السكوت عن الجريمة جريمة.. الواقع العربي بين عيون نائمة ودموع لا تسيل
د. لبيب قمحاوي
جو 24 : في ظل غياب الشفافية والمساءلة وحرية تدفق المعلومات وتداولها يصبح أي قائد متسلط قادراً على إتخاذ قرار ما أو أكثر دون الشعور بالحاجة إلى تبريره أو حتى الإفصاح عنه . وهذا الوضع يفتح الباب أمام الإشاعات والأقاويل والإجتهادات . ولكن في المحصلة النهائية فإن حكم الفرد المتسلط هو السبب في كل هذا وذاك .
فحكم الفرد المتسلط في سوريا مثلاً وما يجري الآن فيها وبها هو إنعكاس لواقع الحال هذا . ولكن الوسائل والنتائج قد تختلف بإختلاف الإرادة الذاتية للشعوب وحجم التدخل الخارجي والمصالح المرافقة له . وبغض النظر عن ما يدعيه النظام السوري لنفسه من أمجاد وأدوار وطنية قد يدحضها واقع الحال ، فإن ذلك لا يعطي أي مبرر حتى ولو كان ما يزعمه الحاكم صحيحاً ، لأن يقوم هذا الحاكم الظالم المستبد بتدمير بلده وقتل وتشريد الملايين من أبناء شعبه مقابل البقاء في الحكم .
والأنكى من ذلك أنه يعتبر أن أي محاولة للتخلص منه هي مؤامرة على البلد التي يحكمها وأن بقاءه وإستمراره في الحكم هو ضمانة لأمن وإستمرار البلد التي يقوم هو نفسه بتدميره .
وحكم الفرد يأخذ أحياناً أبعاداً لامعقولة عندما يكون ذلك الحاكم الفرد المتسلط مثلاً قائداً لبلد محتل مثل فلسطين و متعـاوناً حتى النخاع مع دولة الإحتـلال .
عندها تتحول القرارات إلى مؤامرات والأفعال إلى خيانات أو ما يقاربها وينحرف المستشارون والمساعدون والمسؤولون عن القيام بدورهم الطبيعي كصمام أمان للوطن ومُوَجـِه للقائد للأبتعاد عن الخطأ ليتحولوا إلى جوقة من المصفقين والمؤيدين والمهللين وبالتأكيد المرتزقه اللذين يسعون إلى تحسين حظوظهم من خلال التأييد المطلق للحاكم الفرد مهما كانت عواقب ذلك التأييد .
وهكذا يصبح الوضع الفلسطيني مماثلاً للوضع العربي مع الفارق الكبير أن وضع السلطة الفلسطينية يصب مباشرة في مصلحة الإحتلال الإسرائيلي اللذي يبدوا مستمتعاً بل مندهشاً مما يجري حوله من عمليات إنتحار جماعي ذاتي عربي وفلسطيني لمصلحته إلى الحد الذي دفع أحد المسؤولين الإسرائيليين للتصريح لمسؤول عربي بأن إسرائيل تستطيع أن تنام بكل راحة بعد أن وضعت (أي إسرائيل) المنطقة في المسار الذي تريد ، أو كما قال ذلك المسؤول حرفياً في وصفه لوضع العرب "We have put them on auto – pilot " .
لا يستطيع العرب ومنهم السوريون والعراقيون والفلسطينيون أن يلوموا سوى أنفسهم على ما هم فيه من مآسي . ففشل هذه الأمة في التخلص من حكامها المتسلطين الجهلة الفاسدين إستفحل إلى الحد الذي مَكـﱠن معظمهم من الإستمرار في الحكم لعقود عديدة . هذا الفشل يعكس حالة متقدمة من تطور "أخلاق الهزيمة والإنكسار" التي لم تعد تنحصر في الفشل في التخلص من إحتلال الأجنبي أو نفوذه ، بل تطورت إلى نمو وإستفحال عوامل الهزيمة الذاتية التي تدفع بإتجاه القبول بالأمر الواقع إلى الحد الذي يدفع الحاكم إلى إحتقار شعبه والإستخفاف به وبمشاعره ومصالحه ومتطلباته دون أي شعور بالقلق بأن ذلك يمكن أن يدفع الشعب إلى الثورة . والتراث العربي الإسلامي الذي يدعو إلى إطاعة أولي الأمر ساهم في تفاقم هذا الوضع وأعطى الحاكم المستبد غطاء شرعياً إضافياً لفرض الطاعة العمياء على شعبه وتكفير أي محاولة للتخلص منه بإعتبارها تتعارض وحكم الشريعة في الطاعة المطلقة لأولي الأمر .
