مزاجية حكومية تُربك القطاع العام وتستنزف الضمان: مختصون يحذّرون من قرارات بلا قياس أثر!
مالك عبيدات - انتقد مختصون في شؤون القطاع العام والضمان الاجتماعي النهج الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة في تطبيق قرارات الإحالة على التقاعد المبكر، معتبرين أن هذه القرارات اتسمت بـ«المزاجية» وغياب الرؤية الشمولية، ما انعكس سلباً على الاستقرار الإداري والمركز المالي للمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، وعمّق فجوة عدم الثقة بين الموظفين والحكومات.
وفي وقتٍ يفترض فيه أن تُدار سياسات القطاع العام والضمان الاجتماعي بمنهجية مؤسسية قائمة على التخطيط وقياس الأثر، تتكشف مجدداً إشكالية المزاجية الحكومية في تطبيق قرارات الإحالة على التقاعد المبكر، وما نتج عنها من ارتباك إداري واستنزاف مالي واهتزاز ثقة الموظفين بالدولة. مختصون في الإدارة العامة والتأمينات الاجتماعية يؤكدون أن الحكومات المتعاقبة لم تتعامل مع التقاعد المبكر كسياسة عامة ذات أهداف واضحة، بل كأداة ظرفية تُفعّل حيناً وتُعطّل حيناً آخر، وفق اعتبارات آنية لا تستند إلى تقييم علمي أو رؤية شمولية.
ويحذر الخبراء من اختزال أزمة الضمان الاجتماعي في التقاعد المبكر لموظفي القطاع العام وحدهم، مشددين على أن الخلل أعمق وأوسع، ويشمل ضعف الحوكمة، وتضخم النفقات التشغيلية، وتراجع كفاءة الاستثمار، إضافة إلى قرارات إدارية متناقضة أضعفت الاستقرار المؤسسي، وكرّست حالة من عدم اليقين والخوف داخل مؤسسات الدولة، بما يهدد أحد أهم ركائز الأمن الإداري والسياسي.
القضاة: هذا ليس القاتل الوحيد للضمان!
وقال الخبير في إدارة القطاع العام الدكتور عبدالله القضاة إن التقاعد المبكر «ليس القاتل الوحيد للضمان الاجتماعي»، مؤكداً أن الحكومات دأبت على تبرير قراراتها المتناقضة دون قياس أثرها الحقيقي. وأوضح أن قرار إحالة الموظفين بعد 30 سنة خدمة جرى تبريره سابقاً بضخ دماء جديدة وتحسين الفاعلية، ثم عادت الحكومات نفسها لتتبنى مبررات معاكسة تتحدث عن الحفاظ على الخبرات، في مؤشر واضح على غياب التخطيط المؤسسي.
وأشار القضاة في تصريحات خاصة ل الأردن ٢٤ إلى أن مخاطر الضمان لا تقتصر على القطاع العام المدني، لافتاً إلى أن نحو 95% من منتسبي القطاع العسكري يُحالون أيضا إلى التقاعد في سنّ مبكّرة، متسائلاً عن سبب حصر المعالجة في شريحة دون أخرى، خاصة مع توقف الحكومة عن دفع اشتراكات مترتبة عليها نيابة عن العسكريين، ما أضر بالمركز المالي للضمان الاجتماعي.
وانتقد القضاة ضعف الحوكمة داخل مؤسسة الضمان الاجتماعي، معتبراً أن فصلها إلى مؤسستين (المؤسسة وصندوق الاستثمار) أدى إلى هدر مالي مرتفع نتيجة تضخم الإدارات المساندة، داعياً إلى إعادة دمج المؤسستين في كيان واحد بإدارة موحدة، وترشيق النفقات التشغيلية، وتوحيد الدوائر الداعمة كالموارد البشرية والمالية وتكنولوجيا المعلومات.
كما دعا إلى الاستفادة من التحول الرقمي لتقليص عدد الفروع، والاكتفاء بمكاتب محدودة داخل البلديات للمهام الضرورية، والاستغناء عن المباني المستأجرة أو استثمار المملوكة منها، مؤكداً أن استمرار التوسع في الفروع «غير مبرر اقتصادياً».
وفيما يتعلق بالاستثمار، شدد القضاة على ضرورة الانتقال من النهج التقليدي إلى استثمارات استراتيجية وتنموية في المحافظات، لا سيما في قطاعات السياحة والصناعة، بما يسهم في خلق فرص عمل جديدة ويعزز الاشتراكات، بدلاً من الاستثمار في أراضٍ غير منتجة.
وعلى الصعيد التشريعي، اقترح القضاة إعادة النظر في معادلات احتساب الرواتب التقاعدية عبر زيادة عوامل المنفعة، وإلغاء سقف الأجور الخاضعة للضمان مقابل ضبط الرواتب التقاعدية بمعادلات عادلة، بما يحقق التكافل الاجتماعي. كما أيد جعل سن التقاعد مرناً واختيارياً حتى 65 عاماً، وإلغاء شمول غير الأردنيين برواتب تقاعدية وقصر شمولهم على تعويض الدفعة الواحدة وإصابات العمل.
وحذّر القضاة من التناقض بين قرارات مجلس الوزراء الأخيرة ونظام إدارة الموارد البشرية القائم على العقود والتجديد بناءً على الأداء، مؤكداً أن هذا التناقض خلق ثقافة خوف وصراع تنظيمي داخل المؤسسات، وهدد الاستقرار الوظيفي، وقد ينعكس سلباً على الأمن السياسي للدولة.
الصبيحي: الحكومات تتعامل بمزاجية
من جهته، قال خبير التأمينات الاجتماعية المحامي موسى الصبيحي إن الحكومات تعاملت بمزاجية واضحة مع ملف التقاعد المبكر، موضحاً أن القرار الصادر عام 2020 بإلزام إنهاء خدمات من أكملوا 360 اشتراكاً في الضمان ظل نافذاً عبر حكومات متعاقبة حتى جرى وقف العمل به مؤخراً.
وأكد الصبيحي أن قرار وقف الإلزامية «قرار حكيم وحصيف»، كونه أعاد السلطة التقديرية للوزير ومنع الإحالات القسرية الجماعية، كاشفاً أن عدد المتقاعدين المبكر الجدد في عام 2024 بلغ نحو 22,500 متقاعد، يشكل موظفو القطاع العام منهم قرابة 66–67% (نحو 15 ألف متقاعد)، ما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في فاتورة التقاعد.
وشدد الصبيحي على أنه لم يجد «أي إيجابية واحدة» للإحالات القسرية على التقاعد المبكر في القطاع العام، مطالباً بتعديل المادة (100) من نظام إدارة الموارد البشرية، وإلغاء إنهاء الخدمة «دون طلب الموظف»، مؤكداً أن التقاعد المبكر يجب أن يكون خياراً شخصياً يتحمل الموظف تبعاته، لا قراراً إدارياً مفروضاً.
وختم المختصون بالتأكيد على أن معالجة ملف التقاعد المبكر لا يمكن أن تتم بقرارات متقلبة، بل تتطلب حوكمة حقيقية، وتشريعات مستقرة، وربط القرارات بالأداء وقياس الأثر، بما يحفظ كرامة الموظف، ويصون المال العام، ويضمن استدامة الضمان الاجتماعي