الحوار مع إيران: نحو نظام إقليمي للسلم والأمن والتعاون
عريب الرنتاوي
جو 24 : أثارت التسريبات حول لقاء إيراني-خليجي سيعقد في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر المقبل على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة (أو في أي عاصمة دولية)، موجة من الجدل حول جدوى هذا الحوار، وفي مصلحةِ أيٍ من الفريقين سيصب، سيما بوجود “انقسام” خليجي واضح حيال هذه المسألة: قطر المبادرة لاستعارة الفكرة من تصريحات أوباما وتعليقات المسؤولين الروس، عُمان المرحبة انسجاماً مع إرث طويل في استقلالية السياسة الخارجية وتفردها، الكويت التي تسير على “وتر التوازنات الداخلية المشدود”، فيما تتموضع السعودية والبحرين والإمارات في الخندق الرافض للفكرة وإن بتفاوت لجهة حدة الموقف أو موجباتها ودوافعه.
ويمكن رصد ثلاثة أنماط من التعليقات والتعقيبات على هذا الموضوع، وتحديداً من المصادر الخليجية أو المحسوبة على دول بعينها من كتاب وصحفيين عرب.
النمط الأول من التعليقات، صدر على صورة “أمر عمليات”، فصدع له كتاب ومحللون كثر، ذهبوا بأشكال وصور مختلفة، إلى النتيجة ذاتها: إيران دولة عدو للخليج والعرب، والحوار معها لا يخدم أحداً سواها، واللغة الوحيدة التي تعرفها طهران، هي لغة القوة والمزيد منها... أصحاب هذه النظرية يعتقدون أن إيران “كتلة صماء”، لا فرق فيها بين معتدل وإصلاحي أو ثوري وعقائدي، وأن نظرية تعزيز دور المعتدلين في إيران، نظرية “أوبامية” خرقاء، وأن المرشد الأعلى، يحرك “مسرح الدمى” في إيران كما يشاء، فيقدّم هذا الفريق حين يشاء ويبعد ذاك متى اقتضت المصلحة.
النمط الثاني، تحدث عن “ممانعة” تكتيكية، غايتها تعديل موازين القوى القائمة بين الطرفين في هذه المرحلة بالذات، والتي تميل حسب اعتقاد هذا الفريق، لصالح الطرف العربي – الخليجي ... هذا الفريق، يقترح مواصلة “الانتصارات” في اليمن، وتعميم تجربة “عاصفة الحزم” على سوريا، واستكمال عملية “تأزيم” المشهد العراقي في وجه حلفاء إيران وأتباعها هناك، ونقل المعركة إلى لبنان، فيما يشبه “كسر العظم مع إيران” من خلال تحجيم حزب الله وحلفائه، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
النمط الثالث، وتمثله قلّة من الكتاب والسياسيين، صوتها ما زال خفيضاَ، ويعتقد بوجوب دفع الحوار مع إيران خطوات للأمام، بوصفه الوسيلة الوحيدة لحل المشكلات العالقة، وبناء منظومة للأمن والتعاون الإقليمي... هذا الفريق يعتقد أن كلفة استمرار “حروب الوكالة” مدمرة للمنطقة العربية أساساً، إذ أن وقود هذه الحروب هم العرب أنفسهم، بشراً وحجراً وعمراناً ووشائج اجتماعية ... ويعتقد هذا الفريق، أن الرهان على توازنات لحظية في موازين القوى، هو رهان محفوف بالمخاطر، فموازين القوى متحركة ومتبدلة، ومن الأفضل للعرب التفاوض مع إيران اليوم، ومن موقع قوة، قبل أن يضطروا للتفاوض معها غداً، بعد أن تحصد ثمرات الاتفاق النووية، ويعود العرب لمزاولة انقساماتهم الداخلية، فتضعفهم وتُذهب ريحهم.
النمط الأول من المواقف وردود الأفعال، يمكن وصفه بـ “الماضوي”، الذي لم يدرك بعد، مغزى ودلالة توقيع إيران والمجتمع الدولي على “اتفاق فيينا”... ما زال مسكوناً بالصورة النمطية التي تشكلت عن “إيران الثورة”، وهو بالطبع، يجد ما يشجعه ويعزز اطروحاته في مواقف وتصريحات بعض “صقور” المؤسسة الدينية والثورية الإيرانية، التي ما زالت “تشرّق وتغرّب” مدفوعة بأمرين: الأول، انتماءاتها الدينية المتشددة مذهبياً أو القومية المشبعة بإحساس “تفوق الفرس على العرب”... والثاني، ويندرج في سياق “مقتضيات” الصراع الداخلي في طهران بين التيارين الإصلاحي والمتشدد، من دون إبداء أية حساسية من أي نوع، لأثر هذه التصريحات على المتلقي العربي والمسلم من مذاهب أخرى.
إيران ليست “كتلة صماء”، ونخبها الحاكمة ليست “مجمعاً كهنوتياً” مغلقاً، وبعد أربعة عقود من الثورة وحكم “ولاية الفقيه”، لم تنجح السطوة الدينية والقومية، في تحويل هذا المجتمع الحيوي إلى “قطيع” لا حول له ولا قوة ... ومن الحكمة والمصلحة، التنبه إلى مفاعيل الاتفاق النووي على المشهد الإيراني الداخلي وتوازنات القوى المتحركة بين أطرافه.
