المركز العربي لدراسة السياسات: لماذا تقود إسرائيل حملة ممنهجة ضدّ قطر؟
بعد فترة تطبيع علاقات قصيرة خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، جاءت عقب اتفاقات أوسلو وفي أجواء خلافات عربية، ومثّل التقارب مع الولايات المتحدة هدفها الرئيس، تطوَّر موقف عدائي إسرائيلي من قطر في العقد الأخير. وقد جاء التدهور الكبير في العلاقات على خلفية المواقف التي اتخذتها قطر من مجمل التطورات التي شهدتها المنطقة العربية في الآونة الأخيرة، ولكن بصورة خاصة بسبب موقف قطر الواضح من السياسة العدوانية الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، والذي تجلّى في رفض قطر الحازم الاعتداءات والحروب التي شنّتها إسرائيل ضد قطاع غزة، وفي دعمها المقاومة الفلسطينية.
تتناول هذه الورقة أسباب الحملة الإعلامية الشديدة التي تمارسها إسرائيل ضد دولة قطر، وتقدّم نماذجَ من التحريض الممنهج الذي يشنّه المسؤولون الإسرائيليون ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الإسرائيلية ضد قطر بهدف شيطنتها ومحاولة عزلها إقليميًا ودوليًا في مسعى للتأثير فيها لتغيير سياساتها.
أسباب التحريض الإسرائيلي ضد قطر
تبنَّت قطر خلال العقد الماضي جملةً من السياسات العربية والإقليمية عدّتها إسرائيل معادية لها ولمصالحها، ورأتها مختلفة تمامًا عن سياسات الدول التي تعدّها إسرائيل معتدلة، ما دفعها إلى اتخاذ مواقفَ سلبية أخذت تعبّر عن نفسها بصورة متزايدة حتى وصلت أخيرًا حدّ التحريض المباشر والمنهجي ضد قطر. ومن أهمّ المواقف التي تبنّتها قطر وأثارت حفيظة إسرائيل:
1. وقوف قطر ضدّ العدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 2006، وما عدّته إسرائيل دعم قطر حزب الله سياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا أثناء الحرب. ورأت إسرائيل أيضًا الدعم الماليّ السخيّ الذي قدّمته قطر للبنان لإعادة إعمار ما دمّرته آلة الحرب الإسرائيلية، عملًا موجّهًا ضد سياساتها؛ وذلك في الوقت الذي اتخذت فيه بعض الدول العربية "المعتدلة" موقفًا حياديًا أو موقفًا مؤيدًا ضمنيًا العدوان الإسرائيلي على حزب الله.
2. دعم قطر نضال الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي وتقديمها أشكال المساندة الإعلامية والسياسية المختلفة للمقاومة، فضلًا عن تقديم الدعم المالي لقطاع غزة وعدم الاكتفاء بدعم السلطة الفلسطينية في رام الله.
3. الدور المتميز الذي أدّته قناة الجزيرة في فضح جرائم العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وفي لبنان، وفي تغطيتها الإيجابية لدور حركات المقاومة في الأراضي المحتلة.
4. وقوف قطر بصورة واضحة وحازمة ضد الاعتداءات والحروب المتكررة التي شنّتها إسرائيل على غزة في سنة 2008- 2009 (عملية الرصاص المصبوب)، وفي سنة 2012 (عملية عامود السحاب)، وفي صيف 2014 (عملية الجرف الصامد).
5. قيام قطر بإغلاق مكتب المصالح الإسرائيلية في الدوحة وطردها الدبلوماسيين الإسرائيليين الثلاثة في كانون الأول / ديسمبر 2008 احتجاجًا على العدوان الإسرائيلي على غزة.
حينها تبنّت إسرائيل سياسة سلبية ضد قطر أخذت منحًى تصاعديًا سنة بعد أخرى إلى أن وصلت أثناء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة وبعدها، درجة غير مسبوقة من العداء، عبّرت عنها حملات التحريض الممنهجة والمنظّمة التي تستهدف "شيطنة" قطر. وشارك في هذه الحملة المنسَّقة كلٌّ من الحكومة والنخب السياسية والعسكرية ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة.
