jo24_banner
jo24_banner

أمس كنا هناك

عريب الرنتاوي
جو 24 :

أحسب أن ملايين الفلسطينيين قضوا ليلتهم متسمّرين أمام الشاشات الفضية، يتتبعون لحظة بلحظة وقائع “الجلسة التاريخية” للجمعية العامة للأمم المتحدة..حُبست الأنفاس وبلغت القلوب الحناجر، بانتظار “النطق بالحكم الأممي”..بشغف بالغ تابعنا كل كلمة وحركة وإيماءة...هذه الليلة سيبدأ مشوار تصحيح “الخطأ التاريخي”، يوم استلب الغزاة أرض فلسطين، وتركوا شعبها نهباً للهجرة واللجوء والشتات..يوم قررت “المؤامرة” شطب فلسطين من الجغرافيا والتاريخ وعقول الفلسطينيين وذاكرتهم..يوم تقرر أن هناك شعبا فائضا عن الحاجة وليس دولة ناقصة على الخرائط.

أمس، لم يتمالك كل من انهمك بكفاح شعب فلسطين أعصابه..كنا نستعجل الدقائق والثواني...نترقب الرقم السحري..نعرف أن فلسطين ستنتصر في معركتها...ولكننا نريده نصراً مؤزراً، نريده اعترافاً وازناً..أمس اجتاحني شغف للتعرف على موقف كل دولة و”جزيرة نائية” من فلسطين...تفحصت الوجوه والأسماء..سعدت بوزير خارجية أندونيسيا، وصفقت لأحمد داود أوغلو على كلمته القوية والمؤثرة..غضبت للموقف الكندي، وبلغ الغضب أشده عندما كنت أشاهد مندوب الاحتلال والإجرام والاستيطان، “يبشر” بالسلام، ويذكرنا بأنه كانت لليهود دولة قبل ثلاثة آلاف سنة في فلسطين، أما نحن معشر اللاجئين، الذين ما زالت عظام أجدادنا غضة وطرية في مثاويها الأخيرة، فلسنا سوى قوم من “ناكري الجميل” الذين لا يعرفون مصلحتهم، ولا يقيمون وزناً لمنظومة “القيم” و”الأساطير” المؤسسة لكيان نهض على المجازر والاقتلاع والتشريد والتبديد.

تابعت “أبو مازن” لحظة بلحظة، كان موفقاً للغاية..عرف كيف يخاطب هذا المحفل الدولي، بلغة يفهمها، لغة الحقائق والمشاعر..لغة الحجة التي تقارع الحجة..فاستحق ما استحق من حفاوة الاستقبال وحرارته، في نيويورك كما في رام الله وغزة والمغتربات.

لم يفارقني شريط الذكريات وصورة أبي وجدتي، في كل مرة جيء بها على ذكر “التقسيم” و”حرب 1948”، استرجعت ذاكرة الطفل المشبعة بقصص المقاومة والبطولة، وفصول الحرمان والتشرد والاقتلاع...تذكرت شهداءنا الأقربين، الذين لم نعرف أين ووريت جثامين بعضهم الطاهرة...تذكرت “النكسة”، يوم اصطحبني والدي رحمه الله، طفلا في الثانية عشرة من عمره، للبحث عن عماتي وبنات عمي من بين المئات والألوف من النازحين..تذكرت جدتي التي بقيت وحدها لأسابيع في مخيم النويعمة، فعاشت على الطحين المُذاب بالماء الُمطعّمً بقليل من السكر...تذكرت صورة “الفدائي” الأولى، حين بدأ يتسلل إلى مخيم الوحدات من “القواعد” البعيدة...تذكرت قصص البطولة والشهادة والفداء التي ألهبت مشاعرنا وشكلت عقلنا وضميرنا ووجداننا.

تذكرت أول لقاء بياسر عرفات، الذي جاءنا معزياً بأحد أقاربنا الشهداء، وكيف أجلسني بينه وبين أبي في بيت في مخيم الوحدات، وكيف كان حريصاً على إطعام كل واحد منا من “المنسف” الذي أعدّ على عجل، وكيف كان يحثني على تناول قدر أكبر من الطعام، لأكون ذاك الشبل في ثورة شعب فلسطين.

تذكرت جورج حبش، وكيف كان يسألني في كل مرة التقيه عن “يزن” وما إذا كنت قد أنجبت له أخاً أو أخت، لكأنه كان يستعجلني على تقديم قسطي من “الثوار” أو “الشهداء” القادمين..فإما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل”.

تذكرت بيروت المقاومة والحصار، قصص البطولة والرجولة، ومرت أسماء ووجوه ووقائع، كشريط “وثائقي” أمام ناظري.

ها قد عدنا يا هيرتزل واشكول وغولدا ودايان ورابين ونتنياهو...ها قد عاد علم فلسطين ليحتل مكانته اللائقة والمتألقة بين أعلام الأمم...ها هي فلسطين تجلس على مقعدها في نيويورك، بعد أن أثبت شعبها بأنه “شعب الجبارين” و”طائر الفينيق” و”العنقاء التي تكبر أن تصادا”.

هي خطوة رمزية، يقول أحدهم، ولكن من قال إن أعظم المشاريع لا تبدأ بـ”الرمز”...من قال إن شعب فلسطين متخفف من الرموز، بل ومن قال إن “الرموز” لم تبق جذوة القضية مشتعلة، تنتقل من الأجداد إلى الأبناء إلى الأحفاد...من قال إن “الحلم” الفلسطيني سيموت، من قال إن الفلسطيني يمكن أن يستبدل “الكرة الأرضية” بحفنة من تراب وطنه، يضعها في زجاجة صغيرة بجانب سريره، أو بمفتاح “صدئ” يحرص على “توريثه” حتى لا يجد الأحفاد عنتاً في فتح بيوت أجدادهم، حين تحين ساعة اللقاء بأرض الأباء والأجداد الموعودة.

أمس، توحدت مشاعر الفلسطينيين بعد سنوات عجاف من الفرقة والانقسام، خفقت قلوب الملايين منهم معاً وفي نفس اللحظة، وشكلت دموع الألم والأمل المسكوبة من ملايين المآقي، نهر العودة..أمس استرجع كل فلسطيني صفحاته الخاص من كتاب النكبة والمقاومة..أمس كان الفلسطينيون على موعد مع الأمل والرجاء، كانوا على موعد جديد مع العودة والحرية والاستقلال.
(الدستور)

تابعو الأردن 24 على google news