أما النمط الثاني من التعليقات والتعقيبات، فمشكلته الرئيسة تكمن في رؤيته الاستاتيكية الجامدة لموازين القوى، فلا الصراع في اليمن قد حُسم لصالح فريق بعينه، وفي إطار كل فريق، ثمة أفرقاء يخفون خناجرهم خلف ظهورهم، استعداداً للانقضاض على الحليف والشريك... والأرض في جنوب اليمن وشمال، لم تستقر بعد لصالح فريق، والمرجح إن لم نقل المؤكد، أنها لن تستقر من دون حل سياسي توافقي، تكون إيران شريكاً فيه، حتى لا نقول ضامناً له ... وما ينطبق على اليمن، ينطبق بأقدار مماثلة، على الأوضاع في كثيرٍ من ساحات التأزم والتأزيم في المنطقة ... صحيح أن حليف إيران القوي في العراق قد سقط بسقوط الموصل، لكن الصحيح كذلك، أن إيران لم تفقد سطوتها على “البيت السياسي الشيعي”، وميليشيات الحشد الشعبي تكتسب نفوذاً متزايداً في المشهدين السياسي والعسكري العراقيين ... أما سوريا، فهي ملف متحرك، تتباين مختلف الأطراف حول كيفية مقاربته، بيد أنها تكاد تتفق أو تُجمع على أولوية محاربة الإرهاب من جهة أولى، وحفظ مؤسسات الدولة السورية من أمنية وعسكرية من جهة ثانية، وحل سياسي توافقي يجمع النظام بالمعارضات من جهة ثالثة، وأقصر الطرق لتحقيق ذلك كله، هو الحوار المفضي إلى توافق إقليمي، يوفر شبكة أمان لسوريا أولاً، ويدرأ احتمالات توسع المواجهات الدامية إلى ساحات عربية وخليجية ثانياً.
لهذا كله، نجد أنفسنا في صف النمط الثالث، الأقلوي، الذي يدعو للحوار والتعاون الإقليميين، ومن موقع القوة والاقتدار، واليوم قبل الغد ... ولقد آن أوان التفكير في إنشاء منظومة إقليمية للأمن والتعاون والسلام، تخرج المنطقة من استعصاءتها، وتنقذ ما يمكن إنقاذه من دولها وشعوبها ومجتمعاتها، وتحول دون تحولها إلى “أكبر سوق” لتجار السلاح والموت، ودائماً على حساب شعوب المنطقة ورفاهها ومستقبل أجيالها اللاحقة.
هي ليست طريقاً مفروشاً بالورود والرياحين والسجاد “الإيراني” الأحمر، ولكنها أقصر الطرق وأقلها كلفة، قياساًبحالة الخراب المقيم التي تكاد تأتي على الأخضر واليابس.
الدستور
ويمكن رصد ثلاثة أنماط من التعليقات والتعقيبات على هذا الموضوع، وتحديداً من المصادر الخليجية أو المحسوبة على دول بعينها من كتاب وصحفيين عرب.
النمط الأول من التعليقات، صدر على صورة “أمر عمليات”، فصدع له كتاب ومحللون كثر، ذهبوا بأشكال وصور مختلفة، إلى النتيجة ذاتها: إيران دولة عدو للخليج والعرب، والحوار معها لا يخدم أحداً سواها، واللغة الوحيدة التي تعرفها طهران، هي لغة القوة والمزيد منها... أصحاب هذه النظرية يعتقدون أن إيران “كتلة صماء”، لا فرق فيها بين معتدل وإصلاحي أو ثوري وعقائدي، وأن نظرية تعزيز دور المعتدلين في إيران، نظرية “أوبامية” خرقاء، وأن المرشد الأعلى، يحرك “مسرح الدمى” في إيران كما يشاء، فيقدّم هذا الفريق حين يشاء ويبعد ذاك متى اقتضت المصلحة.
النمط الثاني، تحدث عن “ممانعة” تكتيكية، غايتها تعديل موازين القوى القائمة بين الطرفين في هذه المرحلة بالذات، والتي تميل حسب اعتقاد هذا الفريق، لصالح الطرف العربي – الخليجي ... هذا الفريق، يقترح مواصلة “الانتصارات” في اليمن، وتعميم تجربة “عاصفة الحزم” على سوريا، واستكمال عملية “تأزيم” المشهد العراقي في وجه حلفاء إيران وأتباعها هناك، ونقل المعركة إلى لبنان، فيما يشبه “كسر العظم مع إيران” من خلال تحجيم حزب الله وحلفائه، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
النمط الثالث، وتمثله قلّة من الكتاب والسياسيين، صوتها ما زال خفيضاَ، ويعتقد بوجوب دفع الحوار مع إيران خطوات للأمام، بوصفه الوسيلة الوحيدة لحل المشكلات العالقة، وبناء منظومة للأمن والتعاون الإقليمي... هذا الفريق يعتقد أن كلفة استمرار “حروب الوكالة” مدمرة للمنطقة العربية أساساً، إذ أن وقود هذه الحروب هم العرب أنفسهم، بشراً وحجراً وعمراناً ووشائج اجتماعية ... ويعتقد هذا الفريق، أن الرهان على توازنات لحظية في موازين القوى، هو رهان محفوف بالمخاطر، فموازين القوى متحركة ومتبدلة، ومن الأفضل للعرب التفاوض مع إيران اليوم، ومن موقع قوة، قبل أن يضطروا للتفاوض معها غداً، بعد أن تحصد ثمرات الاتفاق النووية، ويعود العرب لمزاولة انقساماتهم الداخلية، فتضعفهم وتُذهب ريحهم.
