jo24_banner
jo24_banner

عن "مرشح العشيرة" وعصور ما قبل التاريخ و"مخلوقات الدولة"

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


"مرشح العشيرة". هي المفردة الذهبية والتي تتربع ربما على رأس قائمة Top 7 للمفردات الأكثر تداولا واستخداما وشيوعا في لوحة الممارسات الخطابية الملازمة للمشهد الانتخابي الأردني، في الانتخابات البلدية كما النيابية. فعلى مواقع التواصل الاجتماعي التي تمثل ذروة عصر الحداثة، كما على صفحات المواقع الإخبارية، وفي الأحاديث الخاصة وحلقات النقاش الضيقة، يتكرر استخدام مفردة: مرشح العشيرة". ويصبح معنى المفردة أكثر إثارة حينما يتم استكمالها بإضافة عبارة: ولست مرشح "وطن". تلازم المفردتين يشي بأنه وحتى في العقل الجمعي وفي عقل الشارع فان المفردتين يستبطنان إحساسا بتناقض في معنييهما ودلالتيهما.

ولتكتمل سريالية المشهد، تقرأ في الأخبار تصريحات لعطوفة المحافظ يمنح فيها استثناء وحقا بخرق تعليمات البروتوكول الخاص بمكافحة جائحة كورونا والذي شرعته وسنته "الدولة" لا "العشيرة" الأردنية، ليسمح لأعضاء العشيرة ممن يرغبوا بالاجتماع والتجمع والتجمهر كي يختاروا "مرشحا للعشيرة". وأما في المواقع الإخبارية فتقرأ أخبارا لقيادات تصنف على أنها "رجالات دولة" تحدد مكانا ووقتا لأعضاء العشيرة "فقط" للالتقاء تمهيدا للاتفاق على مرشح واحد للعشيرة وبما يمكن العشيرة من الفوز على العشائر الأخرى.

في علوم الاجتماع والسياسة والقانون ثمة تمييز بين مرحلتين تطوريتين مختلفتين في التاريخ الإنساني؛ مرحلة البدايات وهي مرحلة ما قبل الدولة وما قبل التاريخ وما قبل المدينة، والتي استمرت لعشرات بل ولمئات الاف السنين وفق بعض النظريات وحيث كان تشارك الفرد في علاقات الدم مع باقي أفراد الجماعة هو الذي ينسج العلاقات وينتج التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واللغوية. فقد كان تشارك الفرد لعلاقات الدم مع الجماعة يلزم الجماعة بحمايته وبتأمين حق الحصول على الطعام له، كما تعطيه حق المشاركة في الطقوس الدينية للجماعة. وحدها علاقات الدم هي الأساس لكل شبكة الحقوق والواجبات داخل الجماعة. فما يحدد أن الفرد هو عضو في الجماعة أو عضو خارجها، هو تشاركه لعلاقات الدم مع الجماعة.

وأما التحول الكبير والقفزة التاريخية التي عاشها العقل الإنساني كما المجتمع الإنساني، فكانت نتاجا لخروجه من البدائية وحيث اقتصر نشاطه الاقتصادي على صيد الطرائد والتقاط الثمار وحيث لا استقرار ولا مدينة ولا مساكن ثابتة ولا دولة ولا عاصمة للدولة، إلى مجتمع الزراعة والمدينة وإنتاج السياسة واختراع الكتابة. وهنا كانت بدايات المرحلة الثانية في التاريخ الإنساني، هنا كبرت المدينة وكبرت الجماعة ولم تعد علاقات الدم هي من يربط الناس بعضهم ببعض، بل صار تشابه التشارك في المكان والأرض هو أساس عضوية الفرد في الجماعة، وأساس تحديد واجبات الجماعة تجاه الفرد وأساس واجبات الفرد تجاه الجماعة. وهنا وفي هذه المرحلة كانت بدايات اختراع تاريخي أسمه الدولة وتنظيم الدولة. وهنا بدأت رحلة طويلة للإنسان بدأت منذ حوالي العشرة آلاف سنة جوهرها تحويل الإنسان من عضو في جماعة بدائية ترتبط فقد بعلاقات الدم ثم إلى عضو في عشيرة وقبلية ترتبط أيضا بعلاقات الدم الحقيقة والمتخيلة، ثم إلى عضو في طائفة وصولا إلى بدء رحلة تحوله إلى مواطن أي عضو في مجتمع دولة.

في علوم أنثروبولوجيا السياسة ثمة سلم أو تصنيف تطوري وضعه المختصون لتطور المجتمعات سياسيا ومن حيث البنى الاجتماعية والسياسية بادئين من المراحل الأولى في التاريخ الإنساني: المجتمعات الأولى التي كانت تجمع وتصيد كان الإنسان فيها عضوا من جماعة اسمها الزمرة، ثم تطور الإنسان وتجاوز مجتمعات الزمرة فظهرت القبيلة او العشيرة كتنظيم سياسي، ثم تطورت المجتمعات لتدخل عصر الدولة التي بدأت بالدولة المشيخة، ثم الدولة المدينة, ثم الدولة القومية. بين مجتمعات العشيرة ومجتمعات الدولة، قطعت البشرية رحلة طويلة وشاقة من التغيرات والتحولات استغرقت أكثر من عشرة آلاف عام من التطور والتعقيد اقتصاديا وتقنيا واجتماعيا ومعرفيا.