وفي المقابل ، يحاول بعض العرب المسلمين العودة بالأمة إلى العصور الوسطى بل وما قبلها في محاولة يائسة وبائـسة للبحث عن الذات أو عن مخرج لما هم فيه .
إن العودة إلى الأصول تفقد معناها الإيجابي إذا كان الهدف منها العودة بالزمن مئات أو آلاف السنين إلى الوراء ووقف عقارب الساعة وإعتبار التقدم التكنولوجي والحضاري أعداءً للموروث الديني والحضاره الدينية المرتبطة به والتي تم العمل على تجميدها كما كان عليه الحال منذ البدايات قبل ألف وأربعمائة عام أو ما يزيد .
من المفروض أن التكرار يـُعَلـﱢم من هم غير قادرين على التعلم والإستيعاب . ولكن الجلوس بإنتظار حصول ما هو أسوأ قد أصبح أحد سمات شعوب المنطقة . ونظراً لتكرار الضربات الموجهة لهذه المنطقة ، أصبحت شعوب المنطقة أسيرة لسياسة الترقب والأنتظار عوضاً عن الرفض ومحاولة تغيير الأمر الواقع بل والثورة عليه .
إن تغيير الأمر الواقع السئ هو القوة المحركة لما يجري الآن في لبنان والعراق . وهو إنعطافاً عن السياق الذي تجري فيه الأمور في كلا البلدين . وهذا إذا ما قدر له أن يستمر قد يؤدي بالنتيجة إلى التوقف عن الإنحدار نحو عصر إمارات الطوائف والمذاهب بل والإطاحة به وبالمفاهيم البالية التي يستند إليها ويدعمها إلى الحد الذي أصبحت فيه تلك المفاهيم أساس النظام السياسي لتلك البلدان .
ولبنان إذا ما كلن قديماً في هذا السياق والعراق إذا ما كان جديداً ، فإن عوامل التغيير الأخيرة تبدوا واحدة بالنسبة لكليهما . ومن الواضح أن عوامل التغيير تلك هي داخلية وغير سياسية تتعلق بالخدمات العامة التي يطمح إليها شعبي البلدين . وقد تصبح القضايا البيئية والخدمية هي البديل للقضايا السياسية في تحديد مواقف الشعوب تجاه حكامها وحكوماتها . وبالأضافة ، قد تصبح تلك القضايا هي أساس اللحمة الوطنية الجديدة كون المطالب الخدمية تمس الجميع بنفس القوة ولا ينجو منها إلا القلة القليلة جداً من أصحاب النفوذ ولا ينطبق عليها أي تصنيف طائفي أو مذهبي أو عرقي .
جبروت العرب على أنفسهم أمر يدعو إلى العجب ويتطلب دراسة مستفيضة خصوصاً وأن الأعراب ، ولا أقول العرب ، كانوا في ماضيهم أهل جبن وبخل وغدر ومن هنا فـَرَضَ الإسلام عليهم الجهاد والزكاة وإحترام حق الجوار . ومع ذلك إستمر الأعراب فيما كانوا عليه منذ أيام الرسول حتى الآن وأثبتوا بالفعل أن "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" . وما يجري الآن في اليمن من قتل وتدمير لبلد عربي بأيدي عربية ولأسباب ما زالت مجهولة ، وإن كان إستنباطها أمراً ليس بالصعب ، يعطي مؤشراً واضحاً على المدى الذي وصلت إليه أخلاق الحكام الأعراب في التعامل مع بعضهم البعض وفي كيفية حل المشاكل فيما بينهم، أو إلى درجة الإنصياع لأرادة الأجنبي التي وصل إليها أولئك الحكام .
