معـضلة العرب في الاختيار بين الإستعمار الأمريكي والإستعمار الإيراني
وَضْع العرب عجيب غريب ، إذا فعلوا شيئاً غضب البعض وإذا لم يفعلوا شيئاً غضب البعض الآخر . فـَتـَحْتَ شعار الثورية والعداء لأمريكا يسارع بعض العرب إلى إدانة التدخل العربي في اليمن باعتباره دعماً للسياسة الأمريكية من خلال السعودية وحلفائها . والبعض الآخر يعتبر هذا الحلف مُوَجـّها في حقيقته ضد إيران زعيمة المقاومة والوطنية في الأقليم الشرق أوسطي كما يؤمن ذلك البعض . ولو لم يتدخل العرب أصلاً ولم يحركوا ساكناًَ تجاه ما يجري في اليمن ، فإن الكثيرين قد يلجأوا إلى وصف الحكام العرب بالعمالة والخيانة لأمتهم العربية وبأنهم تركوا اليمن لمصير أسود سوف يؤدي إما إلى إحتلاله أو إلى تمزيقه . واقع ملتبس متناقض لا يمكن تفسيره إلا بضيق الأفق وقصر النظر والتحزب والتمترس خلف مواقف مسبقة الصنع متناسين أن ما نحن بصدده يتعلق بضرورة الحفاظ على عروبة اليمن ووحدة أراضيه وسلامة شعبه وهو أمر لا يأتي بالخضوع لأمريكا أو لإيران سواء بسواء .
السؤال الرئيسي يتمحور حول ما إذا كان هنالك فرق بين إستعمار وإستعمار ، وهل هناك إستعمار أفضل من إستعمار ؟ سؤال يجب أن نتصدى له بشجاعة قبل أن نُقـْدِمْ على إتخاذ موقف مما يجري أو نصدر أحكاماً بشأنه . الإستعمار سئ في كل صوره وأشكاله وهو عدو الشعوب وأمانيها الوطنية . ولكن البعض قد يتساءل إذا ما كان الإستعمار الإيراني أفضل أم الإستعمار الأمريكي ، وكأن هنالك مفاضلة في الإستعمار . كلاهما أسوأ من بعض لسبب واحد بسيط وهو أنه لا يوجد إستعمار جيد أو حتى مقبول على الأطلاق . ونفس الشئ ينطبق على التبعية . فالتبعية لروسيا مثلاً ليست أفضل من التبعية لأمريكا ، فكلاهما سئ . وإذا كانت دولة عربية كالسعودية متحالفة مع أمريكا ، فإن هذا لا يعني أن نقبل بإستعمار إيران لليمن نكاية بالسعودية مثلاً . عروبة اليمن وتماسكها هو الهدف الأساسي . أما تخوف البعض من خضوع اليمن لأمريكا فيما لو قادت السعودية عملية عسكرية ضد الحوثيين فإن اليمن خاضعة لأمريكا منذ أكثر من ثلاثين عاماً وهي فترة حكم علي عبدالله صالح . وإستبدال هذه التبعية بتبعية لإيران لا يشكل انجازاً على الإطلاق . ولكن الحفاظ على تماسك اليمن ووحدته وعروبته هو الإنجاز الحقيقي وهو المطلوب مرحلياً . وعلي عبدالله صالح الرئيس السابق لليمن هو الذي وضع اليمن تحت العباءة الأمريكية أصلاً ، ولكنه الآن ولأسباب شخصية تهدف إلى عودته لسدة الحكم يتحالف مع الحوثيين ويسعى إلى وضع اليمن تحت العباءة الإيرانية من أجل الوصول إلى تلك الغاية .
إيران لا تسعى لإنقاذ اليمن من أمريكا أو من السعودية أو من عبدربه منصور هادي بل تسعى لتثبيت النفوذ الإيراني فيها . وهذا المسعى هو جزء من رؤيا إقليمية متكاملة تعمل إيران على تنفيذها منذ عقود . وعلى أولئك العرب الذين يظنون أن إيران تفعل ما تفعله في اليمن لوجه الله أو حباً في أهل اليمن أو العرب أو المسلمين أن يعلموا بأن الأمر عبارة عن مصالح إيرانية بحتة وأن إيران في هذا السياق مثلها مثل أي دولة لها طموحات وأهداف خارج حدودها.
