فرنسا ... من الغضب الى العصب
جو 24 : لم يتوقّع كثيرون أن يشتدّ عصب المواطنين الفرنسيّين تجاه رموز دولتهم، بتلك الصورة الواضحة، بعد الاعتداءات الدامية التي أرّقتهم ليلة الثالث عشر من هذا الشهر مودية بحياة حوالي 130 ضحيّة. فنمط عيش الفرنسيّين الهادئ لم يكن لينبئ بأنّ ما جرى قادر على جعل روح العصبيّة الوطنيّة تدبّ في عروق أبناء فرنسا بالشكل الحالي. الهجمات التي طالت كتّاب مجلّة "شارلي إيبدو" في بداية هذا العام، أنتجت تضامناً بين الفرنسيّين واستنكاراً طبيعيّاً لعمليّات القتل الوحشي. لكنّ الأمور عادت الى طبيعتها آنذاك بسرعة. بينما تنقل مشاهدات وسائل الاعلام من داخل شوارع فرنسا صوراً مختلفة هذه المرّة.
الكاتبة ليز ألدرمان من صحيفة "النيويورك تايمس" الأميركيّة كتبت أنّ المشاعر الوطنيّة الفرنسيّة التي تتجلّى في الآونة الأخيرة "لم تشهدها فرنسا منذ عقود". فمبيع الأعلام ارتفع بنسب كبيرة في مختلف المناطق الفرنسيّة. وفي أحد المحال التجاريّة الواقع في #باريس وصل ارتفاع تلك النسبة الى 400%.
لكنّ "الحبّ المتجدّد" لفرنسا لم يكن مبيعُ الأعلام بابَ ظهوره الوحيد. فكما تجري العادة في معظم الدول، لا ينفصل تكريم الوطن عن تكريم الجيش، ولذلك وجد الفرنسيّون في المؤسّسة العسكريّة متنفّساً جديداً لإعلان ولائهم لدولتهم. فالذين يتّجهون الى الانخراط في الجيش الفرنسي تضاعفت أعدادهم خمس مرّات بعد الاعتداء، بحيث وصلت الى 1500 شخص في اليوم الواحد. وقال العقيد إريك دو لابْرَسْل، الناطق باسم خدمة التجنيد في السلك العسكري الفرنسي لل"نيويورك تايمس": "لم أرَ أيّ شيء كهذا من قبل". وأعرب شبّان كثر عن دوافعهم القويّة للالتحاق بالجيش بعد العمليّات الإرهابيّة. وارتفع عدد طالبي الانتساب الى القوّات الجوّيّة من 200 شخص الى 800 عنصر في اليوم الواحد أيضاً. من جهة أخرى، كانت أقسام الشرطة أيضاً "تفيض" بطلبات الالتحاق بها. وتغذّي الاندفاعَ الوطنيّ التهديدات والعمليّات الارهابيّة التي ما زالت تتعرّض لها فرنسا حتى ولو بشكل غير مباشر، كما حصل في عاصمة مالي من احتجاز رهائن من بينهم فرنسيّون في فندق "راديسون بلو" داخل باماكو.
ويتوقّع للانفاق العسكري الفرنسي أن يزداد بحوالي 700 مليون دولار السنة المقبلة ليتخطّى عتبة 53 مليار دولار بشكل إجمالي. وفي ما عدا هذه الأرقام، لم تمرّ العلاقة بين المواطنين وجيشهم خلال السنوات الماضية من دون بعض المشاكل لناحية القدرة على التجنيد وجذب المزيد من العناصر الشابة الى تلك المؤسّسة. فمنذ سنتين، كان الجيش الفرنسي يواجه صعوبة في شدّ متطوّعين جدد إليه. وكتب حينذاك المقدّم فريديريك لو سان في موقع "لو بلوس" الفرنسي يشرح الأسباب والنتائج. فانطلاقاً من اللحظة التي انسحبت فيها القوّات الفرنسيّة من أفغانستان لاحظ المسؤولون انخفاضاً في طالبي الالتحاق بالجيش لأنّ الشبّان يريدون "الحركة والمغامرة".