"جوقة" التحريض الإسرائيلية ضد قطر
برز من بين الذين شاركوا في حملة التحريض على قطر رئيس إسرائيل السابق شمعون بيرس، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، ووزير الأمن موشيه يعلون؛ فقد اتهم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيرس قطر في بداية عام 2012 بأنّها تموّل "حركات الإرهاب" وأنّها تدعم "حماس" سنويًّا بمبلغ 200 مليون دولار. أمّا وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، فقد شنّ هجماتٍ عنيفةً في وسائل الإعلام ادّعى فيها أنّ "قطر باتت تشكّل العمود الفقري للجماعات الإرهابية الأكثر تطرفًا في العالم والتي تزعزع الاستقرار في العالم بشكل عام وفي الشرق الأوسط بشكلٍ خاص"، وأنّ قطر تموّل حركة "حماس" وتقوم بالدور الأهمّ في دعمها في مواجهة إسرائيل. وادّعى أنّ قناة الجزيرة أصبحت محورًا مركزيًا في منظومة إعلام "حماس"، و"أنّها تحرّض ضد إسرائيل وتساهم في تشجيع الغليان والإرهاب"، وتوعَّد باتخاذ إجراءات ضدها. وفي تصريحٍ آخر له قال ليبرمان إنّه "من أجل إحكام خنق حماس ينبغي توجيه رسالة واضحة لقطر بالكفّ عن دعم الحركة. فالمال يأتي من قطر، كما أنّ خالد مشعل وعزمي بشارة يجلسان في قطر". وأشار إلى أنّه تحدّث مع رئيس لجنة الخارجية في الكونغرس الأميركي بشأن دعم قطر "حماس" وأعرب عن أمله في أن يقوم الكونغرس والمنظمات اليهودية في أميركا بالتحرك ضدّها.
خطة عمل للتحريض ضد قطر وتشويه صورتها دوليًا
في سياق الإستراتيجية الإسرائيلية الهادفة لشيطنة قطر، عقدت "هيئة الإعلام الوطنية" الإسرائيلية التابعة لديوان رئيس الحكومة اجتماعًا موسعًا في بداية أيلول / سبتمبر 2014، وشارك فيه عشرات المنظمات والهيئات الإسرائيلية غير الحكومية المختصة بالدعاية والإعلام، من أجل تنظيم حملة إعلامية سياسية مشتركة ضد قطر وتركيا؛ بغرض تشويه سمعتهما والإساءة إلى علاقاتهما مع الدول الغربية لا سيما مع الولايات المتحدة. وقد أصدرت "هيئة الإعلام الوطنية" تعليماتٍ وتوجيهاتٍ للمنظمات والمؤسسات التي شاركت في هذا الاجتماع بشأن كيفية مهاجمة هذين البلدين، وبشأن القضايا التي ينبغي التركيز عليها وإبرازها.
وفي سياق ترجمة هذه الحملة الممنهجة والمخطَّط لها، قامت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام الإسرائيلية بنشر تقديرات موقف ومقالات تحريضية ونصوص خبرية ملفَّقة، تهدف إلى نشر شائعات، وعددها بالمئات كما أحصيناها. ونظرًا لصعوبة حصر هذه المقالات في ورقة قصيرة، نكتفي بذكر نماذجَ من الأوراق الصادرة عن مراكز الأبحاث.
