لا مبرر للقلق من «هبّة الأقصى» أو عليها
عريب الرنتاوي
جو 24 : يتلقى الفلسطينيون “نصائح” عديدة من دول وحكومات شقيقة وصديقة، تدعوهم لالتزام الهدوء وضبط النفس وعدم الانسياق وراء لعبة التصعيد الإسرائيلي الدامية ... نقول “نصائح” من باب الكياسة وعدم إساءة الظن، لكنها في الواقع “ضغوط” تأخذ أشكالاً استفزازية، وتستبطن كثيرا من معاني التهديد والوعيد.
لكن الفلسطينيين قضوا ردحاً طويلاً من الوقت، في هدوء شبه تام ... انخرطوا في مشروع “بناء الدولة تحت جلد الاحتلال”، وذهبوا بـ “التنسيق الأمني” إلى أبعد حد، وأحجموا عن مطاردة إسرائيل في المحافل الحقوقية الدولية، كُرمى لعيون “الناصحين” وأملاً بترجمة وعودهم وتعهداتهم، وأظهروا من السكينة حداً يبلغ ضفاف الاستكانة، فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة ببساطة، أن قضيتهم الوطنية قد دُفِع بها إلى الخلف، وتآكلت مكانتها الدولية، ولم يعد يُؤتي على ذكرها إلا في فصول كتب التاريخ، في الوقت الذي واصلت فيه إسرائيل سياسة القضم الزاحف والمتدرج لأراضيهم وحقوقهم، ووسعت من دائرة العدوان والانتهاك المتكرر لكل الحرمات، وضربت عرض الحائط بالتزاماتها مع الأردن وفلسطين وأمام المجتمع والقانون الدوليين، بعدم تغيير الوضع القائم في القدس، وتحديداً لجهة المقدسات والرعاية الهاشمة لها، والممتدة على تسعة عقود من الزمان.
إن صَمَتَ الفلسطينيون ولاذوا بالهدوء، خرجت قضيتهم من جدول أعمال المجتمع الدولي، وإن انتفضوا وثاروا لكرامتهم وحقوقهم ومقدساتهم، تلقوا اللوم من الأشقاء والأصدقاء، قبل الخصوم والأعداء، بأنهم يجازفون بما تبقى لهم من أوراق، وأنهم يحرقون سفنهم، ويقامرون بإشعال فتيل أزمة جديدة وإضافتها إلى سلسلة الأزمات المتفاقمة في المنطقة، قد لا يخرجوا منها بأفضل مما دخلوا إليها .... فما الذي يتعين على الفلسطيني أن يفعله، لتفادي هذا المأزق المزدوج؟
المفارقة المؤلمة، أن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، كانا يؤخذان تاريخياً وعلى الدوام، كذريعة لتعطيل أجندات الإصلاح والتغيير في المنطقة، وكسبب لتعطيل مطالبات بضع دول عربية بحقوقها المستلبة في وحدودها المنتهكة من جوار إقليمي طامع وتوسعي، كان شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع إسرائيل ومن أجل فلسطين، هو الشمّاعة التي تعلق عليها وتفسر بها، كافة العلل والأمراض العربية ... اليوم، تبدو الصورة مختلفة إلى حد كبير، إذ يراد للفلسطينيين أن يلوذوا بصمت القبور، إلى أن يفرغ الزعماء العرب من إنجاز أجندات الحرب على الإرهاب ومحاربة التطرف وتحقيق التنمية والانتصار في حروب المذاهب والطوائف والمحاور المندلعة في العالم العربي ... حتى وإن أفضى هذا الانتظار الممض، إلى ضياع ما تبقى من أرض وحقوق ومكتسبات؟!
السلطة الفلسطينية، أكثر من غيرها، تعيش فصول هذه المفارقة، فهي جربت الصمت الطويل، وأسهمت بنشاط في فرضه على شعبها وقواها السياسية والنضالية المختلفة، لكنها خرجت من “مولد المفاوضات بلا حمص” ... وهي من جهة ثانية، تخشى انفلات الأوضاع في الضفة الغربية وخروجها من دائرة السيطرة والتحكم، لأنها قد تكون أولى ضحايا وضع كهذا ... لهذا نراها تعمل ما بوسعها، لرسم سقوف وخرائط للحراك الشعبي الفلسطيني، لا يتخطاها، وتعود لأدواتها القديمة علّها تنفع في معالجة الوضع الجديد الناشئ، فلا تكف عن توجيه الرسائل واستدعاء التدخلات، سعياً وراء هدنة جديدة، وبانتظار معجزة جديدة تنقذ بعضاً من رهاناتها المفلسة .
