دردشة تاريخية حول المحدد الرئيسي لطبيعة العلاقات التاريخية الخارجية لروسيا


 يعد الوضع الجغرافي للشرق الأوسط الممتد عبر العالم العربي واجزاء واسعةمن أفريقيا واسية وأوروبا الشرقية ، المحدد الرىيسي لطبيعة العلاقاتالتاريخية التي نشأت وتطورت بين روسيا وهذا الجزء من العالم منذ عهدالقياصرة الروس . وقد بدا الاهتمام الروسي بهذه المنطقة منذ اواخر عهدبطرس الأكبر ( ١٦٨٢-١٧٢٥) حيث اجتاحت الجيوش الروسية عام ١٧٢٣ بلادفارس وباتت تهدد العراق ومنطقة الخليج . كما انطلقت الأساطيل الروسيةمندفعة نحو القسطنطينية والهند . غير ان خلفاء بطرس الأكبر من القياصرةالروس وخوفا من الدخول في نزاع مكشوف مع القوى الغربية اثروا التريث فياندفاعهم التوسعي واستبدلوه بسياسة التحالفات * والاتفاقات الصامتة * كماحدث بينهم وبين كل من النمسا وبريطانيا . ويلاحظ لدى استعراض مسارالسياسة الخارجية لروسيا منذ عهود القياصرة ان هنالك عدة عوامل كانتتتحكم في مسار هذه السياسة واهمها فيما يتعلق بهذا الجزء من العالمالعوامل التالية :
١- العامل الجيوبوليتيكي:
والمقصود بهذا العامل هو السعي الروسي المستمر للسيطرة على ما يسمى * بالمياه الدفينة * بهدف ايجاد منافذ بحرية لها تصلح للملاحة وتسهل لروسيامهمة الاتصال بمختلف ارجاء العالم ، ومن اجل تامين هذه المنافذ كان لا بد منالتحكم بها وإخضاعها لسيطرتها المباشرة . وتشمل هذه المناطق الأراضيالواقعة على بحر البلطيق والبحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأبيض المتوسطوصولا الى الخليج العربي . وقدت أدت هذه المحاولات التوسعية الى خوضروسيا غمار حروب متلاحقة مع الدول المجاورة لهذه المناطق أو تلك الدول التيكان لها مصالح حيوية فيها ( Michael Florinsky , Russia : A History of Interpretation , Vol II , p . 826 ) .
٢- العامل * السلافي * ؛
وهو محاولة روسيا التوسع ومد نفوذها على جميع الشعوب السلافية بدعوىانتماء الجزء الأكبر من مواطنيها الى تلك الشعوب التي كانت تشكل المكونالرىيسي لمواطني الجانب الأوروبي من روسيا اضافة الى شعوب البلقانوبولندا . وقد بررت روسيا هذه المحاولة برغبتها في توحيد الشعوب السلافيةلإقامة سد منيع يوفر الحماية للحضارة الأوروبية من أي خطر يهددها منالشرق ، وبالطبع المقصود هنا المسلمون سواء كانوا عثمانيين أم عربًا ( M. B. Petrovich , The Emergence of Rassian Panslavism , p. 212 ) .
٣- نظرية روما الثالثة : ( مستخلصة من أوراق غير منشورة لCyril Toumanov الذي عمل أستاذًا لفترة طويلة في جامعة جورجتاون بواشنطنوكان ينتمي لفرسان القديس يوحنا ) .