ففي مقالة لهما صدرت عن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب، قال الباحثان كوبي ميخائيل ويوئيل غوجانسكي إنّه من الصعب أن يجد المرء في العصر الحديث دولةً في وضعٍ مشابه لدولة قطر؛ دولة قليلة السكان وصغيرة المساحة ولكنها تتمتع بمثل هذا النفوذ الكبير والدور الواسع. وقد عَجَّت المقالة بالتحريض المنهجي القائم على افتراضات غير مثبتة أقرب ما تكون إلى نشر الشائعات، استنتج من خلالها الباحثان أنّ قطر تمثّل خطرًا على الاستقرار والأمن في المنطقة. وفي محاولةٍ للظهور بمظهر الحريص على مصالح الدول العربية، زعم الباحثان أنّ قطر تقدّم الدعم للحركات "الإرهابية" والراديكالية التي تنشط ضد الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط، ما يقود إلى إلحاق الضرر بدول عربية محورية في المنطقة، وزعزعة الاستقرار فيها، وتعريض مصالح الولايات المتحدة والغرب للخطر. وانتقد الباحثان بشدة قناة الجزيرة لما عدّاه "مناداتها بالديمقراطية في الدول العربية"، ولوقوفها ضد الأنظمة المستبدة. وأعرب الباحثان عن خيبة أملهما في عدم تمكّن الولايات المتحدة الأميركية من الضغط على قطر لتحجيم دورها والحدّ من نفوذها في المنطقة. وإزاء هذا الوضع، شدّد الباحثان على أنّه "ينبغي للدول والمنظمات التي تمثّل قطر تهديدًا لمصالحها الحيوية، أن تقوم بتوحيد جهودها وتجنيد شركاء آخرين لها على الساحة الدولية، بغية العمل بتصميمٍ وبشكلٍ خلاق للَجْمها".
ودعا الباحثان إلى اتّباع وسائل جديدة على المستويين العلني والسري للضغط على قطر، بغرض إرغامها على تغيير "سياساتها السلبية". وفي ما يخص المستوى العلني، اقترح الباحثان القيام بحملةٍ دولية لإلغاء استضافة قطر "مونديال" 2022. ودعيا إلى تجنيد منظمات حقوق الإنسان في العالم للعمل قانونيًا ضد ما أسمياه "استغلال العمّال الأجانب في قطر" الذين يقومون ببناء منشآت "المونديال"، ومقاضاة قطر في المحاكم في العالم، وذلك للانتقاص من مكانتها وتلطيخ سمعتها وتكبيدها خسائرَ مالية.
أمّا على مستوى العمل السرّي، فذكر الباحثان إنّه "بالإمكان القيام برزمةٍ من الأعمال الخلاقة التي من شأنها التوضيح لقطر أنّ دعمها الذين يهددون الاستقرار، يكلفها ثمنًا باهظًا، ويزعزع استقرارها، ويعرّض مؤسساتها وأجهزتها للتعطيل". وأضاف الباحثان إنّ توحيد الجهود والدمج الذكي بين النشاطات العلنية والعمليات السرية من شأنهما أن يظهرا تصميم معسكر الدول المعتدلة على "إفشال تأثير قطر السلبي والخطير"، وأن يساعدا في "ضعضعة ثقة قيادتها بنفسها، ويضغطا عليها للتفكير مجددًا في سياساتها من منطلق الربح والخسارة، ما قد يؤدي بها إلى تبنّي سياسة معتدلة تخفّف من "تأثير قطر السلبي في استقرار المنطقة وأمنها".
تشبه هذه الورقة خطة عمل مقترحة تتضمّن عناصر التحريض التي ينصح الباحثان بالتركيز عليها لتشويه صورة قطر، بما في ذلك التعاون مع دولٍ عربية والتأثير في الرأي العام في الغرب "للَجْم" دورها.
في السياق نفسه وفي ضوء فشل الجيش الإسرائيلي في وقف إطلاق صواريخ المقاومة من قطاع غزة إلى العمق الإسرائيلي، ادّعى أفيعاد دادون مستشار وزارة الأمن الإسرائيلية والخبير في حماية المعلومات، أنّ قطر أقامت لحماس في قطاع غزة منظومة إنترنت لإدارة إطلاق الصواريخ عن بعد وتفعيلها، من دون أن يجهد نفسه بتقديم أيّ دليل.