الفلسطينيون اليوم، ليس لديهم ما يخسرونه سوى قيود الاحتلال وأغلاله وإجراءاته القمعية، عنصرية الطراز ... ظهورهم إلى جدار، فالعدو من أمامهم والفوضى العارمة التي تجتاح المنطقة العربية من ورائهم ... لقد خبروا سنوات الصمت والموات، وعرفوا ما الذي ينتظرهم إن هم ظلوا على هذه الحال ... قرروا انتزاع زمام قضيتهم بأيديهم المدججة بالحجارة والسكاكين والزجاجات الفارغة، وخرجوا يتصدون للجيش الذي لا يقهر بصدورهم العارية ... لقد أدركوا أن استمرار الحال من المحال، وأن الوقت قد حان لـ “ٌقرع جدران الخزان”.
إن التفكير ملياً في الحصاد الأولي للأسبوع الأول للهبة الشعبية التي عمت مدن فلسطين التاريخية جميعها، من النهر إلى البحر، يظهر أن البوصلة الشعبية الفلسطينية كانت تشير للاتجاه الصحيح، فنتنياهو ما كان ليتراجع بضع خطوات إلى الوراء، كأن يصدر تعليمات لأعضاء الحكومة والكنيست بعدم زيارة الأقصى، إلا بعد هذه الهبّة المباركة، والتي إن استمرت وتصاعدت، فقد تكون وحدها الكفيلة، بلجم الاندفاعة التوسعية العنصرية الإسرائيلية في القدس وعموم المناطق المحتلة.
لم ترتعد فرائص نتنياهو ولم ترتعش ساقاه، جراء البيانات والتصريحات أو بفعل الحراك الدبلوماسي العربي والدولي ... والقلق لم يجتح الطبقة السياسية في إسرائيل، بل ويبدأ بالتسرب إلى الرأي العام الإسرائيلي، إلا بعد أن اندلعت الهبة الشعبية واتسعت وتعاظمت، داخل الخط الأخضر وخارجه، داخل فلسطين وفي الشتات... هذه حقيقة يدركها أطفال فلسطين على خطوط الاشتباك والتماس، ولهذا نراهم أكثر تصميماً على الاستمرار في هبتهم حتى تحقيق أهدافها.
ولو أمعنت السلطة و”ناصحوها” العرب، في قراءة حصاد الأسبوع الأول للهبة الشعبية، لكانوا انتقلوا من موقع الحذر والتحسب والقلق منها، إلى موقع الداعم لها والمساند لمطالبها، لأنها ببساطة، ترفع الحرج عنهم، وتسلح مطالباتهم ومناشداتهم، التي لم يصغ إليها أحد، ببعض الأنياب والمخالب، وستجعل نتنياهو أكثر ميلاً للإصغاء لأحاديثهم، بعد أن أدار لهم أذنا من طين وأخرى من عجين.
بيد أن تحقيق أهداف هذه الهبة، بل وتحويلها إلى انتفاضة شعبية ثالثة، إنما يتطلب توفير جملة من الأسباب والشروط، من بينها: (1) حفظ طابعها الشعبي مقترناً بطابعها السلمي، هنا وعلى هذا الملعب الفلسطينيون أقوى وأقدر على انتزاع المكاسب... (2) استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ميدانياً إن تعذر سياسياً ... (3) تفعيل سلاح المقاطعة الشاملة للدولة الاحتلال والعنصرية ... (4) مطاردة إسرائيل في كافة المحافل الدولية، سياسياً وإعلامياً وحقوقيا، من دون تلكؤ أو تردد ... (5) تفعيل العمق الشعبي العربي والأممي المتضامن مع فلسطين، قضية وشعباً وحقوقا، والإفلات من قبضة النظام الرسمي العربي المنخرط في حروب المذاهب والمحاور، التائه في انقساماته وحروبه الجانبية، والكف على الاستماع لنصائحه المنبعثة من حساباته ومصالحه، وليس من حسابات الشعب الفلسطيني ومصلحته الوطنية العليا .... (6) تفعيل الصلة مع فلسطيني المنافي والشتات، من خلال التوجه الجاد لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها وهيكلتها.
