عن هروب شبابنا التكتيكي عبر الممر المكسيكي!
قبل ايام عرضت منصة تيك توك مقاطع من تقرير اخباري عرضته قناة فوكس نيوز الامريكية من الحدود المكسيكية الامريكية حول تدفق سلاسل طويلة من المهاجرين غير الشرعيين للولايات المتحدة. وفي الفيديو الذي عرضته منصة تيك توك يظهر مهاجرون كان لافتا تركز جنسياتهم أو تابعياتهم لثلاث دول هي مصر، وتركيا، والاردن. لا أدري إذا كان التقرير الاصيل على قناة فوكس نيوز قد عرض لمهاجرين من هذه التابعيات فقط، أم أن صاحب الحساب على منصة تيك توك قد قام بعمليات مونتاج ليظهر فيه مهاجرون من هذه التابعيات الثلاث فقط.
والحال، فقد أثارت مشاهدة الفيديو الكثير من الافكار والتساؤلات بل والكثير من المشاعر. صحيح، أن الفيديو يقدم لك تحديثا حول توسع خريطة الهجرة أو الشتات الاردني كما المصري وكيف توسعت حدوده ومسالكه. فبعد أن كانت منطقة الخليح القريبة جغرافيا، وديموغرافيا، وثقافيا هي البؤرة التي تتجه إليها أبصار وعقول وسواعد الباحثين عن عمل أو حياة كريمة أو أكثر كرامة لتتوسع بعدها وجهة هؤلاء فتمتد لتصل إلى جنوب أوروبا ثم وسطها، فشمالها لاحقا. أما هذه المرة، فقد توسعت رحلة المصريين والاردنيين والاتراك لتمتد إلى أقصى غرب الكون، كما تعقدت متطلبات رحلة الهجرة لوجستيا بحيث باتت تخاض على مراحل، وحيث كل مرحلة لها جغرافيتها، كما وسيلة المواصلات الخاصة بها، إضافة إلى شبكات مساعدة المهاجرين أو تهريبهم التي تتوزع على مختلف مراحل الهجرة.
من المؤكد أن مشاهدة الفيديو تثير خليطا كبيرا من مشاعر الحزن التي تختلط بمشاعر الغضب كما الخوف والقلق، وهي مشاعر إنسانية لا يمكن تجاهلها مطلقا، وإن كنت في هذه المقالة سوف أتجاوز هذه المشاعر الانسانية المشروعة لاخوض في نقاشات عقلية ذات طابع سياسي واستراتيجي أوحت به مشاهدتي للفيديو الذي جرى عرضه على قناة فوكس نيوز. سوف اتجاوز النقاش أيضا حول نزيف العقول الذي يجري في هذه البلاد التي تنفق مليارات الدولارات على تعليم أبنائها في اللغة والهندسة والفيزياء والطب، ولكن وبدلا من استفادة هذه الدول من هذا الكم الضخم من رأس المال البشري العلمي، فأننا نستثمر في أبنائنا كي يستفيد منهم الاقتصاد الامريكي أو الالماني أو الخليجي.
النظرة السريعة للفيديو، تظهر لك شبابا تتوزع أعمارهم بين نهاية العشرينيات والثلاثينيات وربما بداية الاربعينيات. ويبدو مظهرهم في المعظم أنيقا إن كان لنوع الهندام الذي يرتدونه، أو كان لتسريحة الشعر التي اختاروها. بل إن ما كان لافتا في الفيديو هو فهم كثير منهم للغة الانجليزية، وعدم خوفهم من الكاميرا واجابتهم السريعة على أسئلة الصحافي.
في تحليل الصور التي ظهرت في الفيديو، يمكنك أن تجري مقارنة سريعة بين مهاجري الامس ومهاجري اليوم. فمن ينظر في صور المهاجرين العرب في خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي، سوف يلاحظ اختلافا كبيرا، وهو اختلاف يعطي صورة عن حجم التغيرات التي حصلت في بنية المجتمعات العربية ودولها، كما في شكل تحالفاتها داخل النظام الدولي.
في صور المهاجرين العرب في خمسينيات القرن الماضي سوف ترى مهاجرين يرتدون ملابس رثة، وسوف ترى الكثيرين منهم وقد عجزوا عن المحافظة على نظافة أسنانهم او سلامتها. كان المهاجرون في تلك الحقبة ينتمون للشرائح الاقل تعليما. وكانوا في معظم الاحيان يفدون من بيئات ريفية تشكل بيئات معزولة عن السوق العالمي ومعزولة عن ماكنة العولمة. الدراسات والصور تظهر أن الشرائح الاكثر بحثا عن الهجرة كانت هي الشرائح الاكثر تهميشا داخل هذه المجتمعات، كما كانت تمثل الشرائح الاقل عولمة. وأما الفيديوهات التي باتت تصلنا حول المهاجرين الجدد في هذه المنطقة، فهي ترينا شرائح عمرية، واجتماعية، وثقافية هي الاكثر تعليما، وهي الاكثر مدينية، واستطرادا هي الاكثر عولمة.