إن ما يجري الآن من تضخيم إعلامي غربي لموضوع اللاجئين السوريين أمراً يبعث على التساؤل . فهل تهدف هذه الحملة الأعلامية إلى تشجيع السوريين على مزيد من الهجرة إلى أوروبا في الوقت الذي تغمض فيه أوروبا وأمريكا عيونها عما يجري من قتل عبثي ممنهج للشعب اليمني وقتل للسوريين وتدمير للبنية التحتية للوطن السوري على يد النظام السوري وكذلك تدمير التراث الإنساني في سوريا والعراق على يد منظمة داعش . وكـذلك الحال في فلسطين والعراق وليبيا حيث لا يوجد أي موقف إنساني حقيقي صادر عن الغرب تجاه المعاناة الإنسانية لشعـوب تلك الدول .
الدعوة إلى إستيعاب اللاجئين السوريين في أوروبا على أسس إنسانية قد لا يكون في حقيقته عملاً إنسانياً بحتاً . وتحويل أصابع الإتهام إلى داعش حصرياً قد يكون فعل حق يراد به باطل . موضوع اللاجئين السوريين ليس جديداً وليس وليد ساعة لجوئهم إلى أوروبا . الجديد هو الموقف الإعلامي الدولي وكذلك موقف أوروبا منهم والذي يأتي بمثابة صحوة مفاجئة لا تنسجم والأرقام المعلنة عن عدد اللاجئين ، بل تأتي مُضَخِمَةً لتلك الأرقام ومُرتبـِطـَةً بسياسة أوروبية يتم الترويج لها وتدعوا إلى الهجوم على داعش كعذر في حين أن الهدف الحقيقي المبطن قد يكون محاولة تجاوز المعارضة الروسية لأي عمل عسكري يهدف إلى التخلص من الأسد . فما نحن مقدمون عليه إذاً قد يؤشر إلى استراتيجية جديدة تهدف إلى الحسم في قضايا غير محسومة حتى الآن تمس العرب ووجودهم ومستقبلهم سواء في سوريا أو العراق أو فلسطين أو اليمن أو لبنان أو ليبيا .
أما الأمر الجديد والهام فقد يؤشر على تحول قضية اللاجئين إلى مشروع نزوح ديموغرافي كبير لمعالجة الخلل السكاني في بعض أقطار أوروبا الرئيسية مثل ألمانيا بهدف معالجة مواطن الضعف في تركيبة بعض المجتمعات الأروربية والنقص الحاد لديها في المواليد الجدد ، مما جعل تلك المجتمعات "هـَرِمَة" بشكل أصبح يهدد نموها الأقتصادي . وهذا إذا ما أخذ مداه ، فإنه قد يؤدي إلى أعادة بناء مجتمعات أوروبية شاخت وقـَدِمَتْ من خلال دماء جديدة لمهاجرين من دول أخرى دون أي إعتبار للدين أو اللغة أو الثقافه ، بل السن والتحصيل العلمي والقدرة على العمل والأنتاج .
إن التعامل مع مشاكل الوطن العربي بالقطعة هي سياسة الأنظمة العربية في حين أن التعامل معها من منظور جماعي واحد بهدف الإنقضاض عليها أو إعادة تشكيلها هي سياسة أمريكا والغرب . فتفتيت المنطقة وتحويل شعوبها إلى فرق متناحرة هو المدخل الأمريكي والغربي لتفتيت وتدمير الوطن العربي ككل وتحويله إلى أراض ٍ وبشر بلا هوية حقيقية .
وتطبيق سياسة المقص في تقطيع دول عربية قائمة إلى دويلات طائفية ومذهبية هي سياسة دولية يتم تنفيذها بالتواطؤ مع بعض الحكام العرب في تآمرهم المقصود على دول عربية أخرى متناسين الحكمه العربية القديمة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض" .
إنتصارات الآخرين على العرب هي في أصولها هزيمة العرب لأنفسهم . وهذا يتجلى في صور عديدة وأشكال مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر سقوط القضية الفلسطينية من الإهتمام العربي والتطبيع العربي المجاني مع إسرائيل بحجة الإنتقام من هذا الموقف أو ذاك للقيادة الفلسطينية تجاه هذا الحاكم العربي أو ذاك . إن فشل الحكام العرب في الفصل بين موقفهم تجاه القيادة الفلسطينية وموقفهم تجاه القضية الفلسطينية ، الذي يجب أن يبقى ثابتاً وصلباً ، كارثي بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية وللمصالح العربية لأن إسرائيل في نهاية المطاف هي عدو العرب ومصالحهم حتى وإن كان بعض العرب يصنفها بسذاجة بأنها قوة الإحتلال لفلسطين وكأن الأمر لا يعني العرب أو يشكل تهديداً لهم .