إن خلق الإنطباع لدى الجماهير العربية بإن إيران هي النظام الوحيد المقاوم للإحتلال الإسرائيلي من خلال "حزب الله" اللبناني التابع لها ، هو أحد أعظم انجازات السياسة الأقليمية الإيرانية . فالدخول من بوابة العداء لإسرائيل هو أضمن وأسرع طريق لأسر قلوب الجماهير العربية العطشى إلى انجازات في فلسطين بعد أن صدمتها الخيانات العربية والفلسطينية وتواطئهم جميعاً مع أعداء العرب الحقيقيين وهما أمريكا وإسرائيل . ولكن يبقى السؤال الكبير ، هل يكفي هذا لتسليم مقاليد المنطقة العربية لإيران والسماح لها بالسيطرة على أهم دولها المحورية بل والسماح لمسؤولين إيرانيين بالتصريح علناً بنوايا إيران لضم العراق وتحويل بغداد إلى عاصمة إيرانية ؟؟
المفاضلة في هذا السياق مستحيلة تماماً كما أن المقارنة هي فخ نحو القبول بالإستعمار . فالمفاضلة أو المقارنة بين مستعمر ومستعمر هي مدخل إلى القبول بالإستعمار كمبدأ . والحكم على مثل هذه الأمور يجب أن ينطلق من رفض الإستعمار جملة وتفصيلاً وبغض النظر عن مصدره .
هنالك من العرب المؤيدين لإيران من يدفع الأمور بسذاجة إلى نقطة المقارنه بين أمريكا وإيران . وبالطبع فإن وجه المقارنة يأخذ منحى مختلفاً فيما لو كانت المطامع الإيرانية بعيدة عن الوطن العربي . فإيران الجارة المسلمة في مثل تلك الحالة هي أفضل ألف مرة من أمريكا حامية إسرائيل والأنظمة العربية الرجعية . ولكن ما دامت إيران تصر على المضي في تنفيذ مخططاتها لإستعمار دول عربية عدة فإن تصنيفها سيبقى محصوراً بدورها الإستعماري وليس بموقفها المناهض لأمريكا وإسرائيل والمبني على أساس المصالح الوطنية الإيرانية والتي إلتقت في عدائها لأمريكا مع الأماني الوجدانية للعديد من المواطنين العرب وليس العكس . فإيران لا تعادي أمريكا وإسرائيل من أجل عيون العرب ولكن لمصالحها الوطنية والباقي يأتي كتحصيل حاصل . وقد نشاهد في القريب العاجل وفاقاً أمريكياً – إيرانياً يفوق في أهميته التحالف القائم بين العرب وأمريكا .
وفي السياق نفسه ، من الملاحظ أن العديد من العرب المسيحيين يؤيدون إيران وهم في ذلك ينطلقون من كرههم لداعش وخوفهم منها ومن أساليبها المجرمة . وهذا الموقف قد يدفع الأمور باتجاه التأزيم وخلط الأوراق في المنطقة كونه قد يرسل إلى إيران إشارات خاطئة بأن هنالك تأييداً عربياً مسيحياً لمخططاتها الأقليمية الفارسية . وفي نهاية المطاف ، فإن إيران سوف تتعامل مع العرب المسيحيين بصفتهم عرباً وليس بصفتهم مسيحيين. والسؤال هو هل سيستطيع العرب المسيحيون أن يعيشوا حياة طبيعية في دولة الملالي الإيرانية فيما لو حكمت المنطقة ؟ الخيار الصحيح أمام العرب المسيحيين هو في دعم القوى القومية العلمانية التي تمثل العرب وآمانيهم القومية دون النظر إلى الدين أو المعتقد أو الأصول الغابرة بحثاً عن ذريعة لممارسة التمييز .
