معرض الفن جميل ينطلق من متحف بيرا في إسطنبول
بنت التحوّلات السياسية السابقة في الشرق الأوسط، جدراناً بين المسلمين وبين تاريخهم وحضاراتهم الغنية والمتنوعة بالفنون من جهة، وبين هذه الفنون والغرب، من جهة أخرى. وزاد الهوّة غياب التوثيق الدقيق لفنون الحضارات الإسلامية في المنطقة وعدم حضن هذه الفنون لتستمر في الإنتاج الحديث والمعاصر. فغابت المتاحف والمراكز والأبحاث والكتب في كثير من بلداننا العربية، المتخصصة بفنون الحضارات الإسلامية، لكنها عادت لتحتلّ اهتمام دول وحكومات، خصوصاً في دول الخليج وتركيا. كما أصبحت الفنون الإسلامية في السنوات الأخيرة على جدول أعمال متاحف عالمية مثل «فيكتوريا وألبرت» البريطاني و «اللوفر» الفرنسي والمتحف الإسلامي في قطر، ومؤسسات ثقافية - مثل «مجتمع الفن جميل»- السعودية التي لها فروع في مختلف بلدان العالم، وبيينالي البندقية، وغيرها من المبادرات الخاصة في الشرق الأوسط مثل متحف بيرا التركي ومؤسسة الآغا خان التي افتتحت متحفاً فريداً للحضارات الإسلامية في تورونتو الكندية قبل سنتين. وينبع هذا الاهتمام من عمل متواصل لهذه المؤسسات العريقة التي فتّحت العين على كنز مفقود ومبعثر في دول الغرب، يمكن الغَرف منه لتلاقح الحضارات وخصوصاً في مجال الفن المعاصر المفتوح على كل المفاهيم والثقافات. وهو يحتاج الى البحث والاستيحاء من مناهل لا تزال غير جماهيرية وعالمية. والفن الإسلامي الذي تعود جذوره الى أرض عانى أجيالها من قطيعة مع الماضي ومعرفة تاريخه القديم، هو أكثر الفنون خصوصية سواء لناحية الإهمال السياسي والثقافي والتاريخي الذي همّشه أو لناحية ارتباطه بالدين، أو لناحية عدم الوعي في جذوره ومكنوناته وبالتالي عدم وجود مراجع كثيرة عنه.
لكن بداية القرن الحادي والعشرين شهدت اهتماماً، ولو بسيطاً على صعيد المايكرو عالمي، بفنون الحضارات الإسلامية وخصوصاً من المؤسسات التي ذكرناها سابقاً. هذا الاهتمام أعاد الاعتبار لهذا النوع، خصوصاً مع حاجة الغرب لفهم الإسلام وحضاراته من جذوره، مع علوّ صوت الإرهاب المتّهمة المناطق الإسلامية به. وبدأنا نشهد تطوّراً في الفنون الإسلامية في فضاءات ومتاحف عالمية، وجوائز للفنانين المعاصرين الذين يستوحون من هذه الحضارات أو ينهلون منها أو يبحثون في أسرارها، لإحياء الفن الإسلامي ومحاولة عصرنته على أنه مادة مرنة قابلة للتحديث وتتماشى مع أكثر الوسائل والأساليب حداثة خصوصاً الفنون البصرية والصوتية والتشكيلية المعاصرة. من هنا تأتي أهمية جائزة «جميل للفن» التي تأسست في العام 2009 لدعم الفنانين الذين يستوحون من الفن الإسلامي أعمالاً معاصرة، وبالتالي دعم هذا الخط ليتواجد على الساحة العالمية كمكوّن أساسي وفعال وليس كمادة أثرية «مجمّدة» فقط. وهذه الجائزة هي جزء من سلسلة مشاريع تعمل في الشأن الثقافي التنموي في مختلف البلدان العربية ولندن ونيويورك. الجائزة التي يشرف عليها متحف «فيكتوريا وألبرت» ولجنة تحكيم عالمية برئاسة مدير المتحف مارتن روث، وتقدّم إليها أكثر من 280 فناناً وفنانة من العالم، اختارت هذه السنة أن تحتفل بدورتها الرابعة في متحف «بيرا» في إسطنبول، حيث سلّمت الفائز الباكستاني الشاب غلام محمد جائزته التي تبلغ بـ25 ألف جنيه استرليني، وستنشر «الحياة» مقابلة خاصة معه لاحقاً. المتحف التركي الذي يهتمّ بالتراث الإسلامي والعثماني الذي افتتح منذ حوالى ست سنوات، يستقبل معرضاً للأعمال الـ12 التي تأهلت الى اللائحة القصيرة للجائزة، حتى 14 آب (أغسطس) المقبل.
