قراءة في مستقبل العرب: مكافحة الفساد بديلاً عن الإفلاس السياسي
د. لبيب قمحاوي
جو 24 :
يتساءل العديدون عن المستقبل وكأن التنبؤ به يماثل محاولة إستقراء كرة بلورية تتسع لخيال من ينظر إليها . الأمور لا تـُقاس هكذا خصوصاً وأن العرب ، ومنهم العُربان ، ممعنون في أذية أنفسهم وأشقائهم وحاضرهم وبالتالي مستقبلهم .
لا أحد يدري في الواقع نتائج ما نحن فاعلون حيث تنتقل ناصية القرار بالفعل وبشكل حثيث من أيدينا إلى أيادي غيرنا ، وينسحب العرب بذلك تدريجياً من دائرة الفعل إلى دائرة اللافعل ، بل وأكثر من ذلك إلى دائرة المتلقي لإشارات و أوامر الآخرين والمستسلم لها .
الحاضر بالنسبة للعرب أصبح مقترناً بشعور رهيب من العجز عن التأثير على مجريات الأمور والإستسلام لإرادة الغير وكأنها قدرٌ لا فكاك منه . أما المستقبل فهو كـَمٌ مجهول ومحفوف بالمخاطر يتم التعامل معه بـِقـَدرِية عجيبة . وهذا المزيج من السلبيات لم يعد مقتصراً على المستقبل ، بل أصبح مُحَفـِزاً للحاضر للإستمرار في هذا النهج السلبي بإعتباره أمراً لا مفر منه وقدراً محتوماً مما حَوﱠل العرب إلى أمة مستسلمة لما يفرض عليها .
لا يكاد العرب يغلقون دائرة صراع عربية – عربية إلا ويسارعون إلى فتح أخرى وكأن قدر هذه الأمة أن تكون في حالة صراع مستمر مع نفسها متجاهلة الأخطار المحيقة بها والقادمة من الآخرين وأهمهم بالطبع إسرائيل والصهيونية العالمية .
هنالك دائرتين رئيسيتين للصراع الجاري حالياً في المنطقة ، والتي ستحدد مستقبل العرب بل ومستقبل الأقليم . الدائرة الأولى هي صراع العرب مع أنفسهم والثانية هي صراع العرب مع الآخرين . وللأسف فإن العرب أثبتوا مراراً أنهم جبابرة ودمويون في صراعهم مع أنفسهم وأنهم ضعفاء مستسلمون قـَدَريـِون في صراعهم مع الآخرين .
إن صراع العرب مع أنفسهم لم يكن ليتم لولا الغياب الواضح للنهج الديموقراطي والذي رافق تقريباً مجمل حقبة ما بعد الإستقلال منذ أربعينيات القرن الماضي .
غياب النهج الديموقراطي لم يكن السبب الوحيد ، فبالإضافة كان هنالك الإمعان في تكريس الدكتاتورية حتى إقتربت من فكرة الخلود للحاكم الذي يحكم حتى الموت ثم تطور ذلك إلى الخلود العائلي الذي مَكـﱠنَ الحاكم من الإستمرار في الحكم بعد موته من خلال توريثه لأحد أبنائه . وتم نتيجة لذلك المسعى العمل بشكل دؤوب على تفكيك مؤسسات الدولة وسحب الدم من عروقها بحيث تحولت إلى أداة بيد الحاكم الذي إحتكر لنفسه كل منابع القوة والسلطة والقرار . وقد جعل هذا الوضع من مقاليد الحرب والسلام لأي دولة عربية أمراً فردياً خاضعاً لمزاج الحاكم أو مصلحته ومصلحة نظامه .
وقد أدى ذلك إلى تعزيز قدرة الدول الخارجية وأهمها أمريكا وإسرائيل في التأثير على علاقات الحرب والسلام والود والخصام بين الدول العربية المختلفة وبينهم وبين الآخرين من خلال التأثير على حكامها كأفراد . وهكذا أصبح الصراع العربي – العربي محصلة لمزاج الحكام وتأثير الدول الخارجية عليهم واحداً واحداً.
