الأردن وضغوط تنفيذِّ صفقةِ القرن
علي القيسية
جو 24 :
لم يعد سِرّاً ما يجري في الغُرفِّ المُغلقة بواشنطن وتل أبيب وبعض العواصِم العربيّةِ من نسجٍّ للخيوطِّ النهائية لخطّة السلامِّ الجديدة في الشرّقِ الأوسط، والتي تتطلعُ الأطرافُّ المعنيّةُ مِن خِلالها إلى إعادةِ رسّم ديمغرافيا وجغرافيا المنطقة، بما يضمنُ للكيانِ المحتلّ؛ الإجهازَّ بشكلٍّ كاملٍّ على أطلالِّ القضيّة الفلسطينية، وإن كانَ ذلكَ على حسابِّ أصحابِّ الأخيرةِ ومن دون أيِّ التفاتةٍ أو اكتراثٍ لحُزمة قراراتِ الشرعيّة الدوليّة ذات الصلة.
وعلى الرغم من فجاجتها وصراحتها حيالَّ التعهداتِ الأخرى التي تبناها رئيسُ الولاياتِ المتحدة دونالد ترامب إزاءَ الصين والمكسيك وشؤونِ الهجرة إبانَ حملتهِ الانتخابية وخلالَّ الفترةِ المُنّقضيةِ من ولايته؛ غيرَّ أن الإدارةُ الأميركيّةِ الراهنة انتهجت سياسةً إعلاميّةٍ مُتدرجة حيالَّ تسويةِ القضيّةِ الفلسطينيّة نظراً لما تُشكّلهُ الأخيرةُ من قُدّسيةٍ ومكانةٍ وثقلٍّ في العالميّن العربيِّ والإسلاميِّ... والمسيحيِّ أيضا.
فبجانبِّ التسريباتِ الإعلاميّة المقصودةِ إزاءَ خطّة السلامِّ المزعومة؛ فقد مهّدت واشنطن لتنفيذِّ ما يُسمّى بـ"صفقةِ القرّن" وذلكَ مِن خلالِّ اعترافها بالقُدسِّ كعاصمةٍ لإسرائيل التي مُنحت الجولان السوريُّ أيضا، وبين هذهِ وتلك، تمّ تجفيفُ مصادرِّ تمويلِّ وكالةِ غوثِ وتشغيلِّ اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بالتزامنِ مع دعمِّ الولاياتِ المتحدة لقانونِ يهوديّة الدولةِ العبرية، بما يمنحُ الكيانَ المُحتل، المسوّغ اللازمَ لتغطيةِ أيِّ عمليّاتِ تهجيرٍّ مُحتملةٍ لأصحابِّ الديانات الأخرى من الأرضِّ التي ورثوها عن أسلافهم منذ الآفِ السنين.
وقبلَّ أيّامٍ قليلة، نُقلَّ عن مُستشارِّ الرئيسِّ الأميركيِّ وصِهره جاريد كوشنير ما يشي بأنَ تفاصيلَّ خطّة السلامِّ في الشرّقِ الأوّسطِ أو ما باتَ يُعرفُ اصطلاحاً بـ"صفقةِ القرّن"، ستخرجُ مِن نطاقِها السريِّ إلى العلنيِّ بعد انقضاءِ شهرِّ رمضانِ المُبارك، وذلكَ بعدما تسلسلَّ اعتقادٌ زائفٌ للإدارةِ في واشنطن بأنَ الخطواتِ السابقةِ المُتخذة من قِبلها والمُمهدةِ للإعلانِ عن هذهِ الصفقةِ المزعومة؛ نجحت في تهيئةِ المُناخِ اللازمِّ لتنفيذها عملياً.
فهي ترى بأنَ الشارعَ العربيَّ عموماً والفلسطينيِّ والأردنيِّ خُصوصاً لا يعدو عن كونهِ مجرّدَ ظاهرةً صوّتيّة سُرعانَ ما تخبو جذوتها بعدَّ توقّدِها، فهذا الشارعُ هو الذي انتفضَّ منذ أشهرٍّ في وجهِ القرارِّ الأميركيِّ القاضي بنقلِّ سفارةِ واشنطن إلى القدّسِ الشريف، ثم ما لبثَ أن عادَّ ليسيحَ في الأرضِّ بحثاً عن قوتِ يومهِ.
تلك الإدارة ترى بلادنا باعتبارها بُقعةٍ جُغرافيّةٍ تنتمي لعصورٍّ وسيطة، يلفُّها الفسادُّ والتخلّفُ وسوءُ الإدارة، بلادٌ أصبحَ أقصى طموحُ مواطنيها الحصولُّ على دعمٍ نقديٍّ نظيرَّ رفّعِ الدعمِّ عن الخُبّزِ المُنتجَ مِن قمّحٍ ممنوحٍ من قِبلِّ واشنطن، كمكافأةٍ لها على إبرامِ اتفاقيتيّ أوسلو ووادي عربة ومِن قبلهما كامب ديفيد.
