المياه على المريخ .. وبعد
جو 24 : عاد كوكب المريخ ليكون محور الاهتمام بعد إعلان إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) اكتشافها وجود الماء السائل على سطحه، فما أهمية هذا الاكتشاف علميا؟ وهل زاد في احتمال وجود حياة مجهرية على سطحه؟ وهل أصبح استيطان هذا الكوكب أكثر يسرا؟ وبالتالي هل يعجل مستقبلا بإنجاز رحلة مأهولة نحوه؟
فبعد خمسين عاما من إرسال أول مركبة تصل للمريخ -وهي مارينر 4- لأولى الصور المقربة لسطح الكوكب (في يوليو/تموز 1965) تُظهر وجود العديد من الحفر والقنوات الطبيعية دون دليل على وجود ماء متدفق، أعلنت وكالة ناسا عن اكتشافها لأدلة على وجود مياه سائلة على الكوكب الأحمر، وذلك بعد التوصل إلى حل لغز الندوب الطبوغرافية التي تحمل بصمات تدفق الماء والمكتشفة منذ سنوات بفضل المسبار كيريوسيتي.
ما اكتشف لم يكن نهرا أو بحيرة من المياه العذبة كما يمكن أن يتصوره البعض، بل مياه مشبعة بأنواع من الملح تسمح لها بالبقاء في حالة سائلة في فترات "الدفء" من السنة المريخية، مما يسمح لها بالانسياب البطيء على جوانب الانحدارات المتشكلة حول الحفر النيزكية المنتشرة على سطح الكوكب الأحمر.
مصدر الماء
ومسألة وجود الماء السائل كانت مطروحة منذ سنوات عديدة، لكن دون دليل علمي، خاصة أن درجة الحرارة على سطح المريخ تتراوح في أقصاها بين 35 درجة مئوية و143 درجة تحت الصفر، والضغط الجوي لا يتجاوز بضعة أجزاء من الألف من مثيله على الأرض. وهذه ظروف تجعل الماء يمر مباشرة من الحالة الصلبة إلى التبخر، ولا يسمح بوجود الماء في صورة سائلة. غير أن الأمر يصبح ممكنا في حدود معينة إذا كانت المياه تحتوي على تركيبة معقدة من الأملاح الذائبة كسيلفاتات الحديد وأملاح الصوديوم والأمونيوم.
وجود آثار لجريان المياه على منحدرات هضاب المريخ دفع لاكتشاف وجود مياه على سطحه (الأوروبية)
وحسب المقال الصادر في دورية "نيتشر جيوساينس" المتضمن لتفاصيل ما أعلنته ناسا فإن مصدر هذه المياه قد يكون الغلاف الجوي للمريخ، إذ تقوم مركبات الكلورات والبيركلورات (المستعملة لمنع تكون الجليد في الطرقات وكذلك لمنع التكثف داخل الغرف شديدة الرطوبة) بالتقاط جزيئات الماء من الجو بكمية كافية تمكن من السيلان البطيء على جوانب المنحدرات. وتمتد هذه السيول على بضع مئات الأمتار طولا وبضعة أمتار عرضا، أما سمكها فلا يتجاوز السنتيمترات القليلة.
هل هناك حياة؟
لكن يبقى السؤال الأهم، وهو هل يمكن أن تتشكل أحد مظاهر الحياة المجهرية في هذه البيئة؟ الإجابة ما زالت غير يقينية. فرغم أن دراسة علمية أجريت سابقا في صحراء أتكاما في تشيلي بينت إمكانية بقاء أنواع من البكتيريا المقاومة للبيئات القاسية للغاية في محاليل الكلورات وفي درجات حرارة متدنية، فإن إمكانية بقائها في ظل ظروف قاسية كتلك الموجودة على كوكب المريخ ما زالت تحتاج إلى دليل.
ورغم الهالة الإعلامية التي أحاطت الإعلان عن هذا الاكتشاف فإن مسألة وجود الماء في شكل سائل مطروحة منذ سنوات في الأوساط العلمية. ففي سنة 2011 نشر باحثون من جامعة توسكون في أريزونا ملاحظات استقوها بفضل المسبار المداري "مارس روكونيسونس أوربتر" والتي تبين وجود سيول فصلية وخلصوا إلى أنها تحدث بفعل المياه السائلة، لكنهم لم يقدموا دليلا علميا على ذلك، وبالتالي فإن ما توصل إليه الباحثون مؤخرا لم يكن مفاجأة، وكان محتملا جدا حسب الدراسات العلمية السابقة.