وفي الدستور الأردني الذي يمثل الصياغة القانونية المكتوبة التي تشخص وتفلسف وتعرف السكان وماهيتهم وحقوقهم وواجباتهم وشكل السلطة التي تحكمهم وتدير أمورهم، يعرف السكان بلفظة "الأردنيين" ولا ترد لفظة تشير لاسم عشيرة أو طائفة أو جماعة بعينها في الدستور. وبهذا المعنى، فمن يكون هؤلاء "الأردنيون" وفقا للدستور؟، هم ببساطة مجموع الأشخاص أي الأفراد الذي ينتمون للأرض التي تسمى بالقانون الدولي الأردن. فالأردنيون إذا هم تلك الجماعة أو المجموعة من الناس الذي يتشاركون الإقامة والعيش على نفس الأرض التي تسمى بالأردن وتشاركوا غالبا فيها في المولد كما الحياة. وعلى هذا التعريف المستند لمفهوم الإقليم تنتظم كل الحقوق والواجبات ويصبح العشرة ملايين مخلوق الذي يعيشون على هذه الأرض هم أردنيون، فقط أردنيون، وبالتالي هم متساوون في الحقوق والواجبات لأنهم ببساطة أردنيون. والحال، إن الدستور الأردني يدرك التحول الكبير والتاريخي الذي طرأ على تعريف الفرد وعلى كيفية الحصول على حقوقه وممارسة واجباته، وهو بالتالي لا يعرف الأردنيين على أنهم أعضاء في عشيرة وحيث العشيرة ترتب بعض الحقوق والامتيازات والمصالح الخاصة.

وعليه، وبنتيجة الحيثيات المشار إليها سابقا، تبدو العشيرة بالمعنى التاريخي وكأنها نمط من التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي يأتي إلينا كل يوم من خارج الزمان، فهو أشبه بالمستحثات الثقافية والاجتماعية Socio-Cultural fossils التي وجدت في الزمن السحيق، وفي حين كان التحلل هو القانون الذي خضعت له نظيراتها فإنها لم تتحلل وحافظت على بنيتها مقاومة عوامل الزمن، وان كانت ماتت ولم تعد تقوى وظيفيا على أداء أي نشاط ودور مطلوب منها. وأما بالمعنى الاجتماعي والسياسي فالعشيرة والطائفة كمصادر لتعريف ماهية الفرد ولتحديد كم الحقوق والواجبات ونوعها المناطة به، هو نقيض لمفهوم الدولة الحديثة التي تسود في السويد وبريطانيا واليابان وفرنسا والتي ما طفق الأردنيون نخبا وساسة وشعبا يتحدثون عنها باعتبارها القدوة والنموذج. ففي كل هذه الدول تحللت العشيرة والطائفة وانتعش فيها مفهوم الفرد باعتباره وحدة وبناء حقوقيا واقتصاديا واجتماعيا ومعرفيا وأخلاقيا، فلا رابطة الدم كما هي في العشيرة تبنى على أساسها الحقوق والواجبات، ولا رابطة الدين كما هي في الطائفة تعرف حقوقا وواجبات للفرد.

لندع جانبا اللغة ورطانتها ولننظر للواقع المعاش، ولما يجري على الأرض. فلا تصدقوا اللغة حين تقول بان مرشح العشيرة هو مخلوق دولة وهو مرشح وطن ويعمل للدولة وبأخلاقها ولمصالحها، لا يمكن لمرشح العشيرة إلا أن يكون مخلوقا للعشيرة، وابنا بارا لها، ولكنه ولد عاق للدولة ومصالحها وقيمها. فمرشح العشيرة سيناضل من أجل الحصول على وظيفة لقريبه لا حق له فيها بل فيها حق لأردني أخر، فقط لأنه ابن لعشيرته. ومرشح العشيرة سوف يسعى لحرمان شريك له في الوطن والمواطنة من بعثة جامعية هي حق لشريك آخر له في الوطن نظرا لما يتمتع به من مهارات وخبرات تفوق خبرات قريبه، وهو سيحرم بالتالي الوطن ممن هو اقدر على بنائه بعد أن يحصل على بعثته ويعود ليعمل في أرض الوطن.

من يتمعن في الكون سيجد أن قوانين الطبيعة والمادة هي نفسها قوانين المجتمع والسياسة . في قوانين الطبيعة يشكل الماء نقيضا للنار والحرارة، ماهية الماء هي النقيض المادي لماهية النار، ولا يمكن للنار حين تلامس الماء إلا أن تجففها وتحيلها إلى العدم، ولا يمكن للماء حين تلمس النار إلا أن تطفئها وتحيلها إلى العدم.

في قوانين التاريخ وتطور المجتمعات لا يمكن للعشيرة أن تكون عامل نمو للدولة، فهي النقيض للدولة . قوة العشيرة وتمددها يعني ضعف الدولة وتقلصها والعكس صحيح. المحصلة الصفرية هي ناتج أي علاقة وتفاعل بين الظاهرتين، فلا يمكن للدولة أن تراكم القوة إلا من حساب العشيرة ورصيدها، ولا يمكن للعشيرة أن تقوى وتزدهر ويقوى رجالاتها إلا على حساب الدولة ومن رصيدها ومن قوتها. كائنات العشيرة لا تعمل إلا لنفسها وحتى حين تعمل من اجل العشيرة فهي لا تعمل ألا لنفسها بعكس مخلوقات الدولة وكائناتها التي ترى وتتمثل نفسها على أنها شريك لشركاء آخرين مساوين لها في الحقوق والواجبات، فهم مواطنين أي شركاء لملايين الناس في الانتماء للأرض والإقليم الذي يعيشون جميعا عليه.
 
تابعو الأردن 24 على google news