سياسة الطاقة والنفط في الأردن
د. عبدالحي زلوم - تعاني سياستنا في شؤون النفط والطاقة من ثلاثة محاور خاطئة:
المحور الأول: استحالة معالجة ارتفاع أسعار النفط العالمية بتمريرها إلى المستهلك الأردني، عبر زيادة أسعار المشتقات النفطية وعدم مراعاة خصوصية الاقتصاد الأردني. وإذا كانت الدولة غير قادرة على تحمل أعباء هذا الارتفاع، فكذلك المواطن هو أيضاً عاجز عن تحمل هذه الأعباء؛ فالحلول إذن في مكان آخر.
المحور الثاني: غياب الرؤية الواضحة والتخطيط السليم عبر العقود الماضية، واتخاذ قرارات تتناقض في جوهرها مع المصلحة الوطنية، بعضها يأتينا من خارج الحدود.
المحور الثالث: خصوصية الوضع الجيو-بوليتكي والجيولوجي للأردن، وبيع الخدمات الأردنية للنظام العالمي بالمجان أو بأبخس الأثمان.
وتكرار هذه الأخطاء يعرض الأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لأفدح الأضرار والأخطار.
المحور الأول
في العديد من المنابر، ومنها التلفزيون الأردني، والصحف المحلية، كما المحاضرات في المنابر المختلفة بما في ذلك مجمع النقابات قبل سنوات، وتحت عنوان “تعويم أسعار النفط: الأسباب والآثار” بيّنا أن:
- النفط الرخيص قد ولّى إلى غير رجعة، وأن أسعار النفط ستتخطى حاجز المئة دولار في المدى القريب والمتوسط، وستتخطى المئة وخمسين دولارا في المدى المتوسط والبعيد. وبيّنا أسباب ذلك بأن الاكتشافات النفطية العملاقة قد ولّى زمانها، وأن الكثير من الحقول الكبرى بدأت مرحلة النضوب، وأن الانتاج المستقبلي سيكون عالي الكلفة لمعالجة النفط الثقيل أو الزيت الرملي أو الاستخراج من أعالي البحار بكلفة تزيد في بعض الأحيان على ثلاثين ضعفاً عن كلفة إنتاج النفط العربي ومتوسطه دولاران للبرميل، مع زيادة الطلب على النفط بوتيرة أسرع من زيادة المخزون المكتشف الجديد. وقد قلنا ذلك حين كان سعر برميل النفط أربعين دولاراً.
- أنماط استهلاك النفط في الأردن مرعبة. فبينما كان الاستهلاك في الأردن العام 1960 هو 3500 برميل/ اليوم، فهو أكثر بثلاثين مرّة حالياً. كذلك، فإن أسعار النفط قد زادت من 2 دولار إلى 100 دولار، أي خمسين مرّة، ما يعني أن فاتورة النفط الأردني قد زادت 1500 مرّة!
- فاتورة النفط في الولايات المتحدة هي بين 3-4 % من الناتج المحلي الأميركي (GDP). وقد كانت كذلك حينما كان سعر النفط 2 دولار/ البرميل في بداية سبعينيات القرن الماضي، وهي نفس النسبة اليوم مع بلوغ سعر برميل النفط ما يزيد على مئة دولار، وذلك لأن الاقتصاد الأميركي ينمو بمعدلات تستوعب هذه الزيادة في الأسعار، وكذلك لأن هناك عناصر متنوعة لتوليد الطاقة، إذ تم تخفيض الاعتماد على النفط.
- أما نحن في الأردن، فقد كانت فاتورة النفط صفراً في العام 1960؛ إذ إن أجور مرور النفط عبر الأردن بواسطة خط “التابلاين” كانت تغطي فاتورة النفط والبالغة آنذاك حوالي 2.5 مليون دولار سنوياً، والتي تعادل استهلاك أربع ساعات فقط في العام 2012. أما في نهاية التسعينيات وما قبل الاحتلال الأميركي للعراق، فكانت هذه الفاتورة تساوي حوالي 3-4 % من الناتج المحلي الإجمالي الأردني، حينما كانت هناك ترتيبات سياسية واقتصادية بين الأردن والعراق، إذ كانت هناك منح نفطية وأسعار تفضيلية، لكن ذلك تلاشى بسبب الاحتلال الأميركي للعراق.
- أما فاتورتنا النفطية اليوم فتشكل حوالي 17 % من ناتجنا المحلي، وهي نسبة ليس لها مثيل عالميا، ولا يقوى عليها أي اقتصاد في العالم. وإن تمرير مثل هذا العبء إلى المواطن والاقتصاد الأردنيين هو انتحار سياسي واجتماعي واقتصادي لا يتمناه أي مواطن شريف وغيور.