النمط الأول من المواقف وردود الأفعال، يمكن وصفه بـ “الماضوي”، الذي لم يدرك بعد، مغزى ودلالة توقيع إيران والمجتمع الدولي على “اتفاق فيينا”... ما زال مسكوناً بالصورة النمطية التي تشكلت عن “إيران الثورة”، وهو بالطبع، يجد ما يشجعه ويعزز اطروحاته في مواقف وتصريحات بعض “صقور” المؤسسة الدينية والثورية الإيرانية، التي ما زالت “تشرّق وتغرّب” مدفوعة بأمرين: الأول، انتماءاتها الدينية المتشددة مذهبياً أو القومية المشبعة بإحساس “تفوق الفرس على العرب”... والثاني، ويندرج في سياق “مقتضيات” الصراع الداخلي في طهران بين التيارين الإصلاحي والمتشدد، من دون إبداء أية حساسية من أي نوع، لأثر هذه التصريحات على المتلقي العربي والمسلم من مذاهب أخرى.
إيران ليست “كتلة صماء”، ونخبها الحاكمة ليست “مجمعاً كهنوتياً” مغلقاً، وبعد أربعة عقود من الثورة وحكم “ولاية الفقيه”، لم تنجح السطوة الدينية والقومية، في تحويل هذا المجتمع الحيوي إلى “قطيع” لا حول له ولا قوة ... ومن الحكمة والمصلحة، التنبه إلى مفاعيل الاتفاق النووي على المشهد الإيراني الداخلي وتوازنات القوى المتحركة بين أطرافه.
أما النمط الثاني من التعليقات والتعقيبات، فمشكلته الرئيسة تكمن في رؤيته الاستاتيكية الجامدة لموازين القوى، فلا الصراع في اليمن قد حُسم لصالح فريق بعينه، وفي إطار كل فريق، ثمة أفرقاء يخفون خناجرهم خلف ظهورهم، استعداداً للانقضاض على الحليف والشريك... والأرض في جنوب اليمن وشمال، لم تستقر بعد لصالح فريق، والمرجح إن لم نقل المؤكد، أنها لن تستقر من دون حل سياسي توافقي، تكون إيران شريكاً فيه، حتى لا نقول ضامناً له ... وما ينطبق على اليمن، ينطبق بأقدار مماثلة، على الأوضاع في كثيرٍ من ساحات التأزم والتأزيم في المنطقة ... صحيح أن حليف إيران القوي في العراق قد سقط بسقوط الموصل، لكن الصحيح كذلك، أن إيران لم تفقد سطوتها على “البيت السياسي الشيعي”، وميليشيات الحشد الشعبي تكتسب نفوذاً متزايداً في المشهدين السياسي والعسكري العراقيين ... أما سوريا، فهي ملف متحرك، تتباين مختلف الأطراف حول كيفية مقاربته، بيد أنها تكاد تتفق أو تُجمع على أولوية محاربة الإرهاب من جهة أولى، وحفظ مؤسسات الدولة السورية من أمنية وعسكرية من جهة ثانية، وحل سياسي توافقي يجمع النظام بالمعارضات من جهة ثالثة، وأقصر الطرق لتحقيق ذلك كله، هو الحوار المفضي إلى توافق إقليمي، يوفر شبكة أمان لسوريا أولاً، ويدرأ احتمالات توسع المواجهات الدامية إلى ساحات عربية وخليجية ثانياً.
لهذا كله، نجد أنفسنا في صف النمط الثالث، الأقلوي، الذي يدعو للحوار والتعاون الإقليميين، ومن موقع القوة والاقتدار، واليوم قبل الغد ... ولقد آن أوان التفكير في إنشاء منظومة إقليمية للأمن والتعاون والسلام، تخرج المنطقة من استعصاءتها، وتنقذ ما يمكن إنقاذه من دولها وشعوبها ومجتمعاتها، وتحول دون تحولها إلى “أكبر سوق” لتجار السلاح والموت، ودائماً على حساب شعوب المنطقة ورفاهها ومستقبل أجيالها اللاحقة.
هي ليست طريقاً مفروشاً بالورود والرياحين والسجاد “الإيراني” الأحمر، ولكنها أقصر الطرق وأقلها كلفة، قياساًبحالة الخراب المقيم التي تكاد تأتي على الأخضر واليابس.
الدستور