هذا هو الوضع المثالي لفرض سياسة إلغاء القضية الفلسطينية وتصفيتها بأيدي فلسطينية وقبول عربي يُخلي إسرائيل والغرب من أي مسؤولية أخلاقية عما سيحل بالفلسطينيين من جراء ذلك . وكما أن القضية الفلسطينية سيتم تصفيتها بأيدي فلسطينية ، فإن سوريا سيتم تدميرها بأيادي عربية سورية وإسلامية داعشية ، في حين أن العراق يسير بخطىً حثيثة في مثل ذلك الإتجاه وتلك الوسيلة بعد أن تم عزل أكراد العراق عن ذلك حتى تنحصر مسؤولية تدمير العراق بأيدي عربية مذهبية وأيدي إسلامية داعشية . وفي السياق نفسه يتم تدمير التراث الحضاري الأنساني لكلا البلدين بأيدي عربية إسلامية وبتجاهل غربي وأمريكي واضح .
إن غياب المؤسسات وتقديس الفرد جعل من العرب أمة تؤمن بالفردية ولا تعرف معنى العمل الجماعي أو المؤسسي ، وهذا وضع أقرب ما يكون إلى الجهل السياسي الذي يحول الأمة إلى قطيع من الأغنام يقودها راعي واحد .
المسار إذاً أصبح أكثر وضوحاً ، فالتفتيت قادم والتدمير حاصل ولكن بإرادة أجنبية وبأيدي محليه وأقليمية عربية وإسلامية تجعل من الضحية والمتهم إمـﱠا عربياً أوإسلامياً أو كلاهما في كل الأحوال .
مشكلة العرب والفلسطينيين منهم هي من داخلهم ولا داعي لمحاولة البحث عن عذر خارجي لتبرير الأخطاء الداخلية . وعندما تمتلك الشعوب العربية الشجاعة للأقرار بذلك الواقع المرير والعمل على تغييره ، فإن ذلك سوف يشكل بداية التغيير نحو الأفضل .
فحكم الفرد المتسلط في سوريا مثلاً وما يجري الآن فيها وبها هو إنعكاس لواقع الحال هذا . ولكن الوسائل والنتائج قد تختلف بإختلاف الإرادة الذاتية للشعوب وحجم التدخل الخارجي والمصالح المرافقة له . وبغض النظر عن ما يدعيه النظام السوري لنفسه من أمجاد وأدوار وطنية قد يدحضها واقع الحال ، فإن ذلك لا يعطي أي مبرر حتى ولو كان ما يزعمه الحاكم صحيحاً ، لأن يقوم هذا الحاكم الظالم المستبد بتدمير بلده وقتل وتشريد الملايين من أبناء شعبه مقابل البقاء في الحكم .
والأنكى من ذلك أنه يعتبر أن أي محاولة للتخلص منه هي مؤامرة على البلد التي يحكمها وأن بقاءه وإستمراره في الحكم هو ضمانة لأمن وإستمرار البلد التي يقوم هو نفسه بتدميره .
وحكم الفرد يأخذ أحياناً أبعاداً لامعقولة عندما يكون ذلك الحاكم الفرد المتسلط مثلاً قائداً لبلد محتل مثل فلسطين و متعـاوناً حتى النخاع مع دولة الإحتـلال .
عندها تتحول القرارات إلى مؤامرات والأفعال إلى خيانات أو ما يقاربها وينحرف المستشارون والمساعدون والمسؤولون عن القيام بدورهم الطبيعي كصمام أمان للوطن ومُوَجـِه للقائد للأبتعاد عن الخطأ ليتحولوا إلى جوقة من المصفقين والمؤيدين والمهللين وبالتأكيد المرتزقه اللذين يسعون إلى تحسين حظوظهم من خلال التأييد المطلق للحاكم الفرد مهما كانت عواقب ذلك التأييد .