وقد جعل هذا من الصراع العربي – العربي في كثير من الأحيان إمتداداً للصراع العربي – الإسرائيلي أو ما تـَبَقـَّى منه وكذلك لحقبة الربيع العربي التي كان مطلوباً منها هز المياه الراكدة بعد عقود من حكم أنظمة دكتاتورية عفنة وفاسدة بهدف إعادة تشكيل العلاقات العربية – العربية بحيث لا تكون بين الأنظمة الحاكمة حصراً كما كان عليه الحال ، بل بين تيارات فكرية ودينية تتقاطع أفقياً وعمودياً في طول الأرض العربية وعرضها تمهيداً لخلق نمط جديد من العلاقات بين مختلف الأطراف العربية .
ولكن ما جرى حقيقة دفع في إتجاه تعزيز التيار الأصولي الإسلامي وإضعاف الرابطة القومية العربية بحيث تم فتح الباب أمام التيار الأصولي الإسلامي كبديل بدا في لحظة ما وكأنه سيكتسح الساحة السياسية العربية . وهذا دفع الأمور بإتجاه إنشاء تحالف بين الحكام العرب وبعض الدول الغربية لشيطنة التيار الإسلامي الأصولي والتنظيمات الجهادية وتصنيف معظمها بالإرهابية مما أدى إلى خلق بلبلة لا حدود لها ووضع العرب في فراغ أفقدهم توازنهم بعد أن فقدوا هويتهم العربية كإطار سياسي .
وفي هذا السياق فإن الأدانة ليست محصورة بالعرب القوميين ولكنها تشمل الإسلاميين أيضاً كل حسب الدورالذي لعبه والذي أدى بالنتيجة إلى خلق حالة عامة من عدم التوازن في حقبة مليئة بالتحديات الإقليمية والخارجية التي تستهدف العرب اللذين أثبتوا أنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم والحفاظ على مصالحهم .
إرادة القـَوِيّْ ليست قـَدَراً لا يمكن تفاديه . فعوامل القوة الذاتية من خلال تماسك الشعب والإستناد إلى هوية قومية جاذبه ومتماسكه وقوية قد ترغم القوى الدولية على تغيير مخططاتها وأهدافها تحت إصرار الصمود الوطني والرفض من قبل الدول أو الشعوب المُسْتـَهدفة . وإيران ، ومن قبلها كوبا هما مثال على قدرة الشعوب الصامدة على تحدي المخططات الدولية التي تستهدفهم . وقد أثبتت إيران على مدى عقود عدة من الحصار الأمريكي – الغربي قدرتها على الحفاظ على مصالحها وأثبتت أن قوميتها الفارسية هي عامل شد وجذب وليس قوة طاردة تساهم في تفتيت المجتمع كما هو حال العرب . وقد نتج عن ذلك تعزيز قدرة الحكومة الإيرانية على التفاوض مع أمريكا والغرب والخروج بأقصى المكاسب الممكنة وأقل الخسائر .
وبالرغم عن كل ما جرى ، فإن هنالك مؤشرات مشرقه على تطورات قد تعيد نقل المنطقة من فخ الولاآت الطائفية والمذهبية إلى الإنشغال بقضايا حياتية مثل ما يجري الآن في العراق ولبنان من ثورات مطلبية أساسها رفض الفساد والتسلط والإقصاء وتهدف إلى التركيز على احتياجات المواطن وليس على أي إنتماآت أو قضايا مذهبية أو إقليمية . وهذا من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها ويعزز اللـُحمة الوطنية ويساهم في تكريس شعور عام بوحدة الحال بغض النظر عن الإنتماء الطائفي أو المذهبي أو الإقليمي . فإحساس الناس بالظلم يصبح واحداً ، وغضب الناس من الفساد ونتائجه واحداً أيضاً . وهذا الشعور يساهم في وحدة المطالب الشعبية مما يجعل منها مطالب وطنية ويُحَوﱢل البشر بالتالي من مجموعات طائفية أو مذهبية أو عرقية إلى مواطنين .