المحور الثاني
بالرغم من الزيادات الفلكية في استهلاك الطاقة في الأردن بسبب زيادة عدد السكان وأيضاً سياسة تشجيع الاستهلاك المدعومة من مؤسسات التجارة الحرة والعولمة، إلاّ أن ذلك لم يقابله تخطيط وتشريعات مناسبة من الدولة، إلا عن طريق “الفزعات” أو إدارة الأزمات أو تنفيذ “الفرامانات”، فغاب عن هذا عنصران أساسيان:
أولاً: ترشيد الاستهلاك للطاقة عن طريق تعظيم استخدام المواصلات العامة التي كثر الحديث عنها لعقود، وكان كل ذلك جعجعة لا تعني طحناً. لكن الأدهى من ذلك هو زيادة أنماط الاستهلاك بدلاً من ترشيدها، عن طريق الانفتاح الجمركي الذي أدّى إلى زيادة أكثر من 700 ألف سيارة في العقد الأخير. وكما حسبنا كثيراً، فبمعدل 20 ألف دولار للسيارة الواحدة، يكون قد تم إنفاق 14 مليار دولار (حوالي حجم المديونية الأردنية) على أنماط استهلاكية تحرك عجله اقتصاد الآخرين وتدمّر اقتصادنا. ولو أخذنا كلفة الاستهلاك، وكلفة الوقود، وكلفة البنى التحتية، وكلفة المشتقات النفطية الناتجة عن هذه الزيادة، لوصلنا إلى رقم خرافي يساوي 4 مليارات دولار/ السنة هي خسارة الاقتصاد الوطني الأردني نتيجة هذه السياسات الخاطئة؛ أي 80 % من فاتورة النفط الحالية السنوية!
ثانياً: تقوم كافة الدول بتنويع مصادر توليد الطاقة لديها، معتمدة أساساً على مصادرها المحلية. والأردن يحتوي على أحد أكبر مخزونات الصخر الزيتي في العالم. وقد تقدم بعض الشركات في بداية الثمانينيات بعروض لتوليد أكثر طاقة الأردن الكهربائية آنذاك عن طريق حرق الصخر الزيتي. ولكن تمت مقاومة مثل هذه المشاريع بشراسة من قبل البعض. وليحسب لنا أحد أولئك كم كلفة ذلك على اقتصادنا الوطني.
في رحلتي إلى الهند على الملكية الأردنية بتاريخ 1 نيسان (أبريل) الماضي، سألني بالإنجليزية من كان بجواري عن مهنتي وهل أنا أردني، فأجبته أنني أردني وأعمل في مجال النفط منذ 53 سنة. فقال إن الأردن غني بالنفط. قلت تقصد الصخر الزيتي. قال نعم، “تملكون احتياطياً هائلاً منه، ستصبحون كما نحن دولة نفطية”. قلت ومن أنتم: قال “إسرائيل.. أنا قادم من تل أبيب، إسمي أًُديد إيران (Oded Eran) وكنت سفيراً لإسرائيل في عمان لمدّة طويلة”. قلت: “ظننت أن سفير اسرائيل أعلم بشؤون الموساد من شؤون البترول”. قال “أبداً لا علم لي بالموساد، لكني أمضيت 40 سنة في وزارة الخارجية”. قلت وماذا تعمل الآن؟ قال “أعمل في معهد الأمن القومي الإسرائيلي”.
ثم عاد يسأل: وماذا تعرف عن قطاع الطاقة والصخر الزيتي في إسرائيل؟ قلت: الكثير؛ أعرف عن أبحاث الدكتور هارولد فاينغار (Harold Vinegar) وهو يهودي أميركي هاجر إلى إسرائيل بعد التقاعد من شركة SHELL حيث كان يدير أبحاثا عن الصخر الزيتي في ولاية كولورادو، وهو الآن يرأس شركة لاستخراج البترول من الصخر الزيتي. أما ديك تشيني (Dick Cheney) نائب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش فقد ساهم في إحدى شركات الصخر الزيتي في إسرائيل. قال لي السفير: “أنا أعرف الدكتور هارولد، ولو أردت أن اُعرفك به فهذا كرتي وعنواني”. قلت: لكل حادث حديث.
