أمة تُصفّق وهي تُستدرج إلى الفتنة
كتب زياد فرحان المجالي -
ليست أزمة الشعوب العربية في نقص الموارد، ولا في شحّ التاريخ، ولا حتى في غياب الشعارات الكبرى. أزمتها الأعمق تكمن في لحظة القطيعة مع الذات، حين تفقد الشعوب ثقتها بنفسها، وتدخل في صراع داخلي مع هويتها، فتتحول من جماعة حيّة إلى كتلة منفعلة، سهلة الاستثارة، سريعة الانقسام، قابلة للتوجيه من الخارج ومن الداخل معًا.
الشعوب التي تكون متصالحة مع نفسها لا تُستفز بسهولة، ولا تُستدرج إلى معارك وهمية، ولا تُختزل هويتها في مباراة أو شعار أو حدود مرسومة بالقوة. التصالح مع الذات ليس حالة رومانسية أو خطابًا إنشائيًا، بل وعيٌ تراكمي: وعي بالتاريخ، وبالوظيفة، وبالمكان، وبالمصير المشترك. وعندما يغيب هذا الوعي، تصبح الجماهير مادة خام لأي صراع، وأداة جاهزة لأي مشروع تفتيتي مهما كان شكله أو عنوانه.
الإيمان بالعروبة، هنا، لا يُقصد به أيديولوجيا جامدة أو خطابًا قوميًا تقليديًا، ولا حنينًا عاطفيًا إلى ماضٍ منقضٍ، بل إدراكًا عقلانيًا بأن ما يجمع هذه الشعوب أكثر بما لا يُقاس مما يفرّقها. اللغة، الذاكرة، الجغرافيا، المصالح، وحتى الجراح المتشابهة… كلها عناصر وحدة لا عناصر نزاع. غير أن المشكلة تبدأ حين تُدار هذه العناصر بعقلية التجزئة لا بعقلية التكامل، وبمنطق الغلبة لا بمنطق الشراكة.
في لحظات التصالح، تدرك الشعوب أن التنافس لا يعني العداء، وأن الاختلاف لا يعني القطيعة، وأن الانتصار الحقيقي ليس في كسر الشقيق، بل في منع العدو من كسر الجميع. أما حين تفقد الشعوب هذا الميزان، فإنها تنزلق، من حيث لا تشعر، إلى إعادة إنتاج صراعات جاهلية بثوب حديث، تُدار بالأعلام والمنصّات الرقمية بدل السيوف، وبالخطاب الانفعالي بدل العقل، لكن بروح واحدة: روح الغلبة لا روح المسؤولية.
لقد أثبتت التجارب أن الشعوب التي تمتلك إيمانًا بهويتها لا تحتاج إلى وصاية، ولا تخاف من الحرية، ولا تبحث عن تعويض نفسي في انتصارات رمزية أو وهمية. فهي قادرة على الفصل بين الرياضة كفعل إنساني جميل، والسياسة كصراع مصالح، والإعلام كأداة توجيه وتأثير. أما الشعوب التي لم تحسم علاقتها بذاتها، فتخلط كل شيء بكل شيء، وتُدار بالانفعال بدل التحليل، وبالضجيج بدل الفهم.
وهنا يكمن جوهر النقد السياسي: ليست المشكلة في الحدث ذاته، بل في طريقة تلقّيه وتأويله. ليست في المباراة، بل في ما يُسقَط عليها من أحقاد وتراكمات. ليست في المنافسة، بل في تحويلها إلى ساحة لتفريغ غضب مكبوت صنعته سنوات من الإحباط، وغياب العدالة، وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي. الشعوب الواثقة من نفسها لا تحتاج إلى شتم الآخر لتأكيد ذاتها، ولا تبحث عن خصم قريب لتعويض عجزها عن مواجهة خصمها الحقيقي.
الإيمان بالعروبة، بمعناه العميق، هو إيمان بأن هذه الشعوب ليست قدَرًا للانقسام، ولا مادة للاستهلاك الإعلامي، ولا جمهورًا دائمًا في مدرّجات التاريخ. هو إيمان بأن العروبة ليست نقيض الوطنية، بل إطارها الحامي، وليست عدوّ الخصوصيات، بل المظلّة التي تصونها. وكلما ضعفت هذه القناعة، تمدّدت مشاريع التفكيك بأسماء براقة: رياضة، ثقافة، اختلاف، حرية، فيما يجري تفريغ المعنى من مضمونه.
إن أخطر ما تواجهه الشعوب اليوم ليس القمع وحده، بل الاعتياد على التشظي. حين يصبح الانقسام طبيعيًا، والعداء مألوفًا، والتخوين لغة يومية، نكون أمام مجتمعات فقدت بوصلتها الأخلاقية قبل السياسية. وعندها، لا يعود السؤال الجوهري: من ينتصر؟ بل سؤال أكثر قسوة: من يبقى، وبأي وعي، وبأي هوية؟
الترياق ليس في العودة إلى الشعارات، ولا في رفع الصوت، بل في استعادة المعنى. معنى أن تكون عربيًا لا بوصفك تابعًا لدولة أو فريق، بل شريكًا في مصير. معنى أن تختلف دون أن تُلغى، وأن تنافس دون أن تُخاصم، وأن تنتقد دون أن تهدم الأساس الذي تقف عليه. فالهويات التي لا تُدار بعقل، تتحول سريعًا إلى أدوات صراع.
حين تتصالح الشعوب مع نفسها، يعود العقل إلى مكانه الطبيعي، وتعود العروبة من فكرة متنازَع عليها إلى إطار حماية جماعية. عندها فقط، تصبح الكرة كرة، والسياسة سياسة، والهوية سياجًا يحمي… لا سكينًا يجرح.