إن هذه النقلة النوعية قد تشكل إنعطافاً في مسيرة الأحداث تعطي بحد ذاتها بارقة أمل للمستقبل العربي . فما زرعه الشيطان قد يقتلعه الشعب قبل أن تنضج ثماره السامة . ومحاولات العبث بالبنية الأساسية للمجتمعات العربية المختلفة وتحويلها إلى رزم من التجمعات الطائفية والمذهبية والعرقية يحدد معالمها إنتماء فضفاض مجهول لمذهب ما أو عرق ما لا يهدف في حقيقته إلى تصويب وضع شاذ بل إلى تشويه وضع طبيعي قائم .
يبدو أن إستفحال الفساد المرافق عادة للأنظمة الدكتاتورية القمعية إلى الحد الذي جعل من الخدمات الأساسية ضحية أولى لتغول الفساد قد ساهم في تجسير الهوة الطائفية أو المذهبية أو العرقية لصالح وحدة المعاناة والتي ترجمت نفسها في تحويل ما تمخض عن الفساد من مآسي في الخدمات العامة إلى مطالب وطنية أعادت تحويل البشر المبعثرين بين المذاهب والمِلـَلْ إلى مواطنين يشكون من نفس المظالم بغض النظر عن أصولهم العرقية أو إنتماآتهم المذهبية .
وهذا تحديداً ما يجري الآن في كل من العراق ولبنان والذي جعل شعوبها ترفع مرة أخرى شعارات جامعة تستند إلى معاناة الوطن والمواطنين أولاً .
إن إعادة اللـُحمة الوطنية تحت وطأة المعاناة الشاملة الناتجة عن الفساد هي عملية نقيضة للمطرقة التي عملت لسنوات على تكسير اللـُحمة الوطنية وإذاَبـِتها في مستنقع المذهبية والطائفية والتعصب والتطرف . وهذا قد يـُثبت أن عوامل اللـُحمة داخل المجتمعات المقهورة ما تزال فاعلة ، وربما قادرة على إعادة بعث الأمة وإصلاح ما دمرته الأحداث ومن يقف وراءها من قوى أجنبية ومحلية تسعى إلى تفكيك دول المنطقة .
الفساد المستشري المستند إلى جبروت وظلم القوى الحاكمة وإحتقارها للشعوب التي تحكمها والتي فشلت في الدفاع عن وجودها ومصالحها قد يوفر القاعدة المطلوبة لطرح برنامج وطني جديد ومطالب وطنية تسمو فوق المطالب المذهبية أو الطائفية .
لبنان يتظاهر الآن ضد الفساد وضد تناحر القيادات الحاكمة وغيابها عن إدارة شؤون الدولة . والمتظاهرون اللبنانيون يرفضون أي مساهمة قادمة من الأحزاب المنبثقة عن تلك القيادات ويطرحون مطالب وطنية للأصلاح ومكافحة الفساد بعيداً عن الطائفية والمذهبية التي دمرت لبنان . وكذلك هو الحال في العراق وبالنسبة للعراقيين . فبالرغم من طغيان بعض القوى الأقليمية على شؤون العراق ومساهمتها في العمل على تقسيمه مذهبياً ، فإن ردة فعل العراقيين للمعاناة والقهر والإهمال الشديدين لمتطلباتهم الأساسية وعدم قدرة قوى الفساد على إحترام تلك المتطلبات أو حتى العمل على تخفيف معاناة الناس ، وشمول تلك المعاناة للجميع دون تمييز ، قد ساهم بشكل فعال في دفع العراقيين للتصرف كمواطنين في طرحهم لمطالب محاربة الفساد والفاسدين ومظاهر الإسراف المفرط للمسؤولين والمطالبة بمحاكمتهم بغض النظر عن انتماءهم المذهبي .
من الواضح أن عوامل الإنتماء الوطني ما زالت قوية في المجتمعين العراقي واللبناني . وهذا يعطي مؤشراً على أن تلك العوامل سوف تطفو في المستقبل على السطح وتعيد بناء ما تم هدمه . وهذا لا يعني بالضرورة أن تعود الأمور إلى سابق عهدها وكما كانت ، ولكنها بالتأكيد سوف تكون بعيدة عن مفهوم التفتيت العبثي الذي تسير فيه الأمور الآن في العديد من الدول العربية .
