تحولات الانتماء الوطني،من قيم المواطنة إلى مصالح الريع
كتب د. طارق سامي خوري - عبر العقود الماضية، أدى تعامل الحكومات المتعاقبة في كثير من الدول العربية إلى تغيير عميق في علاقة المواطن بدولته. فبدلاً من تعزيز قيم المواطنة الحقيقية والانتماء القائم على الولاء للوطن ومصالحه العليا، أصبح التركيز منصباً على المصالح الفردية الضيقة والمكاسب الريعية التي تقدمها الأنظمة كوسيلة للسيطرة أو كبديل عن الإصلاحات الحقيقية.
هذا النهج أسهم في نزع الهوية الوطنية الجامعة للشعوب، حيث تحولت المجتمعات تدريجياً إلى مجموعات متفرقة من الأفراد الباحثين عن "واسطة” أو منفعة شخصية، بدلاً من التكاتف لتحقيق مصالح عامة تخدم الجميع. وأدى ذلك إلى انتشار ظواهر سلبية مثل المحسوبية والفساد، مما زاد الفجوة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
أصبحت الريعية، التي تعتمد على توزيع الموارد والامتيازات دون إنتاجية حقيقية، جزءاً من بنية المجتمع، مما عمّق حالة التبعية لدى المواطن للحكومة أو للنخب السياسية والاقتصادية. ومع الوقت، تحول الانتماء الوطني إلى انتماء للمصالح، ولم تعد القيم الوطنية أو التضحية من أجل الوطن تحتل مكانة مركزية في وعي الكثيرين.
هذا التوجه خطير، لأنه يهدد استقرار الدول على المدى الطويل. فالمجتمعات التي يفقد أفرادها الإحساس بالمصلحة العامة والعدالة تتحول إلى بيئة خصبة للصراعات الداخلية والانقسامات الاجتماعية. كما أن الأنظمة القائمة على توزيع الريع، بدلاً من بناء اقتصاد إنتاجي ومؤسسات شفافة، غالباً ما تجد نفسها عاجزة عن مواجهة التحديات المستقبلية.
من هنا، فإن إعادة بناء الانتماء الوطني تتطلب تغييرات جذرية في سياسات الحكومات. يجب أن تتحول الدول من نماذج ريعية إلى نماذج إنتاجية تعتمد على تمكين المواطنين، تحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز ثقافة المسؤولية الجماعية. بدون هذا التحول، سيبقى الانتماء الوطني هشاً، وسيظل المواطنون أسرى لمنظومة المصالح المؤقتة.