تلكَ النظرةُ القاصرةُ مِن قِبل الإدارةِ الأميركيّةِ وبعضُ حلفائِها الداعمين لتنفيذِّ الصفقةِ على حسابِّ الشعبيّن الأردنيِّ والفلسطينيِّ، لم تعِ الموروثُ التاريخيُّ والحضاريُّ والدينيُّ والتعبوي الذي يكتنزهُ أبناءُ ضفتيّ النهرِّ المُقدّس، والذين تكسّرت على صخّرةِ صمودهم وتفانيهم، أطماعُ جميعُ أولئك الذين سعوا للنيلِّ مِن أرضِهم وهويتهم.
وفي خضمِّ هذا المشهدِّ الذي تلوحُ في أفقهِ تحركاتٍ محمومةٍ لتصفيةِ القضيّة المحورية لأمّةٍ مُنكبّة بلدانها على معالجةِ شؤونها التنموية والأمنية، يبدو جلياً بأنَ الأردنَ إلى جانبِّ الشعبِّ الفلسطينيِّ هما الطرفان اللذان ينفردان في مواجهةِ هذا المشروع الذي يُراهن عليه ترامب في سبيلِّ ضمانِ فوزهِ بولايةٍ رئاسيّةٍ ثانية بدعمٍ من التياراتِ الصهيونيةِ النافذةِ في بلاده، والتي سبق لها رفدُ حملتهِ الانتخابيةِ الذي يتحرّى تنفيذها حرفيّاً كما تعهّد بذلك.
لم يعُد خافياً ذلك المجهودُّ السياسيُّ والدبلوماسيُّ المُضاعف الذي يقومُ بهِ الملك عبد الله الثاني في سبيلِّ إفشالِّ هذهِ الصفقةِ التي كرّر جلالتهُ موقفهُ الثابتُ والصلبُ إزاءها، وهو ذاتُ الموقفُ الذي لن تجدَّ من يحيدُّ عنهُ في بيت كلِّ أردني أو فلسطيني، لكن هذا الموقفَ التاريخيُ -الذي لا يُقدّر بثمنٍ أو بإغراءاتٍ مالية- لن تقتصرَّ تبعاتهِ على حدودِّ ردودِ الأفعالِّ الإعلاميّة الأميركيةِ المتوقعة حيالَ عمّان، بل سيتجاوزهُ إلى إقدامِ واشنطن على منعِ مساعداتها ومِنحها الماليّةِ السنويةِ عن خزينةِ المملكة المُثقلة بالديون، الأمرُّ الذي يتطلبُ جهوداً مضاعفةً في سبيلِّ مواجهةِ هذا التحدي الذي سيواجهُ الأردن للمرّة الأولى منذ إبرامهِ اتفاقيّة وادي عربة.
ونظراً لتمتّعِ الدبلوماسيةِ الأردنيّةِ تاريخياً بالاتزان والتعقّلِ وعدم التصرفِّ وفّقا لردودِّ الأفعال، فإننا ننتظرُّ منها استدارةً ذكية نحوِّ الانتماءِ إلى تحالفاتٍ جديدة ومغايرةٍ من شأنها ضمان المصلحةِ العليا الوقتيةِ للبلاد، دون أن يرافق ذلك انقلاباً على نظيراتها التقليدية التي تحوّلت من المعسكرِّ الداعِم إلى الضاغطِّ على عمّان بغيةَ تمريرِّ صفّقةِ القرن.
فصحيحٌ أن الولاياتِ المُتحدة هي القوةُ العالميّةُ المُهيمنة، لكنها ليست الوحيدةَ التي تمتلكُ مفاتيحَ الدعمِّ السياسيِّ والاقتصاديِّ للمملكة التي نأت بنفسها عن الاقترابِّ مِن تلك القوى بفعلِّ الضغوطِّ الأميركيةِ المُرافقةِ لمكتسباتٍ وإعاناتٍ مالية لم تُحدِث أي فارقٍ تنمويٍّ في البلادِّ التي ازدادت معاناةُ مواطنيها من تفاقُمِ معدلاتِ الفقرِّ والبِطالة.
ضغوطٌ غيّرُ مسبوقةٍ تواجِهُها المملكة في هذا التوقيتِ الدقيقِ مِن تاريخها، لكنني على ثقةٍ بأنَ قوّة الجبهةِ الداخليةِ مِن جهةٍ، وحُسن إدارةِ دفّة العلاقاتِ الخارجيّة ومنحها أبعاداً جديدةً مِن جهةٍ ثانية، سيكونُ لهُما الأثرُّ الأكبرُّ في إفشالِّ أيِّ مُخططٍ يرمي لتهديدِّ وجودِّ وهويّةِ الأردن ومصيرِّ القضيّةِ الفلسطينية.