هذه المسلسلات... لضياع الوقت أم للعِبرة؟
فاطمة عبدالله - في رمضان، لا تكتفِ بدور المُشاهد. يمطرونكَ مسلسلاتٍ ويريدون منكَ- في الغالب- عينكَ فقط. تفضَّل عليهم بدور الناقد الصعب. لا نزال في بداية الشهر ولا شيء من المعروض يمكن تقويمه بعد أو الحُكم عليه. أنتَ كمُشاهد لكَ سُلطة على العمل التلفزيوني في كلّ ظرفٍ ووقت، لكنّ رمضان يفرض عليكَ ضعف المسؤوليات. أنّى توجّهت، تتورّط بزحمة المسلسلات. طوال الشهر سنكون معاً: عينٌ على ما يُعرَض وعينٌ على النيّة من العرض. أهو تتفيه العقول وتسطيح الذوق، أم ثمة عبرة في مكان؟ لا نملك جواباً الآن. لكننا، ككل موسم، نخشى أن نفرط في التفاؤل فنُصاب بالإحباط. نجول على ما يُفتَرض أن تطرحه المسلسلات من إشكاليات وقضايا، والمغزى المُتوقَّع. تذكَّر دائماً أنّ ما نوعَد به شيء وما نحصل عليه- في الغالب- شيءٌ آخر.
الحبّ بين التشويق والقضية
ندرك أحياناً أنّ القصد من الدراما عَوْن المُشاهد على تحمُّل الوقت. ليس الموسم الرمضاني وليمة لأعمال وُجهتها الفكر. غالباً ما يكتفي بالبسيط الهيِّن المعمول من أجل التسلية. يطغى الحبّ على الموسم، وتُطرَح في مسلسلات عدة إشكالية القلب والعقل. "24 قيراط" ("أم تي في" و"Osn يا هلا")، "تشيللو" ("المستقبل"، "أم بي سي") في مقدّمة أعمالٍ تتفرّغ للخفقان. الرومانسية متعة البعض وضجر البعض الآخر. مَن أحبَّ سيرين عبد النور وعابد فهد في "لعبة الموت" سينتظرهما بفارغ الصبر في "24 قيراط". سوف لن يسأل عن العِبرة خلف قصص فقدان الذاكرة وسخرية القدر. هذه الأعمال تخاطب قلوباً تتلوّع وفي بعض الأحيان تهوى التلوّع. سياقها أقرَب الى الخرافة، وربما نحبّه لذلك. المصادفة أولاً، فيلتقي القلبان. خُذ بعدها على آهات ومطاردة.
الحبّ في "أحمد وكريستينا" ("الجديد") إشكاليةٌ ضخمة لا ندري بعد كيف ستُعالَج. العلاقة بين مسلم ومسيحية، قضية لا يُستَهان بها ولا تُطرَح من أجل الجذب فحسب والتباهي بالزاوية الجديدة. تُطرَح كمسؤولية على عاتق الدراما الهادفة الى مجابهة رهاب الآخر من غير أن تقدّم نفسها مرشداً اجتماعياً بائساً. لا ننتظر قلّة العثرات بل تفاديها، فالطَرْح مُطالَبٌ بأن يقول شيئاً عوض الاكتفاء بالعرض.
"بنت الشهبندر" ("تلفزيون المستقبل"، "art حكايات") على هذا النمط. عنوانه الحب جنباً الى جنب مع الصراع. ليس الصراع طائفياً هنا، بل اجتماعياً يتعلّق بالكرسيّ والمال. لا جديد في العناوين العامة لهذه الموضوعات، ووحدها كيفية الطَرْح قد تنمّ عن مفاجأة.
"العراب" بنسختيه عبر "أل بي سي آي" و"الجديد" تكريسٌ أعمق (نأمل ذلك) لإشكالية الإنسان الغارق في الدوامة. تُطرَح المافيوية وتشابك الأيدي حول تحقيق الهدف، ويُرفَع الى الأعلى مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة". الإنسان الماكر يواجه مكره وطِيْب الآخرين ووحشية العالم.
تجارة الأعضاء وحياة المدمنين القاسية
نتعمّق في قضايا مسلسلاتٍ يُفتَرض إنها لم تُنجَز عن عبث. "ذهاب وعودة" ("المستقبل"، "أم بي سي مصر") مثلاً أو "تحت السيطرة" ("سي بي سي" و"دبي"). يتناول الأول قضية الاتجار بالأعضاء البشرية وخفايا عالم المال المحرَّم. مسلسلٌ يحلّ على رمضان بخطى واثقة، عارضاً على المُشاهد أن يكون شريكاً في اللعبة. المصائر ليست مكشوفة وكلّ الاحتمالات واردة. يُنتَظر عدم الاكتفاء بالتشويق على حساب الأجوبة الكامنة في الزوايا، أو بالإثارة على حساب جوهر العمل.