و#الجيش_الفرنسي بحاجة الى ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء سنويّاً، ومع ذلك فإنّ 27% من المتطوّعين في السلك العسكري يتركونه بعد مرور ستّة أشهر. من هنا، تعمد القيادة الى بثّ الحماسة في قلوب الشباب عبر عرض برامج تلفزيونيّة عن الجيش وعمليّاته الخاصّة وقوّات الكومندوس. وكان 37% من الشبّان المقبلين الى الجيش يبرّرون حماستهم بالرغبة "في تقديم شيء من أجل الوطن" فيما كان 30% يرون أنّ "حبّ العمل من أجل الفريق" هو الذي دفعهم للانتساب الى المؤسّسة العسكريّة.
لكنّ المشكلة الأخرى كانت تتلخّص في ابتعاد المجتمع الفرنسي عن العنف، ما يعني ابتعاده عن كلّ ما له علاقة بالسلاح، حيث عبّر 26% من الشباب عن قناعتهم بأنّ "المهن العسكريّة هي مهن خطيرة". كما أنّ فكرة الموت في دول بعيدة عن الحدود الفرنسية لم تكن مغرية هي الأخرى. فصحيح أنّ الشباب يبحث عن حسّ المغامرة إلّا أنّ هذه الأخيرة، في حال بعدها عن الوطن، لا تحمل في طيّاتها جاذبيّة كبيرة. لذلك، دأب المسؤولون الفرنسيّون على العمل من أجل إعادة إحياء علاقة التوأمة بين الجيش والدولة، الجيش الذي سيظلّ هدفه الدائم "حماية الفرنسيّين والقيم الفرنسيّة في كلّ الظروف".
على الضفّة الأخرى من المحيط الاطلسي، يجد المرء بعضاً من العوامل المشتركة التي تحدّد علاقة الشعب الاميركي بجيشه. فطلبات الالتحاق بصفوفه ارتفعت قليلاً بعد أحداث 11 أيلول لكنّها عادت وانخفضت لاحقاً بحب موقع "ميليتاري" الأميركي. وفي سنة 2012 كان 12% من الذين التحقوا بالجيش يحدّدون السبب الرئيس لذلك بهجمات 11 أيلول الارهابيّة. وهناك أسباب أخرى شخصيّة تختلف من شخص الى آخر.
فمنهم من يبحث عن حسّ المغامرة، وآخرون يجري حبّ الانتماء الى الجيش في عروق العائلة، حيث يكون الوالد و/أو الوالدة منخرطين في السلك العسكري، وقسم ثالث يعتريه الاحساس بحبّ المواطنين الآخرين والاندفاع لحمايتهم. لكنّ اعتداءات 11 أيلول لم ترفع نسبة طلبات الانتساب بنفس الوتيرة التي حصلت بعد هجمات بيرل هاربور في الحرب العالميّة الثانية.
وقال بيث آش الاقتصادي المتخصّص بالشؤون العسكريّة للموقع نفسه إنّ مستوى البطالة المرتفع هو عامل مهمّ في التحاق الشبّان بالجيش. فالأزمة الماليّة التي عصفت بالعالم وبالولايات المتحدة سنة 2008 كان لها دور مهمّ في زيادة طلبات الانتساب لاحقاً حيث سجّل العام التالي فائضاً أو اكتفاء في جميع الوظائف المرتبطة بالمؤسّسة العسكريّة.
لكن بغضّ النظر عن النواحي الاقتصاديّة، تبقى الحماسة الوطني أيضاً من أهمّ العوامل التي تدفع الشباب الى الخدمة في صفوف الجيش. لكنّ هذا الشعور سيف ذو حدّين أكان بالنسبة للأميركيّين أو بالنسبة للفرنسيّين. ففي الحالة الاخيرة، يبدي المسؤولون الفرنسيّون تخوّفهم من تحوّل ذلك الحماس الى تعصّب أعمى يقود المواطنين للدخول الى الجيش فقط من أجل الانتقام. فهذا الأمر بالنسبة إليهم يضرّ بصورة الجيش وأهدافه أكثر ممّا يساهم في خدمة القضيّة الأساسيّة المتمثّلة بمكافحة الارهاب وحماية فرنسا وحرّيّات مواطنيها.