المستقبل قد لا يكون بالضرورة مشرقاً في بعده الرومانسي ولكنه قد يكون أفضل بكثير مما نحن فيه الآن وما يريده الآخرون لنا من تفتيت وتيه وضياع .
لا أحد يدري في الواقع نتائج ما نحن فاعلون حيث تنتقل ناصية القرار بالفعل وبشكل حثيث من أيدينا إلى أيادي غيرنا ، وينسحب العرب بذلك تدريجياً من دائرة الفعل إلى دائرة اللافعل ، بل وأكثر من ذلك إلى دائرة المتلقي لإشارات و أوامر الآخرين والمستسلم لها .
الحاضر بالنسبة للعرب أصبح مقترناً بشعور رهيب من العجز عن التأثير على مجريات الأمور والإستسلام لإرادة الغير وكأنها قدرٌ لا فكاك منه . أما المستقبل فهو كـَمٌ مجهول ومحفوف بالمخاطر يتم التعامل معه بـِقـَدرِية عجيبة . وهذا المزيج من السلبيات لم يعد مقتصراً على المستقبل ، بل أصبح مُحَفـِزاً للحاضر للإستمرار في هذا النهج السلبي بإعتباره أمراً لا مفر منه وقدراً محتوماً مما حَوﱠل العرب إلى أمة مستسلمة لما يفرض عليها .
لا يكاد العرب يغلقون دائرة صراع عربية – عربية إلا ويسارعون إلى فتح أخرى وكأن قدر هذه الأمة أن تكون في حالة صراع مستمر مع نفسها متجاهلة الأخطار المحيقة بها والقادمة من الآخرين وأهمهم بالطبع إسرائيل والصهيونية العالمية .
هنالك دائرتين رئيسيتين للصراع الجاري حالياً في المنطقة ، والتي ستحدد مستقبل العرب بل ومستقبل الأقليم . الدائرة الأولى هي صراع العرب مع أنفسهم والثانية هي صراع العرب مع الآخرين . وللأسف فإن العرب أثبتوا مراراً أنهم جبابرة ودمويون في صراعهم مع أنفسهم وأنهم ضعفاء مستسلمون قـَدَريـِون في صراعهم مع الآخرين .
إن صراع العرب مع أنفسهم لم يكن ليتم لولا الغياب الواضح للنهج الديموقراطي والذي رافق تقريباً مجمل حقبة ما بعد الإستقلال منذ أربعينيات القرن الماضي .
غياب النهج الديموقراطي لم يكن السبب الوحيد ، فبالإضافة كان هنالك الإمعان في تكريس الدكتاتورية حتى إقتربت من فكرة الخلود للحاكم الذي يحكم حتى الموت ثم تطور ذلك إلى الخلود العائلي الذي مَكـﱠنَ الحاكم من الإستمرار في الحكم بعد موته من خلال توريثه لأحد أبنائه . وتم نتيجة لذلك المسعى العمل بشكل دؤوب على تفكيك مؤسسات الدولة وسحب الدم من عروقها بحيث تحولت إلى أداة بيد الحاكم الذي إحتكر لنفسه كل منابع القوة والسلطة والقرار . وقد جعل هذا الوضع من مقاليد الحرب والسلام لأي دولة عربية أمراً فردياً خاضعاً لمزاج الحاكم أو مصلحته ومصلحة نظامه .
وقد أدى ذلك إلى تعزيز قدرة الدول الخارجية وأهمها أمريكا وإسرائيل في التأثير على علاقات الحرب والسلام والود والخصام بين الدول العربية المختلفة وبينهم وبين الآخرين من خلال التأثير على حكامها كأفراد . وهكذا أصبح الصراع العربي – العربي محصلة لمزاج الحكام وتأثير الدول الخارجية عليهم واحداً واحداً.
وقد جعل هذا من الصراع العربي – العربي في كثير من الأحيان إمتداداً للصراع العربي – الإسرائيلي أو ما تـَبَقـَّى منه وكذلك لحقبة الربيع العربي التي كان مطلوباً منها هز المياه الراكدة بعد عقود من حكم أنظمة دكتاتورية عفنة وفاسدة بهدف إعادة تشكيل العلاقات العربية – العربية بحيث لا تكون بين الأنظمة الحاكمة حصراً كما كان عليه الحال ، بل بين تيارات فكرية ودينية تتقاطع أفقياً وعمودياً في طول الأرض العربية وعرضها تمهيداً لخلق نمط جديد من العلاقات بين مختلف الأطراف العربية .