"تحت السيطرة" يتبنّى إشكالية تستسهل الدراما طرحها كلما ملّت قصص الحبّ. يوميات المدمنين مجدداً تحت المجهر، والرفض القاسي لهم. هذا المسلسل من أجل الضحايا المُحدَّدة مصائرهم باكراً. نأمل عدم الاكتفاء بالمشهد المألوف والعذابات ذاتها، فالتحدّي هنا ليس طَرْح الإشكالية بل إنصافها.
سوريا الأزمة والهروب المستحيل منها
"غداً نلتقي" ("أل بي سي آي" و"أل دي سي" و "أبو ظبي دراما") كثافة حضور الأزمة السورية درامياً، فالموسم لا يبدو واعداً باختزالات أخرى تتناول المأساة. العمل امتدادٌ وجودي لـ"سنعود بعد قليل"، يطرح قضية اللجوء والتشرّد والجرح. بالنسبة إلينا، هذا المسلسل في الأولويات. نراهن عليه بعينين شبه مغمضتين. لم يخيّب "سنعود" الظنَّ، وعسى بخَلَفه ألا يفعل.
"دنيا" ("الجديد" و"أبوظبي الأولى")، على الموجة عينها بجدّية أقل. معاناة السوريين على لسان "دينا أسعد سعيد" التي تتقنها أمل عرفة. السوري هو القضية في العملَيْن: بالدمع حيناً وبالهزء أحياناً. للقهر وجهان، كلاهما أمرّ من الآخر.
مصر الثورة وغُرَف الإنعاش
طَفحت الشاشة في رمضان الفائت بأعمال تحاكي خيبة المصريين بعد الثورة. يتراءى الموسم الرمضاني الحالي- على المستوى المصري- حذراً يتفادى إبر النحل. عبر عادل إمام في "أستاذ ورئيس قسم" ("أم بي سي")، يُطرَح الصراع الطبقي بين الغني والفقير والمهمَّش وصاحب الشأن. إنها الثورة من الجانب الفيء حيث الفطريات تنبت في الأرجاء. المحاولات المصرية الأخرى تذهب في غير اتجاه. نحو الكوابيس الليلية وغُرف الإنعاش. تُطرَح الجريمة في سياق منفصل عن العقاب، وتلوح في الأفق أزمة عيش. في "الكابوس" ("سي بي سي" و "أبو ظبي")، تؤدي غادة عبد الرازق دور أمّ سلبها الزمن ابنها، ولا تنفكّ تبحث عن السبب. العمل عن الشعور بالفَقد واستحالة التكيُّف مع الخسارة. لا أعمال مصرية كبرى تُطرَح هذه السنة. ولا يبدو أنه من الصواب الرهان على عمل يتناول نجومية شيرين عبد الوهاب في مسلسل "طريقي" (قنوات "سي بي سي" و"النهار" المصرية) وآخر عن رغبة حمادة هلال في التمثيل مع "ولي العهد" ("أم بي سي مصر"). أما "مولد وصاحبه غايب" ("الحياة") فليس الحلّ، وإن كانت هيفا وهبي البطلة. في "مريم" ("النهار" المصرية)، تؤدي دوراً مركباً يحتاج ممثلة بارعة ومن المبكر الحُكم عليه بعد. يبيّن العمل عمق الصلة ما بين الذنب والصفعة. تفقد وهبي في دور مريم القدرة على النطق جراء الشعور بأنها السبب في موت والدها. وهبي أمام مهمَّتين: أن تجيد دور التوأم وتُظهِر المعاناة تحت الصدمة.
المرأة وبؤس المجتمعات الضيّقة
وُلدت من "باب الحارة" ("أل بي سي آي"، "أم بي سي") محاولاتٌ الغرض منها إظهار البطولة في أزمان متخاذلة. أعمالٌ برمّتها امتدادُ الأمس الى اليوم، وشحذُ الهمم خشية خفوت الحماسة. توقّفنا- منذ زمن تقريباً- عن الشعور بمتعة مُشاهدة أعمال البيئة الشامية. ينسحب الإحساس بالضجر على "باب الحارة" وكلّ متفرّعاته مهما عظُمَت الأحداث وتدخَّل القدر. وسط هذه الدوّامة، تخرج سلاف فواخرجي في "الحرائر" ("أل بي سي آي") مُنتَصرة لصوت المرأة. سَبَق في "ياسمين عتيق" أن لفتت بقدرتها على المواجهة، فيما النسوة اعتدن الخنوع وإبداء فروض الطاعة. "الحرائر" بمثابة خطوة إضافية عن الجاري تناسخه في يوميات البيئة الشامية. عموماً، هذه الأعمال ليست أولويات، نشاهدها لضرورات المشاهدة. الرأي فيها وفي سواها يحتاج الى وقت. مَن يدري، قد تحمل ما يُبهِج أكثر من سواها الذي نراهن عليه.
fatima.abdallah@annahar.com.lb
Twitter: @abdallah_fatima
(النهار)