من دون ذلك كله، قد يفوت الفلسطينيون فرصة ثمينة، لم تتوافر لهم من فترة طويلة، أقله منذ عشر سنوات، فهل تملي هبة القدس أجندتها على المستوى السياسي الفلسطيني؟، أو أن الأخير، سينجح مدعوماً بحلفائه وشركائه في المنطقة والعالم، في احتواء الهبة وشراء المزيد من الوقت، وإعادة الفلسطينيين إلى مربع الانتظار والفراغ من جديد
(الدستور)
لكن الفلسطينيين قضوا ردحاً طويلاً من الوقت، في هدوء شبه تام ... انخرطوا في مشروع “بناء الدولة تحت جلد الاحتلال”، وذهبوا بـ “التنسيق الأمني” إلى أبعد حد، وأحجموا عن مطاردة إسرائيل في المحافل الحقوقية الدولية، كُرمى لعيون “الناصحين” وأملاً بترجمة وعودهم وتعهداتهم، وأظهروا من السكينة حداً يبلغ ضفاف الاستكانة، فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة ببساطة، أن قضيتهم الوطنية قد دُفِع بها إلى الخلف، وتآكلت مكانتها الدولية، ولم يعد يُؤتي على ذكرها إلا في فصول كتب التاريخ، في الوقت الذي واصلت فيه إسرائيل سياسة القضم الزاحف والمتدرج لأراضيهم وحقوقهم، ووسعت من دائرة العدوان والانتهاك المتكرر لكل الحرمات، وضربت عرض الحائط بالتزاماتها مع الأردن وفلسطين وأمام المجتمع والقانون الدوليين، بعدم تغيير الوضع القائم في القدس، وتحديداً لجهة المقدسات والرعاية الهاشمة لها، والممتدة على تسعة عقود من الزمان.
إن صَمَتَ الفلسطينيون ولاذوا بالهدوء، خرجت قضيتهم من جدول أعمال المجتمع الدولي، وإن انتفضوا وثاروا لكرامتهم وحقوقهم ومقدساتهم، تلقوا اللوم من الأشقاء والأصدقاء، قبل الخصوم والأعداء، بأنهم يجازفون بما تبقى لهم من أوراق، وأنهم يحرقون سفنهم، ويقامرون بإشعال فتيل أزمة جديدة وإضافتها إلى سلسلة الأزمات المتفاقمة في المنطقة، قد لا يخرجوا منها بأفضل مما دخلوا إليها .... فما الذي يتعين على الفلسطيني أن يفعله، لتفادي هذا المأزق المزدوج؟
المفارقة المؤلمة، أن فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، كانا يؤخذان تاريخياً وعلى الدوام، كذريعة لتعطيل أجندات الإصلاح والتغيير في المنطقة، وكسبب لتعطيل مطالبات بضع دول عربية بحقوقها المستلبة في وحدودها المنتهكة من جوار إقليمي طامع وتوسعي، كان شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع إسرائيل ومن أجل فلسطين، هو الشمّاعة التي تعلق عليها وتفسر بها، كافة العلل والأمراض العربية ... اليوم، تبدو الصورة مختلفة إلى حد كبير، إذ يراد للفلسطينيين أن يلوذوا بصمت القبور، إلى أن يفرغ الزعماء العرب من إنجاز أجندات الحرب على الإرهاب ومحاربة التطرف وتحقيق التنمية والانتصار في حروب المذاهب والطوائف والمحاور المندلعة في العالم العربي ... حتى وإن أفضى هذا الانتظار الممض، إلى ضياع ما تبقى من أرض وحقوق ومكتسبات؟!
السلطة الفلسطينية، أكثر من غيرها، تعيش فصول هذه المفارقة، فهي جربت الصمت الطويل، وأسهمت بنشاط في فرضه على شعبها وقواها السياسية والنضالية المختلفة، لكنها خرجت من “مولد المفاوضات بلا حمص” ... وهي من جهة ثانية، تخشى انفلات الأوضاع في الضفة الغربية وخروجها من دائرة السيطرة والتحكم، لأنها قد تكون أولى ضحايا وضع كهذا ... لهذا نراها تعمل ما بوسعها، لرسم سقوف وخرائط للحراك الشعبي الفلسطيني، لا يتخطاها، وتعود لأدواتها القديمة علّها تنفع في معالجة الوضع الجديد الناشئ، فلا تكف عن توجيه الرسائل واستدعاء التدخلات، سعياً وراء هدنة جديدة، وبانتظار معجزة جديدة تنقذ بعضاً من رهاناتها المفلسة .