دخول تركيا الطوعي على خط دعم عملية "عاصفة الحزم" السعودية يهدف إلى فتح الباب أمام عودتها إلى حلبة الصراع الأقليمي ، وبالتالي فهي تسعى أن يكون لها في النهاية دوراً إقليمياً خصوصاً وأن نجاح إيران في السيطرة على العراق وسوريا سوف يساهم في إغلاق فكي الكماشة على تركيا . وبالتالي فإن تركيا تبحث عن مهرب سُنـّي من جهة وعن دور سُنـّي من جهة أخرى ، وكل ذلك ضمن إطار المصالح التركية حصراً . ولا داعي لفلسفة الأمور وتحميلها أكثر مما تحتمل وزج القاصي والداني ضمن عقلية المؤامرة المعمول بها . العملية عملية مصالح وطنية سواء بالنسبة لإيران أو تركيا . وإذا إعتبر بعض العرب أن الدعم التركي للحلف السعودي وعملية "عاصفة الحزم" يأتي من أجل الحفاظ على عروبة اليمن ووحدته فإن هذا سوف يدفع الأمور في الإتجاه الخاطئ . الدور التركي يهدف ، تماماً مثل الدور الإيراني ، إلى استغلال الهوية المذهبية السنية لتعزيز الأهداف التركية في قيادة العالم السني ضمن المنظور التاريخي العثماني . إن مثل هذا التفكير سوف يفتح الشهية التركية لإعادة تفعيل دورها الأقليمي بعد أن فشلت في استثمار الصراع في سوريا لتعزيز ذلك الدور .
أما تعليق البعض على الأعلان عن دعم أمريكا ودول عربية عديدة لعملية "عاصفة الحزم" وإعتبار ذلك الدعم كافياً للتشكيك بنوايا هذه العملية فهو تعليق مضحك ولا يخلو من سذاجة واضحة . فالسعودية وحلفائها لا يملكون أصلاً حرية إتخاذ القرار بالتدخل العسكري في اليمن دون موافقة أمريكا المسبقة ومباركتها . والموقف الأمريكي – الغربي في أصوله موجة ضد المد الأقليمي الإيراني حسب الرؤيا والمصالح الأمريكية وليس تأييداً للعرب ولعروبة اليمن ووحدته . والسؤال يبقى لماذا انتظرت السعودية وحلفائها كل هذا الوقت إلى أن تدهورت الأمور في اليمن بشكل خطير وأصبح إمتداد النفوذ الإيراني إلى اليمن أمراً شبه محتوم ؟ هل الهدف هو إيجاد المبررات لفتح بوابة الخليج أمام الحرب الأقليمية الدائرة الآن ؟ أم هو قرار بزج الجميع في مواجهة إيران بحجة وصول الخطر الإيراني إلى أبواب السعودية والخليج ؟ أسئلة تبعث على الشك والحزن معاً .
الحلف العربي هو أيضاً حلفاً لم يتشكل لأسباب قومية ، فكل دولة عربية ساهمت في الحلف لأسباب خاصة ، وإن كانت النتيجة العامة للجهد العسكري العربي قد تكون في صالح الحفاظ على عروبة اليمن . فالسعودية لا تريد نظاماً مواليا لإيران على حدودها ، ودول مجلس التعاون الخليجي (ربما بإستثناء عُمان) لا ترغب في أن تصل الفوضى إلى حدودها أيضاً كما أنها لا تستطيع أن تخالف السعودية في موقف مثل هذا . ومصر تتطلب حساباتها الإحتفاظ بالسعودية كحليف استراتيجي وداعم إقتصادي ، وباقي الدول المتحالفة ، على صغر دورها ، تبقى حساباتها ضمن الرضى والقبول السعودي والأمريكي .
المحزن أن العرب ، في كل الأحوال ، هم المستهدفون وهم الضحية . أمريكا تهدف إلى إبقاء سيطرتها على العالم العربي وإعادة تقسيمه كما تريد ولصالح إسرائيل ، وإيران تريد أن تملأ الفراغ الأقليمي وترث العالم العربي وأن تضم بعض دوله وتسيطر على بعضها الآخر ضمن الرؤيا والمصالح الإيرانية . وتركيا تريد إعادة بناء أمجادها الغابرة وتوسيع نفوذها على حساب العالم العربي إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً . وإسرائيل ، في النهاية ، هي المستفيدة من كل ما يجري . فبعد احتلالها لكامل أرض فلسطين وسيطرتها المطلقة على السلطة الفلسطينية ، بدأت عيونها تتجه نحو تفعيل مخططها الخيالي الداعي إلى تأسيس إسرائيل الكبرى . وهذا قد لا يتأتى بالإحتلال المباشر ، ولكن بتقسيم المنطقة والسيطرة على دويلاتها الجديدة المذهبية الصغيرة والضعيفة والتعامل مع معظمها كدول تابعة تسير في فلك إسرائيل ، وما يتبقى منها في فلك إيران وربما تركيا .
* مفكر ومحلل سياسي