قنوات مياه بعرض يتراوح بين متر وعشرة أمتار في صورة لمنطقة على سطح المريخ التقطها المسبار المداري روكونيسونس (رويترز)
إلا أنه من المتوقع أن يحدد هذا الاكتشاف أولويات جديدة في خطط تنفيذ البرامج العلمية الموجهة لكوكب المريخ بتكثيف الجهود في اتجاه الكشف على مزيد من مصادر المياه والبحث عن احتمال وجود حياة مجهرية على سطحه وإرسال مسابير إلى الأماكن التي توجد بها مياه سائلة مع تجنب تلويثها بالكائنات المجهرية الأرضية.
لكنه من ناحية ثانية لن يكون له تأثير هام على مشاريع القيام برحلات مأهولة إلى المريخ واستيطانه في مرحلة ثانية، وهي مشاريع من المتوقع إنجازها في أفق 2030، لأن المياه المكتشفة لا يمكن أن تكون كميا ولا نوعيا قابلة للاستهلاك أو الاستغلال، فكمياتها قليلة وتركيزها الملحي عال جدا، علاوة على كون الظروف المناخية على الكوكب الأحمر لا تسمح ببقاء المياه الصافية في حالة سائلة.
لقد اختارت ناسا الإعلان عن الاكتشاف عبر مؤتمر صحفي حشدت له قبل أيام من عقده أبرز وسائل الإعلام العالمية والأميركية، وكان بإمكانها الاكتفاء بنشر المقال العلمي الذي قدم تفاصيل الاكتشاف في الدورة العلمية "نيتشر جيوساينس"، رغم علمها بأن ما توصلت إليه من نتائج قد لا يعده الكثيرون في الأوساط العلمية من فئة الاكتشافات البالغة الأهمية.
وهذا الاختيار حسب العديد من الملاحظين كان مقصودا بحد ذاته من الوكالة التي تملك العديد من البرامج الموجهة للمريخ أكثر الكواكب شبها بالأرض، منها برنامج "فاسيمر" لتطوير محرك صاروخ يعمل بالبلازما وبإمكانه اختصار الرحلة بين الكوكبين إلى 39 يوما عوضا عن ستة أشهر بالتقنيات المتوفرة حاليا، إضافة إلى مشاريع عديدة أخرى. وهي برامج تحتاج الوكالة لتنفيذها الحصول على تمويلات كافية من دافع الضرائب الأميركي.
قد لا يكون المريخ جافا ولا كوكبا قاحلا كما قال مدير معهد الفضاء في ناسا جيم غرين، لكنه لا يحتوي ما يكفي من الماء السائل للجزم بإمكانية تطور الحياة عليه مستقبلا وجعله أكثر ملاءمة للاستيطان البشري.
المصدر : الجزيرة
فبعد خمسين عاما من إرسال أول مركبة تصل للمريخ -وهي مارينر 4- لأولى الصور المقربة لسطح الكوكب (في يوليو/تموز 1965) تُظهر وجود العديد من الحفر والقنوات الطبيعية دون دليل على وجود ماء متدفق، أعلنت وكالة ناسا عن اكتشافها لأدلة على وجود مياه سائلة على الكوكب الأحمر، وذلك بعد التوصل إلى حل لغز الندوب الطبوغرافية التي تحمل بصمات تدفق الماء والمكتشفة منذ سنوات بفضل المسبار كيريوسيتي.
ما اكتشف لم يكن نهرا أو بحيرة من المياه العذبة كما يمكن أن يتصوره البعض، بل مياه مشبعة بأنواع من الملح تسمح لها بالبقاء في حالة سائلة في فترات "الدفء" من السنة المريخية، مما يسمح لها بالانسياب البطيء على جوانب الانحدارات المتشكلة حول الحفر النيزكية المنتشرة على سطح الكوكب الأحمر.
مصدر الماء
ومسألة وجود الماء السائل كانت مطروحة منذ سنوات عديدة، لكن دون دليل علمي، خاصة أن درجة الحرارة على سطح المريخ تتراوح في أقصاها بين 35 درجة مئوية و143 درجة تحت الصفر، والضغط الجوي لا يتجاوز بضعة أجزاء من الألف من مثيله على الأرض. وهذه ظروف تجعل الماء يمر مباشرة من الحالة الصلبة إلى التبخر، ولا يسمح بوجود الماء في صورة سائلة. غير أن الأمر يصبح ممكنا في حدود معينة إذا كانت المياه تحتوي على تركيبة معقدة من الأملاح الذائبة كسيلفاتات الحديد وأملاح الصوديوم والأمونيوم.