وهكذا يصبح الوضع الفلسطيني مماثلاً للوضع العربي مع الفارق الكبير أن وضع السلطة الفلسطينية يصب مباشرة في مصلحة الإحتلال الإسرائيلي اللذي يبدوا مستمتعاً بل مندهشاً مما يجري حوله من عمليات إنتحار جماعي ذاتي عربي وفلسطيني لمصلحته إلى الحد الذي دفع أحد المسؤولين الإسرائيليين للتصريح لمسؤول عربي بأن إسرائيل تستطيع أن تنام بكل راحة بعد أن وضعت (أي إسرائيل) المنطقة في المسار الذي تريد ، أو كما قال ذلك المسؤول حرفياً في وصفه لوضع العرب "We have put them on auto – pilot " .
لا يستطيع العرب ومنهم السوريون والعراقيون والفلسطينيون أن يلوموا سوى أنفسهم على ما هم فيه من مآسي . ففشل هذه الأمة في التخلص من حكامها المتسلطين الجهلة الفاسدين إستفحل إلى الحد الذي مَكـﱠن معظمهم من الإستمرار في الحكم لعقود عديدة . هذا الفشل يعكس حالة متقدمة من تطور "أخلاق الهزيمة والإنكسار" التي لم تعد تنحصر في الفشل في التخلص من إحتلال الأجنبي أو نفوذه ، بل تطورت إلى نمو وإستفحال عوامل الهزيمة الذاتية التي تدفع بإتجاه القبول بالأمر الواقع إلى الحد الذي يدفع الحاكم إلى إحتقار شعبه والإستخفاف به وبمشاعره ومصالحه ومتطلباته دون أي شعور بالقلق بأن ذلك يمكن أن يدفع الشعب إلى الثورة . والتراث العربي الإسلامي الذي يدعو إلى إطاعة أولي الأمر ساهم في تفاقم هذا الوضع وأعطى الحاكم المستبد غطاء شرعياً إضافياً لفرض الطاعة العمياء على شعبه وتكفير أي محاولة للتخلص منه بإعتبارها تتعارض وحكم الشريعة في الطاعة المطلقة لأولي الأمر .
وفي المقابل ، يحاول بعض العرب المسلمين العودة بالأمة إلى العصور الوسطى بل وما قبلها في محاولة يائسة وبائـسة للبحث عن الذات أو عن مخرج لما هم فيه .
إن العودة إلى الأصول تفقد معناها الإيجابي إذا كان الهدف منها العودة بالزمن مئات أو آلاف السنين إلى الوراء ووقف عقارب الساعة وإعتبار التقدم التكنولوجي والحضاري أعداءً للموروث الديني والحضاره الدينية المرتبطة به والتي تم العمل على تجميدها كما كان عليه الحال منذ البدايات قبل ألف وأربعمائة عام أو ما يزيد .
من المفروض أن التكرار يـُعَلـﱢم من هم غير قادرين على التعلم والإستيعاب . ولكن الجلوس بإنتظار حصول ما هو أسوأ قد أصبح أحد سمات شعوب المنطقة . ونظراً لتكرار الضربات الموجهة لهذه المنطقة ، أصبحت شعوب المنطقة أسيرة لسياسة الترقب والأنتظار عوضاً عن الرفض ومحاولة تغيير الأمر الواقع بل والثورة عليه .
إن تغيير الأمر الواقع السئ هو القوة المحركة لما يجري الآن في لبنان والعراق . وهو إنعطافاً عن السياق الذي تجري فيه الأمور في كلا البلدين . وهذا إذا ما قدر له أن يستمر قد يؤدي بالنتيجة إلى التوقف عن الإنحدار نحو عصر إمارات الطوائف والمذاهب بل والإطاحة به وبالمفاهيم البالية التي يستند إليها ويدعمها إلى الحد الذي أصبحت فيه تلك المفاهيم أساس النظام السياسي لتلك البلدان .