وأضاف أنّ البنى التحتية المرتبطة بالأنفاق وبجهد حماس العسكري لا سيّما إطلاق الصواريخ، تعمل بطريقة محوسبة، وأنّ المقاتلين الفلسطينيين لا يطلقون الصواريخ يدويًا وإنّما يطلقونها عن بعد بواسطة الشبكة المحوسبة. وادّعى دادون أنّه جرى استثمار عشرات ملايين الدولارات في حفر كلّ من الأنفاق ومنظومة إطلاق الصواريخ وحوسبتها، والتي تفعّل عن بعد وتلقائيًا في أوقاتٍ محددة سلفًا. وادّعى دادون أيضًا أنّ قطر باتت مؤخرًا تمتلك طاقاتٍ هائلة في مجال السايبر cyber warfare، وأنّ 70 في المئة من هجمات السايبر تأتي من قطر. وهو ادّعاء لا أساس له من الصحة. لكن الحقيقة هنا لا تهمّ، لأنّ الهدف هو نشر الشائعة ودفع الآخرين إلى تداولها. وأضاف: "نحن نعلم بالتأكيد أنّ قطر تستثمر مئات ملايين الدولارات في البنى التحتية للسايبر"، وأنّها تستقطب أفضل العقول للعمل في تطوير بنى السايبر فيها.
أمّا البروفيسور جوشوا تايتلباوم الباحث في "مركز بيغن - السادات للدراسات الإستراتيجية" التابع لجامعة بار إيلان، فقد هاجم في ورقة تقدير موقف له دولة قطر بشدة، عارضًا رزمةً من الادّعاءات أبرزها الدور الذي تقوم به قطر في دعم الثورات وحركات الاحتجاج التي تهدّد الأنظمة العربية والاستقرار في المنطقة، ودعم "حماس" ماليًا وسياسيًا، واستضافتها رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل في الدوحة، وتوسّطها بين "حماس" و"فتح" لتحقيق المصالحة الفلسطينية، وزيارة أميرها السابق غزة وتبرّعه بأكثر من 400 مليون دولار لإعادة إعمار القطاع. وادّعى الباحث أنّ قطر موّلت حفر الأنفاق في غزة وبناءَها، وساعدت "حماس" في حوسبة منظومة إطلاق الصواريخ على إسرائيل. وهاجم أيضًا دور قطر في التوسّط لحلّ المشاكل الإقليمية، ودور قناة الجزيرة الإعلامي المساند لحركات الاحتجاج والثورات العربية. ودعا تايتلباوم إلى شنّ حملةٍ شاملة ضد قطر في جميع المجالات، لا سيّما في ما يخص ما أطلق عليه سوء معاملتها العمّال الأجانب، ودعمها "الإرهاب"، واستضافتها "المونديال"، ودورها في حلّ المشاكل الإقليمية. وشدّد على ضرورة "قصّ أجنحة قطر"، وتقليص دورها الإقليمي والدولي إلى الحدّ الأدنى الممكن، وعدم السماح لها بحلّ المشاكل الإقليمية، وإلغاء استضافتها "مونديال" 2022، والعمل بجدية لمقاطعة "المونديال" في حال فشلت جهود منع قطر من استضافته، وتقديم الدعاوى ضدّها في الولايات المتحدة الأميركية بشأن دعمها حركة "حماس" التي تعَدّ في الولايات المتحدة حركة إرهابية.
ومن الملاحظ أنّ الحملة الإسرائيلية الممنهجة التي تقلَّصت إعلاميًا في الشهرين الأخيرين قد ركّزت على العمل السياسي والدبلوماسي ضد قطر، لا سيّما في الولايات المتحدة والدول الغربية المحورية، إلى جانب العمل مع بعض دول المنطقة من أجل الضغط على قطر لتغيير سياساتها، ليس فقط في ما يخص التطورات في المنطقة العربية وإنما أيضًا بخصوص موقفها المناهض للعدوانية الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، ودعمها الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
خلاصة
لقد اكتفينا باختيار نماذجَ من الحملة الإسرائيلية الممنهجة للإساءة إلى صورة دولة قطر دوليًا وإظهارها فاعلًا مغامرًا وغير مسؤول في أفضل الحالات، ودولة داعمة للإرهاب في أسوئها. وقد اخترنا نماذجَ من المؤسسات البحثية والأكاديمية التي لا تكتفي بنشر معلومات غير مثبتة وغير دقيقة، بل تتجاوز ذلك إلى وضع أجندات سياسية تهدف إلى الإساءة إلى قطر والضغط عليها لتغيير موقفها السياسي. ويمكن دون بذل جهدٍ كبير ملاحظة المشترك بين العناصر التي تركّز عليها هذه الحملة، وما يُنشَر في بعض الصحف الغربية وحتى العربية.