الفلسطينيون اليوم، ليس لديهم ما يخسرونه سوى قيود الاحتلال وأغلاله وإجراءاته القمعية، عنصرية الطراز ... ظهورهم إلى جدار، فالعدو من أمامهم والفوضى العارمة التي تجتاح المنطقة العربية من ورائهم ... لقد خبروا سنوات الصمت والموات، وعرفوا ما الذي ينتظرهم إن هم ظلوا على هذه الحال ... قرروا انتزاع زمام قضيتهم بأيديهم المدججة بالحجارة والسكاكين والزجاجات الفارغة، وخرجوا يتصدون للجيش الذي لا يقهر بصدورهم العارية ... لقد أدركوا أن استمرار الحال من المحال، وأن الوقت قد حان لـ “ٌقرع جدران الخزان”.
إن التفكير ملياً في الحصاد الأولي للأسبوع الأول للهبة الشعبية التي عمت مدن فلسطين التاريخية جميعها، من النهر إلى البحر، يظهر أن البوصلة الشعبية الفلسطينية كانت تشير للاتجاه الصحيح، فنتنياهو ما كان ليتراجع بضع خطوات إلى الوراء، كأن يصدر تعليمات لأعضاء الحكومة والكنيست بعدم زيارة الأقصى، إلا بعد هذه الهبّة المباركة، والتي إن استمرت وتصاعدت، فقد تكون وحدها الكفيلة، بلجم الاندفاعة التوسعية العنصرية الإسرائيلية في القدس وعموم المناطق المحتلة.
لم ترتعد فرائص نتنياهو ولم ترتعش ساقاه، جراء البيانات والتصريحات أو بفعل الحراك الدبلوماسي العربي والدولي ... والقلق لم يجتح الطبقة السياسية في إسرائيل، بل ويبدأ بالتسرب إلى الرأي العام الإسرائيلي، إلا بعد أن اندلعت الهبة الشعبية واتسعت وتعاظمت، داخل الخط الأخضر وخارجه، داخل فلسطين وفي الشتات... هذه حقيقة يدركها أطفال فلسطين على خطوط الاشتباك والتماس، ولهذا نراهم أكثر تصميماً على الاستمرار في هبتهم حتى تحقيق أهدافها.
ولو أمعنت السلطة و”ناصحوها” العرب، في قراءة حصاد الأسبوع الأول للهبة الشعبية، لكانوا انتقلوا من موقع الحذر والتحسب والقلق منها، إلى موقع الداعم لها والمساند لمطالبها، لأنها ببساطة، ترفع الحرج عنهم، وتسلح مطالباتهم ومناشداتهم، التي لم يصغ إليها أحد، ببعض الأنياب والمخالب، وستجعل نتنياهو أكثر ميلاً للإصغاء لأحاديثهم، بعد أن أدار لهم أذنا من طين وأخرى من عجين.
بيد أن تحقيق أهداف هذه الهبة، بل وتحويلها إلى انتفاضة شعبية ثالثة، إنما يتطلب توفير جملة من الأسباب والشروط، من بينها: (1) حفظ طابعها الشعبي مقترناً بطابعها السلمي، هنا وعلى هذا الملعب الفلسطينيون أقوى وأقدر على انتزاع المكاسب... (2) استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ميدانياً إن تعذر سياسياً ... (3) تفعيل سلاح المقاطعة الشاملة للدولة الاحتلال والعنصرية ... (4) مطاردة إسرائيل في كافة المحافل الدولية، سياسياً وإعلامياً وحقوقيا، من دون تلكؤ أو تردد ... (5) تفعيل العمق الشعبي العربي والأممي المتضامن مع فلسطين، قضية وشعباً وحقوقا، والإفلات من قبضة النظام الرسمي العربي المنخرط في حروب المذاهب والمحاور، التائه في انقساماته وحروبه الجانبية، والكف على الاستماع لنصائحه المنبعثة من حساباته ومصالحه، وليس من حسابات الشعب الفلسطيني ومصلحته الوطنية العليا .... (6) تفعيل الصلة مع فلسطيني المنافي والشتات، من خلال التوجه الجاد لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة بنائها وهيكلتها.
من دون ذلك كله، قد يفوت الفلسطينيون فرصة ثمينة، لم تتوافر لهم من فترة طويلة، أقله منذ عشر سنوات، فهل تملي هبة القدس أجندتها على المستوى السياسي الفلسطيني؟، أو أن الأخير، سينجح مدعوماً بحلفائه وشركائه في المنطقة والعالم، في احتواء الهبة وشراء المزيد من الوقت، وإعادة الفلسطينيين إلى مربع الانتظار والفراغ من جديد
(الدستور)