ولكن ما جرى حقيقة دفع في إتجاه تعزيز التيار الأصولي الإسلامي وإضعاف الرابطة القومية العربية بحيث تم فتح الباب أمام التيار الأصولي الإسلامي كبديل بدا في لحظة ما وكأنه سيكتسح الساحة السياسية العربية . وهذا دفع الأمور بإتجاه إنشاء تحالف بين الحكام العرب وبعض الدول الغربية لشيطنة التيار الإسلامي الأصولي والتنظيمات الجهادية وتصنيف معظمها بالإرهابية مما أدى إلى خلق بلبلة لا حدود لها ووضع العرب في فراغ أفقدهم توازنهم بعد أن فقدوا هويتهم العربية كإطار سياسي .
وفي هذا السياق فإن الأدانة ليست محصورة بالعرب القوميين ولكنها تشمل الإسلاميين أيضاً كل حسب الدورالذي لعبه والذي أدى بالنتيجة إلى خلق حالة عامة من عدم التوازن في حقبة مليئة بالتحديات الإقليمية والخارجية التي تستهدف العرب اللذين أثبتوا أنهم غير قادرين على إدارة شؤونهم والحفاظ على مصالحهم .
إرادة القـَوِيّْ ليست قـَدَراً لا يمكن تفاديه . فعوامل القوة الذاتية من خلال تماسك الشعب والإستناد إلى هوية قومية جاذبه ومتماسكه وقوية قد ترغم القوى الدولية على تغيير مخططاتها وأهدافها تحت إصرار الصمود الوطني والرفض من قبل الدول أو الشعوب المُسْتـَهدفة . وإيران ، ومن قبلها كوبا هما مثال على قدرة الشعوب الصامدة على تحدي المخططات الدولية التي تستهدفهم . وقد أثبتت إيران على مدى عقود عدة من الحصار الأمريكي – الغربي قدرتها على الحفاظ على مصالحها وأثبتت أن قوميتها الفارسية هي عامل شد وجذب وليس قوة طاردة تساهم في تفتيت المجتمع كما هو حال العرب . وقد نتج عن ذلك تعزيز قدرة الحكومة الإيرانية على التفاوض مع أمريكا والغرب والخروج بأقصى المكاسب الممكنة وأقل الخسائر .
وبالرغم عن كل ما جرى ، فإن هنالك مؤشرات مشرقه على تطورات قد تعيد نقل المنطقة من فخ الولاآت الطائفية والمذهبية إلى الإنشغال بقضايا حياتية مثل ما يجري الآن في العراق ولبنان من ثورات مطلبية أساسها رفض الفساد والتسلط والإقصاء وتهدف إلى التركيز على احتياجات المواطن وليس على أي إنتماآت أو قضايا مذهبية أو إقليمية . وهذا من شأنه أن يعيد الأمور إلى نصابها ويعزز اللـُحمة الوطنية ويساهم في تكريس شعور عام بوحدة الحال بغض النظر عن الإنتماء الطائفي أو المذهبي أو الإقليمي . فإحساس الناس بالظلم يصبح واحداً ، وغضب الناس من الفساد ونتائجه واحداً أيضاً . وهذا الشعور يساهم في وحدة المطالب الشعبية مما يجعل منها مطالب وطنية ويُحَوﱢل البشر بالتالي من مجموعات طائفية أو مذهبية أو عرقية إلى مواطنين .
إن هذه النقلة النوعية قد تشكل إنعطافاً في مسيرة الأحداث تعطي بحد ذاتها بارقة أمل للمستقبل العربي . فما زرعه الشيطان قد يقتلعه الشعب قبل أن تنضج ثماره السامة . ومحاولات العبث بالبنية الأساسية للمجتمعات العربية المختلفة وتحويلها إلى رزم من التجمعات الطائفية والمذهبية والعرقية يحدد معالمها إنتماء فضفاض مجهول لمذهب ما أو عرق ما لا يهدف في حقيقته إلى تصويب وضع شاذ بل إلى تشويه وضع طبيعي قائم .