ثالثاً: تنويع مصادر إنتاج الطاقة هو من أبجديات التخطيط لهذا القطاع المهم في كافة البلدان.. ما عدا الأردن! ففي الولايات المتحدة، 45 % من الكهرباء يتم إنتاجها بواسطة الفحم الحجري، يليه الغاز بنسبة 23 %، والطاقة النووية بنسبة 20 %، والطاقة الهيدروكهربائية 7 %، والرياح 2 %، فيما نسبة استعمال البترول 1 % فقط. وفيما عدا فرنسا حيث تستعمل الطاقة النووية لتوليد حوالي 70 % من إنتاج الكهرباء، فإن بقية الدول الأوروبية تستعمل مزيجا من الطاقة النووية والفحم الحجري والغاز الطبيعي، بنسبة 25 % لكل منها، فيما نسبة استعمال البترول هي 3 % فقط. وفي اليابان فإن النسبة هي 28 % من الفحم الحجري، و28 % من الطاقة النووية، و26 % من الغاز، و6 % من الطاقة الهيدروكهربائية؛ أما نسبة توليد الطاقة الكهربائية من النفط فهي 8 %. وفي الصين 80 % من الطاقة الكهربائية من الفحم الحجري و16 % من الطاقة الهيدروكهربائية. أما في الهند، فالنسبة هي 69 % من الفحم الحجري و13 % من الطاقة الهيدروكهربائية. وفي البرازيل
80 % من الطاقة الكهربائية تأتي من الطاقة الهيدروكهربائية.
بعبارة أخرى، تستعمل الدول مصادرها الطبيعية على تنوعها لإنتاج طاقة الكهرباء. ومصادر الأردن هي الصخر الزيتي الذي توّلد أستونيا 100 % من طاقتها الكهربائية منه منذ عقود. أما إسرائيل، فإنها تستعمل الفحم الحجري لإنتاج 63 % من طاقتها الكهربائية.
ونحن على طريقة “طخو أو إكسر مخو” كنا نستعمل مصدرا واحدا هو النفط
لـ100 % من توليد الكهرباء، وحاولنا الانتقال إلى 100 % لتوليد الطاقة من الغاز، بحيث حرمنا أنفسنا من التنوع المتبع في كافة أنواع المعمورة! وهذا خطأ استراتيجي.
المحور الثالث
لم تقم كيانات سايكس-بيكو على أسس الجدوى الاقتصادية، وانما على أسس جيولوجية وجيو-سياسية. وفكرة تكوين كيان سياسي في جنوب ولاية الشام ثم تسميته “شرق الأردن”، جاءت في مؤتمر سميراميس العام 1921 في القاهرة، في اجتماع وزارة المستعمرات البريطانية برئاسة وينستون تشرشل. إذ بينت الوثائق لوزارة المستعمرات لاحقاً أن “هناك أسبابا جيوسياسية مهمة لخلق مثل هذا الكيان الذي يفتقر إلى الموارد الطبيعية”. وإذا كان للأردن دور جيوسياسي، والأمر كذلك، فنحن ندّعي أننا نبيع هذا الدور بلا ثمن أو بثمن بخس.
أنا هنا لا أتكلم سياسة وإنما أتكلم اقتصادا. فهناك تقديرات بأن حماية الأردن لحدوده مع العراق ومنع الجهاديين من دخوله قد وفر على الجيش الأميركي ما لا يقل عن 10 آلاف جندي لحراسة تلك الحدود. وبما أن كلفة الجندي الأميركي في مناطق القتال هي مليون دولار في السنة، فهذا يعني أننا كنّا نوفر على الولايات المتحدة 10 مليارات دولار سنوياً، أو 80 مليار دولار في آخر ثماني سنوات. فهل 500 مليون دولار في السنة هو ثمن عادل، خصوصاً أن الاحتلال الأميركي قد حرمنا من 4 مليارات دولار سنوياً حسب استهلاكنا من النفط وأسعار اليوم.
وفي الخلاصة، فإن محاولة التوهم بأن اقتصادنا الأردني هو اقتصاد متكامل العناصر والتوازنات هو خطأ استراتيجي قاتل، سيؤدي في نهايته إلى نتائج وخيمة غير محمودة، لا يتمناها أي مواطن شريف وغيور. والعمل على إيجاد حلول بديلة، سياسية اقتصادية كما كان الحال مع العراق ما قبل الاحتلال، وتعظيم استخدام المصادر المحلية، وترشيد الاستهلاك وتنويع مصادر توليد الطاقة، هي الأسس السليمة لإعادة بناء قطاع طاقة وطني، واقتصاد يقوى الوطن والمواطن على التعايش معه. أما خلاف ذلك فهو أضغاث أحلام.
*خبير في شؤون الطاقة
(الغد)