ومن هنا جاءت الكلمة الجازمة التي ألقاها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اليوم في خلال تقديمه معاني الاجلال لضحايا اعتداءات باريس بالقول:"الحرّيّة لا تطلب الانتقام ... بل الخدمة".
النهار
الكاتبة ليز ألدرمان من صحيفة "النيويورك تايمس" الأميركيّة كتبت أنّ المشاعر الوطنيّة الفرنسيّة التي تتجلّى في الآونة الأخيرة "لم تشهدها فرنسا منذ عقود". فمبيع الأعلام ارتفع بنسب كبيرة في مختلف المناطق الفرنسيّة. وفي أحد المحال التجاريّة الواقع في #باريس وصل ارتفاع تلك النسبة الى 400%.
لكنّ "الحبّ المتجدّد" لفرنسا لم يكن مبيعُ الأعلام بابَ ظهوره الوحيد. فكما تجري العادة في معظم الدول، لا ينفصل تكريم الوطن عن تكريم الجيش، ولذلك وجد الفرنسيّون في المؤسّسة العسكريّة متنفّساً جديداً لإعلان ولائهم لدولتهم. فالذين يتّجهون الى الانخراط في الجيش الفرنسي تضاعفت أعدادهم خمس مرّات بعد الاعتداء، بحيث وصلت الى 1500 شخص في اليوم الواحد. وقال العقيد إريك دو لابْرَسْل، الناطق باسم خدمة التجنيد في السلك العسكري الفرنسي لل"نيويورك تايمس": "لم أرَ أيّ شيء كهذا من قبل". وأعرب شبّان كثر عن دوافعهم القويّة للالتحاق بالجيش بعد العمليّات الإرهابيّة. وارتفع عدد طالبي الانتساب الى القوّات الجوّيّة من 200 شخص الى 800 عنصر في اليوم الواحد أيضاً. من جهة أخرى، كانت أقسام الشرطة أيضاً "تفيض" بطلبات الالتحاق بها. وتغذّي الاندفاعَ الوطنيّ التهديدات والعمليّات الارهابيّة التي ما زالت تتعرّض لها فرنسا حتى ولو بشكل غير مباشر، كما حصل في عاصمة مالي من احتجاز رهائن من بينهم فرنسيّون في فندق "راديسون بلو" داخل باماكو.
ويتوقّع للانفاق العسكري الفرنسي أن يزداد بحوالي 700 مليون دولار السنة المقبلة ليتخطّى عتبة 53 مليار دولار بشكل إجمالي. وفي ما عدا هذه الأرقام، لم تمرّ العلاقة بين المواطنين وجيشهم خلال السنوات الماضية من دون بعض المشاكل لناحية القدرة على التجنيد وجذب المزيد من العناصر الشابة الى تلك المؤسّسة. فمنذ سنتين، كان الجيش الفرنسي يواجه صعوبة في شدّ متطوّعين جدد إليه. وكتب حينذاك المقدّم فريديريك لو سان في موقع "لو بلوس" الفرنسي يشرح الأسباب والنتائج. فانطلاقاً من اللحظة التي انسحبت فيها القوّات الفرنسيّة من أفغانستان لاحظ المسؤولون انخفاضاً في طالبي الالتحاق بالجيش لأنّ الشبّان يريدون "الحركة والمغامرة".
و#الجيش_الفرنسي بحاجة الى ثلاثين ألفاً من الرجال والنساء سنويّاً، ومع ذلك فإنّ 27% من المتطوّعين في السلك العسكري يتركونه بعد مرور ستّة أشهر. من هنا، تعمد القيادة الى بثّ الحماسة في قلوب الشباب عبر عرض برامج تلفزيونيّة عن الجيش وعمليّاته الخاصّة وقوّات الكومندوس. وكان 37% من الشبّان المقبلين الى الجيش يبرّرون حماستهم بالرغبة "في تقديم شيء من أجل الوطن" فيما كان 30% يرون أنّ "حبّ العمل من أجل الفريق" هو الذي دفعهم للانتساب الى المؤسّسة العسكريّة.
