2024-04-23 - الثلاثاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

في مكتب عبد الباري عطوان

ماهر أبو طير
جو 24 : استقال الأستاذ عبدالباري عطوان من موقعه رئيسا لتحرير صحيفة «القدس العربي» في لندن، والاستقالة بقيت أسبابها غامضة حتى هذه اللحظة رغم كل التأويلات التي تم تداولها في الأوساط السياسية والإعلامية العربية.

أثارت استقالته ضجة كبيرة، إذ أن تاريخه لايخلو من معارك وخصومات، اصدقاء وحلفاء، ومن الطبيعي أن تثير استقالته كل هذه الضجة، لمعرفة أسرارها وأسبابها، بخاصة أنها تأتي بعد عشرين عاما واكثر في رئاسة التحرير لصحيفة عربية مهمة وخلافية ايضا.

زرت صحيفة «القدس العربي» في حياتي المهنية أكثر من عشر مرات، وكانت اول زيارة لي عام سبعة وتسعين، وآخرها العام الفائت، وكل مرة كنت التقي «أبوخالد» في مكتبه الصغير، الذي لا تتجاوز مساحته ثلاثة أمتار طولا وعرضا، كل الصحيفة كانت عبارة عن صالة كبيرة وغرفتين اضافيتين، والكادر كله في لندن والعواصم العالمية والعربية من مراسلين ومتعاونين لم يتجاوز الثمانية عشر موظفا، مقابل صحف عربية اخرى وكبرى تصدر في المهاجر وتفيض بجيوش المتنفعين.

ذاك المكتب الذي أمضى الأستاذ عبدالباري عطوان عمره فيه، كان في تأثيراته اكبر بكثير من حجمه الجغرافي، فالاتصالات والمعلومات كانت تصب صبا في ذلك الركن القصي، بخاصة من رؤساء الدول وجهات سياسية، إضافة الى حركة التحرر الفلسطينية وقياداتها.

الرجل كان محبا بشدة للأردن، على عكس ما يعتقد كثيرون، غير ان تصريحاته احيانا وبعض ما كان يكتبه، أو يتم نشره في الصحيفة أوجد انطباعا انه معاد للاردن، وهذا غير صحيح أبدا، وتبريرات الرجل لما كان ينشر تقول إن هذه حرية الصحافة، وانها ايضا آراء سياسية وتغطيات قابلة للنفي او التأكيد، لكنها لا تعبر عن كراهية للأردن.

ليس أدل على ذلك من مروياته الشخصية في كتابه «وطن من كلمات» والذي أهداني إياه ذات شتاء بارد في مقره في «همر سميث» في العاصمة البريطانية وفيه يروي رحلته من فلسطين الى العالم، ولايقفز عن حياته في الأردن حين عمل في مهن متنوعة حتى يعيش، ومن بينها قيادته لسيارة نقل النفايات في جبال عمان.

الرجل لا يرسم صورة متواضعة تأكيدا على عصاميته وما وصل اليه، إلا أنه كان يتحدث بشغف عن كل سنيه في الأردن، ولأنه اكتسب موضوعية بسبب الخبرة والحياة في الغرب ايضا، ومعاييرها المهنية، فهو يمزج بين مروياته الشخصية وتقييماته السياسية دون ان تعارض هذه تلك.

في كل الحالات فإن عبدالباري عطوان لم يكن شخصا عاديا، كان مؤثرا جدا في الإعلام الأجنبي، والعربي، ويمتلك كاريزما خاصة، وهو من ضمن سلسلة طويلة من المبدعين الفلسطينيين في فلسطين والعالم، من الشعراء والموهوبين والإعلاميين والكتّاب والصحفيين الى بقية المهن الأخرى، وهي مهن صعبة أبدع اصحابها بسبب تكوين الفلسطيني في العالم إذ يبقى ملاحقا في روحه التي تحثه على البقاء والتميز وعدم القبول بأنصاف الحلول، وصقل قوته من اجل ان يبقى وعائلته جذرا قويا في هذه الأرض.

لو كان الشعب الفلسطيني بلا احتلال، لكان استرخاؤه في هذه الحالة سببا في خلاص روحه من الاشباح التي تلاحقه وتحثه على ان يكون وألا يتراجع الى الظلال، واذا كان للاحتلال لعنة فإن بعض لعنته يرتد استدعاء لكل طاقة الانسان الاحتياطية كي يعيش، لا مثل غيره بطبيعة الحال.

في شخصية الرجل عروبة وفلسطينيته مرتفعة، دون أن تكون فلسطينيته سببا في الظن اننا أمام عرق مقدس للفلسطينيين، وهو ايضا خاض معارك خطرة في حياته، ولربما لم يرو كل أسراره، وهو مطالب اليوم بفرد مروياته الغائبة على الطاولة، بعد رحلة طويلة في هذه المهنة الصعبة، مهنة المصاعب، التي تتغذى على دم صاحبها وروحه وحياته، والأرجح أنه لن يستطيع أن يتقاعد كما أعلن بداية، لأن هذه مهنة لا تسمح لصاحبها بالتقاعد إلا قهرا.

أفسد عليّ عبد الباري عطوان آخر زيارة الى لندن، إذ بدلا من الاستمتاع في تلك الإجازة، كان كتابه فوق رأسي بعد ان اهداني اياه، وبدلا من الاستراحة في لندن، امضيت سبع ليال متواصلة في قراءة الكتاب، وكأن صاحبه كان يقول: هيهات الراحة والاستراحة لمن يعمل في هذه المهنة، حتى لو كان في اجازة خاصة، بعيدا عن ضجيج المهنة، التي لا تترك صاحبها في حاله.

ليس شخصا عابرا في مهنة المتاعب، ولا يمكن اليوم اشاعة الشماتة بخروجه، ولا التكهنات، إذ لم يكن موظفا صغيرا أحيل على التقاعد في دائرة نائية، في قرية عربية، وبصمته ما زالت حاضرة بقوة، ولن تمحى لا تحت وطأة مؤامرة ولا كيد، ولاحسابات، او احتفالات بخروجه من موقعه.

يبقى السؤال: كيف ستكون «القدس العربي» دون عبدالباري عطوان..؟!

السؤال صعب جدا، والإجابة عليه أصعب بكثير.
(الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news