وهذه النظرية لها بعدها التاريخي وعمقها العقائدي في التاريخ الروسي . ولتوضيح هذه النظرية لا بد ر العودة الى عام ١٠٥٤ حينما انقسمت الكنيسةالمسيحية الى كنيستين : شرقية وغربية ( ارثوذكسية وكاثوليكية ) . واصبحالروس منذ ذلك الوقت تابعين للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية واتخذوا منالقسطنطينية مركزا لها . واعتبرت في نظر اتباعها وريثة لروما الأولى وبديلالها واطلق ليها لقب روما الثانية . ولدى سقوط القسطنطينية على يد العثمانيينعام ١٤٥٣ كان لا بد للروس من ايجاد مركز جديد بديل للكنيسة الأرثوذكسيةفكان اختيار الروس لموسكو كي تصبح هي ذلك المركز البديل واطلقوا عليها لقبروما الثالثة . وقد ازدهرت هذه النظرية وتعمقت في وجدان الشعب الروسي منذأيام بطرس الأكبر . ونودي بموسكو لتصبح في نظر الروس مركزا للمسيحية فيالعالم ومقرا مرجعيا لها . ولعل في تأصيل هذا المعتقد لدى الإنسان الروسيبمركزية موسكو للعالم المسيحي كان وراء تيسير عملية التكيف لدى هذاالإنسان للمناداة بموسكو من جديد في عهد البلاشفة لتصبح مركزا للشيوعيةالعالمية . وكان لهذا المعتقد انعكاساته على علاقات روسيا مع العديد من دولالعالم . وقد استغلت روسيا هذه النظرية زمن العثمانيين لتبرير مطالبة الروسالمستمرة بحق حماية المسيحيين الأرثوذكس في العالم بشكل عام ومنطقةالشرق الأدنى بشكل خاص ( بقي. تعبير الشرق الأدنى متداولًا حتى بدايةالحرب العالمية الثانية حينما استبدل بعدها بتعبير الشرق الأوسط ) . وقدتمكنت روسيا في عهد كاترين الثانية من انتزاع هذا الحق من العثمانيينبمقتضى معاهدة كحق قينارجة عام ١٧٧٤ ، وكان من ضمن بنود هذه الاتفاقيةأيضا حصول روسيا على بعض المناطق المطلة على البحر الأسود مثل أزوفوشبه جزيرة القرم . وقد ضمنت روسيا لنفسها بذلك الحق في ممارسة الملاحةالبحرية في البحر الأسود ومضيفي الدردنيل والبسفور .
وهكذا فاننا نرى في نظرية روما الثالثة التي استمدتها روسيا من رصيدهاالتاريخي والعقائدي في عهديها القيصري والبلشفي وذلك لتبرير واحد مناهم دوافع سياستها الخارجية التوسعية .
وإذا ما دققنا النظر في طبيعة السياسة الخارجية الروسية وخاصة في العهدالسوفييتي نجدها تتسم منذ البداية بالغموض والحذر الشديد . ويبدو انهاكانت تستمد الكثير من ذلك من بقايا روحها القومية المحافظة التي كانتتتبناها الأوساط الحاكمة في روسيا خلال العهد القيصري ( E. C. Thanden , Conservative Nationalism in 19th Century Russia , p. 161 ) . غير ان تنامي الروح القومية بمفهومها البورجوازي الغربي بين النخب الروسيةاصبح يشكل احدى القوى المحركة التي دفعت روسيا الى انتهاج سياسةتوسعية نشطة في المناطق المجاورة لها ، كما شجعها هذا الاندفاع القومي الىالبدء في بناء قوة روسية ذاتية على غرار القوى الأوروبية الكبرى لا سيما فيمجال النقل والتصنيع العسكري. أما الصفة المحافظة فكانت تعني صون البناءالأوتوقراطي للنظام الروسي، وبتعبير اخرالمحافظةعلى وحدة الشعب الروسيوضمان ولائه التام لحكم القيصر المطلق . وكانت الإصلاحات التحديثية فيالنظام الروسي منحصرة في بعض الانفتاح الاقتصادي على الدول الغربيةالكبرى الى الحد الذي كانت تقتضيه مصلحة النظام بحيث لا يحمل في طياتهأي بذور في مجال الإصلاح السياسي الحقيقي .