ولبنان إذا ما كلن قديماً في هذا السياق والعراق إذا ما كان جديداً ، فإن عوامل التغيير الأخيرة تبدوا واحدة بالنسبة لكليهما . ومن الواضح أن عوامل التغيير تلك هي داخلية وغير سياسية تتعلق بالخدمات العامة التي يطمح إليها شعبي البلدين . وقد تصبح القضايا البيئية والخدمية هي البديل للقضايا السياسية في تحديد مواقف الشعوب تجاه حكامها وحكوماتها . وبالأضافة ، قد تصبح تلك القضايا هي أساس اللحمة الوطنية الجديدة كون المطالب الخدمية تمس الجميع بنفس القوة ولا ينجو منها إلا القلة القليلة جداً من أصحاب النفوذ ولا ينطبق عليها أي تصنيف طائفي أو مذهبي أو عرقي .
جبروت العرب على أنفسهم أمر يدعو إلى العجب ويتطلب دراسة مستفيضة خصوصاً وأن الأعراب ، ولا أقول العرب ، كانوا في ماضيهم أهل جبن وبخل وغدر ومن هنا فـَرَضَ الإسلام عليهم الجهاد والزكاة وإحترام حق الجوار . ومع ذلك إستمر الأعراب فيما كانوا عليه منذ أيام الرسول حتى الآن وأثبتوا بالفعل أن "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً" . وما يجري الآن في اليمن من قتل وتدمير لبلد عربي بأيدي عربية ولأسباب ما زالت مجهولة ، وإن كان إستنباطها أمراً ليس بالصعب ، يعطي مؤشراً واضحاً على المدى الذي وصلت إليه أخلاق الحكام الأعراب في التعامل مع بعضهم البعض وفي كيفية حل المشاكل فيما بينهم، أو إلى درجة الإنصياع لأرادة الأجنبي التي وصل إليها أولئك الحكام .
إن ما يجري الآن من تضخيم إعلامي غربي لموضوع اللاجئين السوريين أمراً يبعث على التساؤل . فهل تهدف هذه الحملة الأعلامية إلى تشجيع السوريين على مزيد من الهجرة إلى أوروبا في الوقت الذي تغمض فيه أوروبا وأمريكا عيونها عما يجري من قتل عبثي ممنهج للشعب اليمني وقتل للسوريين وتدمير للبنية التحتية للوطن السوري على يد النظام السوري وكذلك تدمير التراث الإنساني في سوريا والعراق على يد منظمة داعش . وكـذلك الحال في فلسطين والعراق وليبيا حيث لا يوجد أي موقف إنساني حقيقي صادر عن الغرب تجاه المعاناة الإنسانية لشعـوب تلك الدول .
الدعوة إلى إستيعاب اللاجئين السوريين في أوروبا على أسس إنسانية قد لا يكون في حقيقته عملاً إنسانياً بحتاً . وتحويل أصابع الإتهام إلى داعش حصرياً قد يكون فعل حق يراد به باطل . موضوع اللاجئين السوريين ليس جديداً وليس وليد ساعة لجوئهم إلى أوروبا . الجديد هو الموقف الإعلامي الدولي وكذلك موقف أوروبا منهم والذي يأتي بمثابة صحوة مفاجئة لا تنسجم والأرقام المعلنة عن عدد اللاجئين ، بل تأتي مُضَخِمَةً لتلك الأرقام ومُرتبـِطـَةً بسياسة أوروبية يتم الترويج لها وتدعوا إلى الهجوم على داعش كعذر في حين أن الهدف الحقيقي المبطن قد يكون محاولة تجاوز المعارضة الروسية لأي عمل عسكري يهدف إلى التخلص من الأسد . فما نحن مقدمون عليه إذاً قد يؤشر إلى استراتيجية جديدة تهدف إلى الحسم في قضايا غير محسومة حتى الآن تمس العرب ووجودهم ومستقبلهم سواء في سوريا أو العراق أو فلسطين أو اليمن أو لبنان أو ليبيا .
أما الأمر الجديد والهام فقد يؤشر على تحول قضية اللاجئين إلى مشروع نزوح ديموغرافي كبير لمعالجة الخلل السكاني في بعض أقطار أوروبا الرئيسية مثل ألمانيا بهدف معالجة مواطن الضعف في تركيبة بعض المجتمعات الأروربية والنقص الحاد لديها في المواليد الجدد ، مما جعل تلك المجتمعات "هـَرِمَة" بشكل أصبح يهدد نموها الأقتصادي . وهذا إذا ما أخذ مداه ، فإنه قد يؤدي إلى أعادة بناء مجتمعات أوروبية شاخت وقـَدِمَتْ من خلال دماء جديدة لمهاجرين من دول أخرى دون أي إعتبار للدين أو اللغة أو الثقافه ، بل السن والتحصيل العلمي والقدرة على العمل والأنتاج .
