غزة… النفق الذي ابتلع أسطورة الغرب! حين فشل الغرب في إعادة إنتاج إبادة العالم الجديد


كتب حلمي الأسمر 

منذ خمسة قرون، أقام الغربُ روايته الكبرى على أسطورة "اكتشاف” العالم الجديد؛ أسطورةٍ لا معنى لها سوى أن الأرض لا تُعدّ موجودة ما لم يكتشفها الرجل الأبيض، وأن الشعوب التي تسكنها لا تستحق الحياة إن لم يعترف بها الأوروبي سيدًا عليها. بهذا المنطق القائم على مركزية الذات وتفوق العِرق، ارتكب الغرب أكبر عمليات الإبادة في التاريخ الحديث: خمسون مليون إنسان أُبيدوا لأنهم ببساطة لم يكونوا أوروبيين.

هذه الخلفية ليست مجرد ماضٍ مظلم، بل هي جزء من البنية النفسية والثقافية التي تُحرّك السياسات الغربية إلى اليوم. ولذلك، حين قرر الغرب الوقوف خلف حرب الإبادة على غزة، لم يفعل ذلك فقط من باب التحالف السياسي مع إسرائيل، بل لأنه رأى في الفلسطيني نسخة جديدة من "الهندي الأحمر”: كائن يمكن شطبه بلا مساءلة، شعب يمكن تذويبه بالحصار والجوع، مجتمع يمكن تفكيكه بآلة عسكرية عمياء ما دام غير منضوٍ تحت "الشرعية” التي احتكرها الأبيض لعقود.

لكن غزة فعلت ما لم يفعله أحدٌ من قبل: كسرت النبوءة.

المعادلة تنقلب: من ضحية محتملة إلى فاضح عالمي

كل ما حُشد ضد غزة — من جيوش الاحتلال، إلى الدعم الغربي المطلق سياسيًا وعسكريًا، إلى المظلة القانونية التي منحت إسرائيل رخصة قتل مفتوحة — كان يهدف إلى استكمال نموذج الإبادة القديم. ومع ذلك، بعكس ما جرى مع سكان الأميركيتين، لم تتحول غزة إلى شبح. لم تُستبدل شعبًا بشعب، ولا تاريخًا بتاريخ.

بل حدث العكس تمامًا: غزة فجّرت الرواية الغربية من الداخل.

الغرب الذي قدّم نفسه لقرن كامل كحارس "حقوق الإنسان” وجد نفسه في مرآة غزة مكشوفًا، عاريًا من كل ادعاء أخلاقي. حتى الحلفاء الأقرب بدأوا يشهدون التصدّع: المظاهرات في الغرب، انتفاض الجامعات، تقارير الأمم المتحدة، انهيار دعايات الجيش الإسرائيلي… كل ذلك كان ثمرة ارتطام مشروع الإبادة بجدارٍ اسمه غزة.

ثلاثة مقاتلين ينسفون رواية جيش كامل

ومن بين آلاف المشاهد التي حطمت سردية القوة الإسرائيلية، برز مشهد واحد كفيل بإعادة تعريف المعنى كله:
اعتراف الاحتلال بأن ثلاثة مقاتلين خرجوا من نفقٍ محاصر، من عمق العتمة في الجنوب، واشتَبكوا مع جيشٍ كامل، ثم ألصق أحدهم عبوة ناسفة في جسم مدرعة إسرائيلية وفجّرها.

هذا المشهد ليس مجرد "عملية” في قاموس الحرب؛ إنه إعلان موت الرواية التي بُنيت عليها الإبادة: رواية "الفلسطيني الجائع الهزيل المنهار”. الإعلام الإسرائيلي حاول لأشهر رسم المقاومة كأشباح متعبة تبحث عن جرعة ماء… لكن الحقيقة ظهرت كالصاعقة:
رجال القسام بكامل قوتهم، بكامل إرادتهم، وبكامل حضورهم القتالي.
هؤلاء ليسوا ناجين من الإبادة، بل ناقضين لها.

ليسوا ضحايا، بل فدائيين خرجوا ليقولوا للعالم إن الحصار لم يكسرهم، وإن الجوع لا يهزم من اختار منذ البداية طريقًا نتيجته الوحيدة: النصر أو الشهادة.

غزة: المدينة التي رفعت "المرآة الأخلاقية” في وجه العالم

لقد أراد الغرب أن يجعل من غزة نسخة جديدة من التاريخ القديم، لكن غزة قلبت الصفحة على كاتبيها. لم تعد مجرد مدينة محاصرة، بل تحولت إلى سلطة أخلاقية عليا تكشف حقيقة القوى الكبرى، وتضع العالم أمام سؤال لا يمكن الهروب منه:
كيف يمكن لمن أباد خمسين مليونًا في الأميركيتين أن يقدّم نفسه وصيًا على الإنسانية؟
وكيف يمكن لمن صنع "العالم الجديد” على جثث شعبٍ بأكمله أن يحاضر عن "القانون الدولي”؟
غزة لم تُفشل خطة الإبادة فقط… بل جرّدت الذين أطلقوها من شرعية خطابهم الغربي المقدّس.

غزة لا تُهزم… لأنها لا تستمد قوتها من الأرض وحدها

غزة ليست مجرد موقع جغرافي، بل فكرة. والفكرة التي تقاتل من أجل الحياة — مهما كانت ضراوة الموت — لا يمكن هزيمتها.
حتى لو صبّ العدو على رؤوس أطفالها ونسائها نيران جهنم صبًّا، تبقى غزة واقفة لأنها لم تضع مستقبلها في يد أحد، بل في إرادة شعبها.
ومن تحت الأرض — من فم النفق — خرجت الحقيقة التي حاول العالم دفنها:
أن من يحاول إعادة كتابة التاريخ… قد يوقظ شعبًا قادرًا على كتابة تاريخ جديد بدمه.