وجود آثار لجريان المياه على منحدرات هضاب المريخ دفع لاكتشاف وجود مياه على سطحه (الأوروبية)
وحسب المقال الصادر في دورية "نيتشر جيوساينس" المتضمن لتفاصيل ما أعلنته ناسا فإن مصدر هذه المياه قد يكون الغلاف الجوي للمريخ، إذ تقوم مركبات الكلورات والبيركلورات (المستعملة لمنع تكون الجليد في الطرقات وكذلك لمنع التكثف داخل الغرف شديدة الرطوبة) بالتقاط جزيئات الماء من الجو بكمية كافية تمكن من السيلان البطيء على جوانب المنحدرات. وتمتد هذه السيول على بضع مئات الأمتار طولا وبضعة أمتار عرضا، أما سمكها فلا يتجاوز السنتيمترات القليلة.
هل هناك حياة؟
لكن يبقى السؤال الأهم، وهو هل يمكن أن تتشكل أحد مظاهر الحياة المجهرية في هذه البيئة؟ الإجابة ما زالت غير يقينية. فرغم أن دراسة علمية أجريت سابقا في صحراء أتكاما في تشيلي بينت إمكانية بقاء أنواع من البكتيريا المقاومة للبيئات القاسية للغاية في محاليل الكلورات وفي درجات حرارة متدنية، فإن إمكانية بقائها في ظل ظروف قاسية كتلك الموجودة على كوكب المريخ ما زالت تحتاج إلى دليل.
ورغم الهالة الإعلامية التي أحاطت الإعلان عن هذا الاكتشاف فإن مسألة وجود الماء في شكل سائل مطروحة منذ سنوات في الأوساط العلمية. ففي سنة 2011 نشر باحثون من جامعة توسكون في أريزونا ملاحظات استقوها بفضل المسبار المداري "مارس روكونيسونس أوربتر" والتي تبين وجود سيول فصلية وخلصوا إلى أنها تحدث بفعل المياه السائلة، لكنهم لم يقدموا دليلا علميا على ذلك، وبالتالي فإن ما توصل إليه الباحثون مؤخرا لم يكن مفاجأة، وكان محتملا جدا حسب الدراسات العلمية السابقة.
قنوات مياه بعرض يتراوح بين متر وعشرة أمتار في صورة لمنطقة على سطح المريخ التقطها المسبار المداري روكونيسونس (رويترز)
إلا أنه من المتوقع أن يحدد هذا الاكتشاف أولويات جديدة في خطط تنفيذ البرامج العلمية الموجهة لكوكب المريخ بتكثيف الجهود في اتجاه الكشف على مزيد من مصادر المياه والبحث عن احتمال وجود حياة مجهرية على سطحه وإرسال مسابير إلى الأماكن التي توجد بها مياه سائلة مع تجنب تلويثها بالكائنات المجهرية الأرضية.
لكنه من ناحية ثانية لن يكون له تأثير هام على مشاريع القيام برحلات مأهولة إلى المريخ واستيطانه في مرحلة ثانية، وهي مشاريع من المتوقع إنجازها في أفق 2030، لأن المياه المكتشفة لا يمكن أن تكون كميا ولا نوعيا قابلة للاستهلاك أو الاستغلال، فكمياتها قليلة وتركيزها الملحي عال جدا، علاوة على كون الظروف المناخية على الكوكب الأحمر لا تسمح ببقاء المياه الصافية في حالة سائلة.
لقد اختارت ناسا الإعلان عن الاكتشاف عبر مؤتمر صحفي حشدت له قبل أيام من عقده أبرز وسائل الإعلام العالمية والأميركية، وكان بإمكانها الاكتفاء بنشر المقال العلمي الذي قدم تفاصيل الاكتشاف في الدورة العلمية "نيتشر جيوساينس"، رغم علمها بأن ما توصلت إليه من نتائج قد لا يعده الكثيرون في الأوساط العلمية من فئة الاكتشافات البالغة الأهمية.
وهذا الاختيار حسب العديد من الملاحظين كان مقصودا بحد ذاته من الوكالة التي تملك العديد من البرامج الموجهة للمريخ أكثر الكواكب شبها بالأرض، منها برنامج "فاسيمر" لتطوير محرك صاروخ يعمل بالبلازما وبإمكانه اختصار الرحلة بين الكوكبين إلى 39 يوما عوضا عن ستة أشهر بالتقنيات المتوفرة حاليا، إضافة إلى مشاريع عديدة أخرى. وهي برامج تحتاج الوكالة لتنفيذها الحصول على تمويلات كافية من دافع الضرائب الأميركي.
قد لا يكون المريخ جافا ولا كوكبا قاحلا كما قال مدير معهد الفضاء في ناسا جيم غرين، لكنه لا يحتوي ما يكفي من الماء السائل للجزم بإمكانية تطور الحياة عليه مستقبلا وجعله أكثر ملاءمة للاستيطان البشري.
المصدر : الجزيرة