jo24_banner
jo24_banner

المجتمع ..سلطة المنافسة أو الضياع

المجتمع ..سلطة المنافسة أو الضياع
جو 24 : اضطر، وبالأحرى، أجبر العالم البريطاني، ريتشارد دوكنز على الاعتذار عن تصريحاته التي أطلقها سابقاً بخصوص وصفه إنجاب أطفال مصابين بمتلازمة داون بالعمل غير الأخلاقي، وكان نخبة من أساتذة الأخلاق يرون أن العالم المتحذلق لم يكن أصلاً ليحقق النجاح في مساق الفلسفة التأسيسي في الجامعات نظراً لإصداره ذلك الحكم على الوجه القطعي فيما يعتبر سخرية لاذعة من دوكنز الذي اعتاد أن يقتحم المسائل الفلسفية من موقعه كمتخصص في علم الأحياء، وتمكنت قوى اجتماعية كثيرة من الوقوف في وجه ما يمثله دوكنز من سلطة رمزية في الأوساط الأكاديمية، ولكن تصريحات دوكنز وردود الفعل الساخطة كانت مجرد جولة من معركة من غير المتوقع أن تنتهي قريباً.
الداروينية الاجتماعية تعتبر عنوانا لواحدة من الصراعات الجارية في العالم، والجميع بشكل أو بآخر يقترب من ساحة هذه المعركة، فمسألة ترجمة نظريات داروين من مجالها في علم الأحياء إلى إدارة المجتمع تشتمل على إشكالية مبدئية بخصوص رؤية الكائن الإنساني لنفسه بعد تاريخ طويل على الأرض، فالعودة بما يعتبر تنظيماً اجتماعياً لنقطة القوانين التي تتحكم في مملكة الحيوان ليست بالتأكيد الأمر الذي تتطلع له الإنسانية، كما أنها ليست الوظيفة التي ادعتها لنفسها، ومع ذلك من المؤسف، أن نظرية البقاء للأفضل التي تعد من الأفكار الأساسية في نظرية داروين تتخذ بعدها الاجتماعي من خلال ممارسات يومية وحياتية متعددة، ولنقل أن التباين في مستوى الإيواء والتغذية والتعليم وحتى الترفيه بين الأطفال سينتج طبقات متفوقة مقابل أخرى عالقة في ظرف اجتماعي يضرب إنسانيتها في العمق.
الإنسانية التي تجبر طفلاً على الانبطاح على بطنه من أجل أن يشرب من مجرى ماء ملوث كما يحدث في افريقيا، أو تدفعه لأن يقف في طوابير للحصول على قطعة لحم لا يزيد وزنها عن خمسين جراماً في بنجلاديش، أو تصمت عن غرق طفل بطريقة مجانية ومفجعة حتى قبل أن يتشكل وعيه وتتبلور ذاكرته، هذه الإنسانية هي نتيجة الداروينية الاجتماعية التي عبرت عن نفسها في إطلاق غريزة المنافسة بين البشر في نفس المجتمع، فضلاً عما يجري بين المجتمعات المختلفة، لتكون عنواناً وحافزاً للوجود الإنساني، وتحولت المنافسة إلى قيمة تحرض على الاستهلاك للبحث عن الفرد الذي يتقدم دائماً لمكان أفضل من الناحية المادية، دون أن يكون بالضرورة هو الأفضل من حيث تحقيقه للرضا عن الذات، ومجتمع المنافسة يدفع أفراده للضغط على الأطفال من أجل تحقيق التفوق ليصبح ذلك غاية في حد ذاته، دون أن يكون ثمة ترجمة لدور التفوق فيما يحدث الفرق على المدى الأبعد.
الصراع هو كلمة السر في نظرة الإنسان لوجوده، والتعاون هو مجرد فكرة غائمة دون تحديد، فالمتعاونون عادة ما يفكرون بصورة آلية في المكتسبات التي سيحققها تعاونهم على المستوى الشخصي، على الأقل النسبة الكبرى من الذين يتبنون منهج التعاون في مواجهة التحديات المختلفة، والحلول لا يمكن أن تخرج من واقع محكوم بالتحريض على المنافسة ومبادئ التقييم المادية بوصفها معيارية اجتماعية قابلة للقياس، ولكن يجب اللجوء دائماً إلى أرضية أكثر اتساعاً من وجود الإنسان بوصفه طارئاً على الوجود، ولذلك فإن البشرية اليوم تدفع بالنزعة الروحية للمواجهة مع الداروينية الاجتماعية، فالجميع يبحث عن المعنى والقيمة لحياته الفردية، والمفارقة أن الداروينية الاجتماعية نفسها دفعت لإنتاج نمط من الممارسة الروحية القائمة على الأنانية، والذي يعتبره البعض مجرد محطة لشحن الطاقات لمعاودة الدخول مرة أخرى في المنافسة والتعامل مع ضغوطها ومعايشة عبثيتها.
المعركة ضد دوكنز مهمة، فبينما يحاول الكثيرون النضال من أجل حقوق الإنسان، فإن البعض يحاول أن يعيد الجميع إلى المربع الأول، وبحيث يصبح الحق في الحياة نفسها موضوعاً للأخذ والرد، وتحت دعاوى عدم قدرة البعض على العيش في عالم المنافسة وعدم قدرتهم على التلاؤم مع شروط الحياة وفق كتالوج دوكنز وشركاه.
الراي
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير