لديهم "أولويّات" أخرى تمليها عليهم عقيدة ولائهم وبرائهم المفصّلة على مقاس عنصريّاتهم وأحقادهم وشهوة الانتقام والتنكيل لديهم التي تتزيّا بزيّ الدين، وإيمانهم المطلق أنّهم هم "الفرقة الناجية" وكلّ ما عداهم إلى النار.

ولدينا حاليّاً مشايخ وعلماء سلطان ومفكّرون وأكاديميّون ومثقّفون وكتّاب وإعلاميّون ومشاهير يناكفون عن السيد الصهيو - أمريكيّ ما لا يناكفه عن نفسه، ولا يدّخرون جهداً للطعن في المقاومة، والغمز في قناتها، والتشكيك في نواياها ومنطلقاتها وجدواها، والتهوين من شأنها، وتسخيف منجزاتها وبطولاتها، وإلقاء اللوم عليها نظير كلّ الجرائم والموبقات التي يقترفها العدو، وكأنّ ما يقترفه هو "حقّ مكتسب"، والذنب يقع على مَن ينكر عليه هذا الحقّ أو يستفزّه أو يتحدّاه!

ولدينا حالياً شعوب استمرأت ذلّها وخنوعها وهوانها، راضية بعبوديّتها لنمط العيش وصيغة أكل.. شرب.. نام.. تكاثر، همّهما في الحياة أن تنال نصيبها من "الفردوس الأرضيّ" الآن وهنا، تعرف الصواب وتسكت عنه، وتعرف الخائن والظالم والفاسد وتتملّقه وتهتف له، تخشى حكّامها وطواغيتها وأجهزتها الأمنيّة أكثر ممّا تخشى الله، تهلّل للقادم وتلعن الذاهب، تنافق نفسها بنمط تديّن طقوسيّ شعائريّ برّانيّ، تدّعي العجز وقلّة الحيلة وعدم الاستطاعة، وتختبئ وراء إيمانيّات كاذبة وتسليم أكذب بمشيئة الله لتبرر إحجامها وتقاعسها عن الأخذ بالأسباب، تدّعي حبّاً بفلسطين وتعلّقاً بالأقصى ولكن على طريقة "فاذهب أنتّ وربّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون"!

خلاصة الكلام، المقاومة بما هي مقاومة لم تُهزم (ولن تُهزم).. لكن ما لدينا هو أنظمة وشعوب لا تريد أن تنتصر، وفرق كبير ما بين هذا وذاك!