فتبدل هوية شرائح المهاجرين ديموغرافيا، واجتماعيا، وثقافيا يعكس حجم التغيرات الهائلة بل المعضلات التي تعيشها الدولة والمجتمع في العالم العربي، وتحديدا في تلك الدول التي تعيش ظاهرة الهجرة الكثيفة. وفي الفيديو الذي يظهر فيه لاجئون من الاردن ومصر وتركيا ثمة كثير من المفارقات التي تشرح ما حدث في البلدان الثلاث هذه على مدى العقود الاخيرة. فلم تكن صدفة أن يلتقي شباب من مصر وتركيا والاردن عند الحدود المكسيكية الامريكية. فالامر لا يتعلق مطلقا بصدفة شاءتها الاقدار، بل يتعلق الامر بالمطلق بتشابه في السياسات والتحالفات جمعت كل الدول التي جاء منها من جمعهم المكان واللحظة التاريخية الحزينة عند المعبر المكسيكي.
فتركيا منذ الاتاتوركية، ومصر منذ الساداتية والاردن منذ التأسيس هي دول قررت أن تنضوي في المنظومة الغربية، وقررت أن تكون جزءا من التحالفات الغربية في المنطقة بل وفي العالم. وكان قرار هذه الدول، انها تعبت من الحروب والصراعات في المنطقة، وأنها قررت أن تنضوي في السلام كخيار استراتيجي، وهي قررت أن لا ترى في الغرب بمثابة تكتل كولونيالي خالق وداعم لاسرائيل، بل هي قررت أنها تفضل التنمية الاقتصادية والاجتماعية على الصياغات الايديولوجية التي تعتبر الغرب عدوا، ومستعمرا، وداعما للكيان الاحتلالي في فلسطين. ومنذ عقود يتعزز انخراط هذه الدول الثلاث في الاستراتيجيات الغربية في المنطقة بل وفي العالم. ويمكن الجزم أن الامريكيين لا يجدون دولا في كل العالم تنخرط في سياساتهم الاقليمية والكونية بقدر انخراط هذه الدول الثلاث في استراتيجياتهم. وهو ما يعبر عنه اهم المسؤولون الامريكيون وفي كافة المستويات وعلى مدى عقود طويلة.
وأما أن يجد مواطنو أكثر الدول انخراطا في الاستراتيجيات الامريكية أنفسهم لاجئين، فهو يطرح أسئلة كثيرة عن نوع العلاقة التي صنعها الامريكيون مع هذه الدول الثلاث، وهم يستسيغون دوما استخدام لفظة شراكة، والتي وبدلا من أن تؤدي إلى رفاه اقتصادي في هذه الدول كما فعلت الشراكات الامريكية مع اوروبا الغربية من خلال مشروع مارشال، او كما فعلت الشراكات المتتالية مع اليابان، وكوريا الجنوبية وهونج كونج، وبولندا وجمهوريات البلطيق، والكيان الصهيوني والتي حولت اقتصاديات هذه الدول من اقتصاديات فلاحية رثة وفقيرة، ومن اقتصاديات دمرتها الحروب، إلى اقتصاديات تقبع في اعلى هرم الاقتصاديات الغنية. فبعد عقود طويلة من الشراكة مع الاردن ومصر وتركيا وبدلا من أن يحصد الاردنيون، والمصريون، والاتراك ثمار الانخراط في الاستراتيجيات الامريكية والغربية، يلتقي المهاجرون من هذه الدول الثلاث عند المعبر المكسيكي ليحتفلوا بشراكة دولهم مع الحليف الامريكي الذي خلق معجزات اقتصادية في كل مكان من العالم، إلا انه عجز عن اخراج اقتصاد بحجم اقتصاد مدينة صغيرة في الولايات المتحدة كالاقتصاد الاردني من براثن الفقر والجوع والشح. لم ينعم الاردنيون والمصريون والاتراك بثمار العلاقة مع واشنطن، فذهبوا إلى الحدود المكسيكية ليحصلوا على بعض ثمارها، وهنا تقفز للذهن المأساة الاخرى في علاقة الدول الثلاث مع الحليف الامريكي.
فقد كان من نتاج الشراكة الامريكية الاسرائيلية، وتلك الامريكية اليابانية، وتلك الامريكية الكورية، وغيرها وغيرها، ان تم ترجمة هذه الشراكة الاستراتيجية إلى تسهيلات خاصة على صعيد حركة المواطنين بين واشنطن وشركائها. الاسرائيلي يدخل الولايات المتحدة بدون فيزا، ونفس التسهيلات يحصل عليها مواطنون كثر من شركاء الولايات المتحدة، واما المصريون والاردنيون والاتراك فان الشراكة لا يراد لها مطلقا أن تصل إلى الشعوب والجماهير. وعليه، فان الاردني والمصري والتركي وبرغم كل الشراكات مع واشنطن عليه أن يبيع قطعة أرض أو سيارة للعائلة كي يعيش مغامرة محفوفة بالمخاطر والفشل اسمها دخول الولايات المتحدة.