ومن الملاحظ - كما ذكرنا في دردشة سابقة - ان الاتحاد السوفييتي بدا فوراستقرار أوضاعه الداخلية يعمل جاهدا على تامين مستقر له على بعض المنافذالبحرية المجاورة وذلك بمد نفوذه والسيطرة على المناطق المحاذية لتلك المنافذالبحرية لا سيما ان غالبيتها كانت في حالة ضعف وإنهاك شديدين ، الا انالاتحاد السوفييتي لم يتسرع في اللجوء الى العمل المسلح من اجل تحقيقطموحاته التوسعية خوفًا من مغبة التورط في حروب مع الدول الكبرى التي كانلها مصالح استعمارية في هذه المناطق . وراى ان من الأفضل التركيز علىالتغلغل الاقتصادي التدريجي بأسلوب يتسم بالحرص والحذر انتظارًا لمجيءالفرصة المناسبة التي يتم فيها التوصل الى اتفاق مع الدول الكبرى المنافسة ،ليتسنى له تحويل هذا النفوذ الاقتصادي في تلك المناطق الى نفوذ وهيمنةسياسية . وكان السوفييت مند البداية يبدون اهتمامًا في الشرق الأدنى حيثأقاموا علاقات دبلوماسية مبكرة مع كل من القاهرة والرياض وبغداد وبيروت ،وأخذوا ينشطون سياسيًا في المشرق العربي . ويلاحظ ان السوفييت كانوايتواصلون بشكل خاص مع الأقليات الدينية والقومية التي كانت تكثر في هذهالمنطقة لانه كان من السهل عليهم استقطابها واحتواوها ، اضافة الى انالبعض منها كان يتطلع نحو الاتحاد السوفييتي كحام لها ومدافع عنها ،فالأرمن - على سبيل المثال - سمح لهم السوفييت بالعودة الى وطنهم فيارمينيا التي كانت خاضعة للحكم السوفييتي كما ان العديد من القياداتالمسيحية الأرثوذكسية في العالم العربي أخذت تدعو العرب الى التوجه نحوالاتحاد السوفييتي طلبا للمساعدة والحماية من اطماع الدول الغربية .
وقد ادى اندلاع الحرب العالمية الثانية الى خلق حالة عارمة من الفوضىوالاضطراب في شتى ارجاء العالم . وأخذ الخطر النازي يشكل تهديدًا خطيرًالا للاتحاد السوفييتي فقط وإنما تعدى ذلك ليشكل تهديدًا مباشرًا للنفوذالبريطاني والغربي في منطقة الشرق وباقي مناطق النزاع في العالم . الا انهسرعان ما تغير موقف بريطانيا وباقي الدول الغربية ، فوجدت انه لا بد لهالمواجهة الخطر النازي للتحالف مع العديد من القوى التي سبق وكانت في حالةعداء معها وفي مقدمتها بالطبع الاتحاد السوفييتي . ومما ادى الى اسراعبريطانيا بتسوية خلافاتها مع الاتحاد السوفييتي والتحالف معه لمواجهةالتغلغل الألماني في الشرق تسرب الأنباء حول التخطيط الألماني لإعادة احياءمشروع خط سكة حديد بغداد وإمكانية إنشاء فروع لها في الخليج وايران ،مما بات يشكل تهديدًا ألمانيا مباشرا للمصالح البريطانية والروسية في المنطقةعلى حد سواء ( B. H. Sumner, Tsardom and Imperialism in the Far East and the Middle East , p. 172 ) .
ومن اللافت للنظر ان نرى بريطانيا والدول الغربية لا تجد غضاضة فيالتحالف مع الاتحاد السوفييتي علما انها سبق ووجهت اليه مرارًا وتكرارًا اشدأنواع النقد والتجريح بحجة انتهاكه لابسط حقوق الإنسان الطبيعية . وهذا خيردليل على ان حديث الدول الكبرى من حرية الإنسان وحقوقه الطبيعية من جانبالدول الكبرى ما هو الا ستار يحجب وراءه حقيقة الأطماع والنوايا الحقيقيةلهذه الدول التي تهدف الى استغلال الشعوب وتقييد حريتها واستعمارأوطانها . كانت بريطانيا وعيرها من الدول الغربية تشكو باستمرار من تعسفالأسلوب الروسي في تعامله مع الشعوب الخاضعة لروسيا ، غير ان هذه الدولسرعان ما تخلت عن شكواها حينما احست ان مصالحها باتت مهددة ، وأنهاصبح من الضروري الوقوف الى جانب الاتحاد السوفييتي والتحالف معهلمواجهة التحديات النازية وأخطارها .