إن التعامل مع مشاكل الوطن العربي بالقطعة هي سياسة الأنظمة العربية في حين أن التعامل معها من منظور جماعي واحد بهدف الإنقضاض عليها أو إعادة تشكيلها هي سياسة أمريكا والغرب . فتفتيت المنطقة وتحويل شعوبها إلى فرق متناحرة هو المدخل الأمريكي والغربي لتفتيت وتدمير الوطن العربي ككل وتحويله إلى أراض ٍ وبشر بلا هوية حقيقية .
وتطبيق سياسة المقص في تقطيع دول عربية قائمة إلى دويلات طائفية ومذهبية هي سياسة دولية يتم تنفيذها بالتواطؤ مع بعض الحكام العرب في تآمرهم المقصود على دول عربية أخرى متناسين الحكمه العربية القديمة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض" .
إنتصارات الآخرين على العرب هي في أصولها هزيمة العرب لأنفسهم . وهذا يتجلى في صور عديدة وأشكال مختلفة منها على سبيل المثال لا الحصر سقوط القضية الفلسطينية من الإهتمام العربي والتطبيع العربي المجاني مع إسرائيل بحجة الإنتقام من هذا الموقف أو ذاك للقيادة الفلسطينية تجاه هذا الحاكم العربي أو ذاك . إن فشل الحكام العرب في الفصل بين موقفهم تجاه القيادة الفلسطينية وموقفهم تجاه القضية الفلسطينية ، الذي يجب أن يبقى ثابتاً وصلباً ، كارثي بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية وللمصالح العربية لأن إسرائيل في نهاية المطاف هي عدو العرب ومصالحهم حتى وإن كان بعض العرب يصنفها بسذاجة بأنها قوة الإحتلال لفلسطين وكأن الأمر لا يعني العرب أو يشكل تهديداً لهم .
هذا هو الوضع المثالي لفرض سياسة إلغاء القضية الفلسطينية وتصفيتها بأيدي فلسطينية وقبول عربي يُخلي إسرائيل والغرب من أي مسؤولية أخلاقية عما سيحل بالفلسطينيين من جراء ذلك . وكما أن القضية الفلسطينية سيتم تصفيتها بأيدي فلسطينية ، فإن سوريا سيتم تدميرها بأيادي عربية سورية وإسلامية داعشية ، في حين أن العراق يسير بخطىً حثيثة في مثل ذلك الإتجاه وتلك الوسيلة بعد أن تم عزل أكراد العراق عن ذلك حتى تنحصر مسؤولية تدمير العراق بأيدي عربية مذهبية وأيدي إسلامية داعشية . وفي السياق نفسه يتم تدمير التراث الحضاري الأنساني لكلا البلدين بأيدي عربية إسلامية وبتجاهل غربي وأمريكي واضح .
إن غياب المؤسسات وتقديس الفرد جعل من العرب أمة تؤمن بالفردية ولا تعرف معنى العمل الجماعي أو المؤسسي ، وهذا وضع أقرب ما يكون إلى الجهل السياسي الذي يحول الأمة إلى قطيع من الأغنام يقودها راعي واحد .
المسار إذاً أصبح أكثر وضوحاً ، فالتفتيت قادم والتدمير حاصل ولكن بإرادة أجنبية وبأيدي محليه وأقليمية عربية وإسلامية تجعل من الضحية والمتهم إمـﱠا عربياً أوإسلامياً أو كلاهما في كل الأحوال .
مشكلة العرب والفلسطينيين منهم هي من داخلهم ولا داعي لمحاولة البحث عن عذر خارجي لتبرير الأخطاء الداخلية . وعندما تمتلك الشعوب العربية الشجاعة للأقرار بذلك الواقع المرير والعمل على تغييره ، فإن ذلك سوف يشكل بداية التغيير نحو الأفضل .