يبدو أن إستفحال الفساد المرافق عادة للأنظمة الدكتاتورية القمعية إلى الحد الذي جعل من الخدمات الأساسية ضحية أولى لتغول الفساد قد ساهم في تجسير الهوة الطائفية أو المذهبية أو العرقية لصالح وحدة المعاناة والتي ترجمت نفسها في تحويل ما تمخض عن الفساد من مآسي في الخدمات العامة إلى مطالب وطنية أعادت تحويل البشر المبعثرين بين المذاهب والمِلـَلْ إلى مواطنين يشكون من نفس المظالم بغض النظر عن أصولهم العرقية أو إنتماآتهم المذهبية .
وهذا تحديداً ما يجري الآن في كل من العراق ولبنان والذي جعل شعوبها ترفع مرة أخرى شعارات جامعة تستند إلى معاناة الوطن والمواطنين أولاً .
إن إعادة اللـُحمة الوطنية تحت وطأة المعاناة الشاملة الناتجة عن الفساد هي عملية نقيضة للمطرقة التي عملت لسنوات على تكسير اللـُحمة الوطنية وإذاَبـِتها في مستنقع المذهبية والطائفية والتعصب والتطرف . وهذا قد يـُثبت أن عوامل اللـُحمة داخل المجتمعات المقهورة ما تزال فاعلة ، وربما قادرة على إعادة بعث الأمة وإصلاح ما دمرته الأحداث ومن يقف وراءها من قوى أجنبية ومحلية تسعى إلى تفكيك دول المنطقة .
الفساد المستشري المستند إلى جبروت وظلم القوى الحاكمة وإحتقارها للشعوب التي تحكمها والتي فشلت في الدفاع عن وجودها ومصالحها قد يوفر القاعدة المطلوبة لطرح برنامج وطني جديد ومطالب وطنية تسمو فوق المطالب المذهبية أو الطائفية .
لبنان يتظاهر الآن ضد الفساد وضد تناحر القيادات الحاكمة وغيابها عن إدارة شؤون الدولة . والمتظاهرون اللبنانيون يرفضون أي مساهمة قادمة من الأحزاب المنبثقة عن تلك القيادات ويطرحون مطالب وطنية للأصلاح ومكافحة الفساد بعيداً عن الطائفية والمذهبية التي دمرت لبنان . وكذلك هو الحال في العراق وبالنسبة للعراقيين . فبالرغم من طغيان بعض القوى الأقليمية على شؤون العراق ومساهمتها في العمل على تقسيمه مذهبياً ، فإن ردة فعل العراقيين للمعاناة والقهر والإهمال الشديدين لمتطلباتهم الأساسية وعدم قدرة قوى الفساد على إحترام تلك المتطلبات أو حتى العمل على تخفيف معاناة الناس ، وشمول تلك المعاناة للجميع دون تمييز ، قد ساهم بشكل فعال في دفع العراقيين للتصرف كمواطنين في طرحهم لمطالب محاربة الفساد والفاسدين ومظاهر الإسراف المفرط للمسؤولين والمطالبة بمحاكمتهم بغض النظر عن انتماءهم المذهبي .
من الواضح أن عوامل الإنتماء الوطني ما زالت قوية في المجتمعين العراقي واللبناني . وهذا يعطي مؤشراً على أن تلك العوامل سوف تطفو في المستقبل على السطح وتعيد بناء ما تم هدمه . وهذا لا يعني بالضرورة أن تعود الأمور إلى سابق عهدها وكما كانت ، ولكنها بالتأكيد سوف تكون بعيدة عن مفهوم التفتيت العبثي الذي تسير فيه الأمور الآن في العديد من الدول العربية .
المستقبل قد لا يكون بالضرورة مشرقاً في بعده الرومانسي ولكنه قد يكون أفضل بكثير مما نحن فيه الآن وما يريده الآخرون لنا من تفتيت وتيه وضياع .