لكنّ المشكلة الأخرى كانت تتلخّص في ابتعاد المجتمع الفرنسي عن العنف، ما يعني ابتعاده عن كلّ ما له علاقة بالسلاح، حيث عبّر 26% من الشباب عن قناعتهم بأنّ "المهن العسكريّة هي مهن خطيرة". كما أنّ فكرة الموت في دول بعيدة عن الحدود الفرنسية لم تكن مغرية هي الأخرى. فصحيح أنّ الشباب يبحث عن حسّ المغامرة إلّا أنّ هذه الأخيرة، في حال بعدها عن الوطن، لا تحمل في طيّاتها جاذبيّة كبيرة. لذلك، دأب المسؤولون الفرنسيّون على العمل من أجل إعادة إحياء علاقة التوأمة بين الجيش والدولة، الجيش الذي سيظلّ هدفه الدائم "حماية الفرنسيّين والقيم الفرنسيّة في كلّ الظروف".
على الضفّة الأخرى من المحيط الاطلسي، يجد المرء بعضاً من العوامل المشتركة التي تحدّد علاقة الشعب الاميركي بجيشه. فطلبات الالتحاق بصفوفه ارتفعت قليلاً بعد أحداث 11 أيلول لكنّها عادت وانخفضت لاحقاً بحب موقع "ميليتاري" الأميركي. وفي سنة 2012 كان 12% من الذين التحقوا بالجيش يحدّدون السبب الرئيس لذلك بهجمات 11 أيلول الارهابيّة. وهناك أسباب أخرى شخصيّة تختلف من شخص الى آخر.
فمنهم من يبحث عن حسّ المغامرة، وآخرون يجري حبّ الانتماء الى الجيش في عروق العائلة، حيث يكون الوالد و/أو الوالدة منخرطين في السلك العسكري، وقسم ثالث يعتريه الاحساس بحبّ المواطنين الآخرين والاندفاع لحمايتهم. لكنّ اعتداءات 11 أيلول لم ترفع نسبة طلبات الانتساب بنفس الوتيرة التي حصلت بعد هجمات بيرل هاربور في الحرب العالميّة الثانية.
وقال بيث آش الاقتصادي المتخصّص بالشؤون العسكريّة للموقع نفسه إنّ مستوى البطالة المرتفع هو عامل مهمّ في التحاق الشبّان بالجيش. فالأزمة الماليّة التي عصفت بالعالم وبالولايات المتحدة سنة 2008 كان لها دور مهمّ في زيادة طلبات الانتساب لاحقاً حيث سجّل العام التالي فائضاً أو اكتفاء في جميع الوظائف المرتبطة بالمؤسّسة العسكريّة.
لكن بغضّ النظر عن النواحي الاقتصاديّة، تبقى الحماسة الوطني أيضاً من أهمّ العوامل التي تدفع الشباب الى الخدمة في صفوف الجيش. لكنّ هذا الشعور سيف ذو حدّين أكان بالنسبة للأميركيّين أو بالنسبة للفرنسيّين. ففي الحالة الاخيرة، يبدي المسؤولون الفرنسيّون تخوّفهم من تحوّل ذلك الحماس الى تعصّب أعمى يقود المواطنين للدخول الى الجيش فقط من أجل الانتقام. فهذا الأمر بالنسبة إليهم يضرّ بصورة الجيش وأهدافه أكثر ممّا يساهم في خدمة القضيّة الأساسيّة المتمثّلة بمكافحة الارهاب وحماية فرنسا وحرّيّات مواطنيها.
ومن هنا جاءت الكلمة الجازمة التي ألقاها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اليوم في خلال تقديمه معاني الاجلال لضحايا اعتداءات باريس بالقول:"الحرّيّة لا تطلب الانتقام ... بل الخدمة".
النهار