من يتابع تفاصيل العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الثلاث وخصوصا مصر والاردن، يدرك نسق العلاقة التي يحاول الامريكي فرضها طوال الوقت، ويمارس من خلال الاحتيال اللغوي خداعا كبيرا عبر تسميتها شراكة. فالشراكة التي يفرضها الامريكي تجعل من الجيش التركي، الجيش الاكبر عديدا داخل الناتو، ما يسهل الاستراتيجية الامريكية في عمق الشرق الاوسط، وفي عمق اسيا الوسطى وغرب الصين اضافة للعراق والخليج. وذات نسق العلاقة يفرضه الامريكيون على مصر، ما يجعل موارد هذ الدول تستنزف في المجهود العسكري، كما يجعل المؤسسات الامنية في صلب المجتمع والثقافة والسياسة. ما يعمق أزمة هذه المجتمعات اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا لتكون الهجرة حلا متوهما من قبل بعض الشرائح بل ومن قبل بعض صانعي السياسة.
ففي جولات المسؤلين الامريكيين في هذه الدول تكثر الجولات لمسؤولين امنيين وعسكريين وسياسيين، ولكن يندر أن تجد في هذه الجولات اقتصاديين ومستثمرين وأصحاب شركات. الشراكات هي شراكات أمنية وعسكرية وممنوع أن تتطور إلى شراكات اقتصادية ومالية. وينسجم موقف الاتحاد الاوروبي في ذلك مع موقف الولايات المتحدة. ففي كل زيارات رئيسة المفوضية الاوروبية السيدة اورسولا فون در لاين للمنطقة لا نقاش مع السيدة فون در لاين إلا في الامن وفي العسكر ولا نقاش في الشراكات الاقتصادية والتنموية. ففي تونس تذهب السيدة فون در لاين لتتحدث مع الرئيس التونسي عن دور الحكومة التونسية جيشا وقوات أمن على صعيد ضبط الهجرة الافريقية لدول الاتحاد الاوروبي، الامر الذي استدعى رفضا من الرئيس التونسي لعقد اللقاء في بادئ الامر. وفي لبنان تذهب السيدة فون در لاين للتحدث فقط فيما يجب على الجيش اللبناني، وقوات الامن اللبنانية أن تفعله لمنع الهجرة السورية من الوصول إلى شواطئ اليونان وقبرص، وهي عرضت مبالغ مالية للجيش اللبناني كي يقوم بهذه المهمة. فقط في بولندا، وجورجيا، وارمينيا، وسلوفينيا تتحدث السيدة فون در لاين عن شراكات اقتصادية، وعن حزم مساعدات مهولة، وفقط في الكيان الصهيوني تأتي السيدة فون در لاين وترى الابتسامة الكبيرة على محياها، كي تتأكد أن الشراكة الشاملة الاقتصادية العسكرية والامنية الشاملة مع الكيان تسير وفق ما هو مخطط له.
المهاجرون الاردنيون، والمصريون، والترك عند المعبر المكسيسكي لم يكن لقائهم لقاء صدفة بل كان لقاءا جاء ثمرة لالتقاء سياسات كونية ومحلية، جعلت الاقتصاد والمجتمع والدولة في هذه الدول الثلاث يتشابه ويلتقي. ففي مصر وتركيا سقوط حر للعملة، وارتفاع مارثوني في المديونية الداخلية والخارجية، وفي الاردن أرقام حول الفقر والبطالة والجريمة والمديونية وشح المياه يجعل من البلاد تعيش واقعا سورياليا، ففي السياسة وقعت البلاد معاهدة وادي عربة للسلام، ولكن البلاد تعيش في الاجتماع والاقتصاد والبيئة حالة حرب وحيث مؤشرات الفقر والبطالة تقول لك أن الاقتصاد المعني هو اقتصاد يعيش حالة حرب لا حالة سلام.
وللمفارقة، يجري الان صراخ وسط النخب المصرية يقول بأن السياسة في مصر باتت تتم بعيدا عن مجلس الوزراء ورئيسه، وأن السياسة في مصر باتت تصنع من قبل رئيس الجمهورية ومسؤولي الامن والجيش. ما يعني أن قضايا الطاقة والاقتصاد والصحة والتعليم والبيئية وغيرها التي تشغل المصريين، لم يعد هناك من يقرر بشأنها طالما أن مجلس الوزراء بات مستلب الولاية والصلاحيات لصالح جهة اخرى لا تملك المعرفة التقنية بأمور إدارة موارد البلاد في الاقتصاد والبيئة والصحة والسكان والتعليم. فبعد خمسين عاما من قرار الذهاب نحو السلام والتنمية والاقتصاد والصحة والتعليم الجيد، يشكو المصريون من أن المسؤولين عن كل هذه القطاعات لم يعودوا يمارسوا ولايتهم، وأن لا صوت يعلو فوق صوت العسكر قد عاد من جديد.