يضم المعرض أعمالاً جمعت بين الصوت والأفلام والسيراميك والأشكال الهندسية، المشربيات، الخط العربي، والمجسمات المصغرة، منمنات ورقية والكولاج (الأعمال الفائزة). وهي مواد تشهد على تنامي الثقة لدى الفنانين الذين ذاع صيت العديد منهم في عالم الفن في مختلف أنحاء العالم، وذلك لتأكيد هوياتهم المتعددة المعاصرة والمتأصلة في الثقافات الإسلامية. أما الفنانون فهم، بهية شهاب (لبنان، مصر)، وائل شوقي (مصر)، رشيد أراين (باكستان)، لارا أسود (لبنان، كندا)، دفيد شالميرز ألزورث (بريطانيا)، كنان (تركيا)، شهند هيساميان (إيران)، لوتشيا كوخ (البرازيل)، شهبور بويان (ايران)، جودت ايريك (تركيا) وغلام محمد (باكستان).
وتكمن أهمية هذه الأعمال الموزّعة بطريقة فنية تعطي لكل عمل حقّه، في أنها متنوعة وتتفاوت في الأساليب الفنية المقدمة والوسائل والطرح الذي في بعضه وجه سياسي مثل عمل بهية شهاب «ألف مرّة لا» الذي يوثق أشكال اللام ألف في اللغة العربية منذ بدايات الإسلام ولغة القرآن. وهو عمل له أوجه سياسية للرفض، وثقافية للفن خصوصاً أن الفنانة أجرت بحثاً واسعاً لتحصل على مرادها إن كان عبر النقود المعدنية أو الكتب أو الآثار... وهناك عمل مميز للبريطاني ديفيد ألزورث الذي تخصّص في السنوات الأخيرة في تاريخ البستنة أو الحدائق والمناظر الطبيعية، وهو يقدم في المعرض سجادتين (رمز الصناعة الإسلامية) من إيران وباكستان. ففي العمل الأول طرّز منظراً متخذاً من رسوم آبي جين ديلاغريف لحدائق قصر فرساي على أرضية سجادة من كيرمان عمرها 150 سنة.
الأعمال مجتمعة تشكّل مادة لتقديم فلسفة الحياة اليومية المعاصرة من خلال الإرث الفني والتقليدي والتاريخي للحضارات الإسلامية. وهي تقوي النزعة العاطفية لدى سكان منطقة الشرق الاوسط، إذ تستحضر ماضياً مجهولاً وغير موثّق ولا يسوّق له في شكل جيد. هي أشكال تصوّر التاريخ الفني لمنطقة محروقة بحروبها المحلية ومآسيها الاستعمارية. هي نوع من بحث جديد بوسائل راقية معاصرة، في تاريخ البشر ولغاتهم وتواصلهم من خلال الفن البصري والهندسي والرسم والخط، لتشكل أعمالاً لا يحدّدها ولا يؤطرها زمن ولا جغرافيا ولا سياسات. هي أعمال ينصهر فيها الفن الغربي بالإسلامي، ليشكلا مواد رومانسية وعملية، تدعو الى العودة الى الذات المشوّهة والباحثة عن هوية.