المجالي: مسار الحكومة البرلمانية في الأردن غامض.. وقانون الانتخاب المنظور قد لا يفضي إليها
جو 24 : قال رئيس مجلس النواب الأسبق، المهندس عبدالهادي المجالي أن الحكومة البرلمانية، في أيِّ نظامٍ سياسي، هي التعبير الحقيقيّ والعميقُ للشَّراكةِ بين النظام، أيِّ نظام، والقاعدةِ الاجتماعية، فلا تستقيمُ علاقةُ الشَّراكةِ في حالِ كانتِ الأدوارُ في ثناياها مختلةً بين النظامِ والشعبِ الذي يُفترَضُ أنَّهُ مصدرُ السُّلطات.
واضاف في كلمة ألقاها بمحاضرة في مقر حزب جبهة العمل الاسلامي الثلاثاء، إن الحكوماتُ البرلمانيةُ لا تولَدُ منَ العدم، أو بموجبِ صُدفةٍ سياسية، أو في لحظةِ تغييراتٍ تكتيكيةٍ اقتضَتها الضرورةُ الآنيَّةُ للإفلاتِ مِن مأزَقٍ سياسيٍّ ما، إذ أنَّ لهذا الشكلِ منَ الحكوماتِ أساساتٌ ومقوماتٌ لا بدَّ من توافُرِها كضروراتٍ وحتميات، ولها مراحلُ وأطوارٌ تمرُّ بها كي تنضُجَ وتُصبِحَ عميقة، وتنتهي إلى أن تكونَ العامودَ الصَّلبَ الذي تقومُ عليهِ النُّظُمُ السياسيَّة.
وأشار إلى أن مسارَ الحكومةِ البرلمانيةِ في الأردنِّ غامض، قياساً بتجربةِ الحكوماتِ البرلمانيةِ في البرلمانِ الحالي، والتي أدَّت نتيجتُها إلى خروجِ أصواتٍ برلمانيةٍ وسياسيةٍ تقولُ أنَّ هذا المسارَ غيرُ مجدٍ، ولم يُحدِثْ أثراً حقيقيا، لأننا لم نرَ حكومةً برلمانيةً كما تقتضيها شروطُ ومعاييرُ ومقوماتُ الحكوماتِ البرلمانيةِ في الأنظمةِ السياسيةِ ذاتِ الصلة.
وتاليا نص الكلمة ...
في أنظمةِ الحكمِ الديمقراطية، أكانت ملكيةً أم جمهورية، تُعتبرُ الحكوماتُ البرلمانيةُ أساسا متينا في صُلبِ بُنيةِ النظامِ السياسي، ولا يُتَصوَّرُ أنَّ نظاما ديمقراطيا في العالمِ يُمكنُ أن يكونَ قائما وفاعلا دون أن يكون للحكوماتِ البرلمانيةِ مكانُها، وفي بعضِ هذِهِ الأنظمةِ تكونُ السلطةُ كاملةُ أو أغلبُها بيدِ الحكومةِ البرلمانية.
والحكومةُ البرلمانية، في أيِّ نظامٍ سياسي، هي التعبيرُ الحقيقيُّ والعميقُ للشَّراكةِ بين النظام، أيِّ نظام، والقاعدةِ الاجتماعية، فلا تستقيمُ علاقةُ الشَّراكةِ في حالِ كانتِ الأدوارُ في ثناياها مختلةً بين النظامِ والشعبِ الذي يُفترَضُ أنَّهُ مصدرُ السُّلطات، والذي يُفترَضُ أنهُ أساسُ الفعلِ الديمقراطي، وبيدِهِ كاملُ القدرةِ على اختيارِ ممثليه، دونَ تدخلٍ من أيِّ طرف، وصولا إلى تَشَكُّلِ السُّلطاتِ التي هيَ نِتاجُ سُلطَةِ الشعب.
إذن، نفهمُ مِن ذلك، ومِن مراجعةِ النظرياتِ السياسية، على اختلافِ العصورِ والأزمنة.. ومِن مراجعةِ الأنظمةِ السياسيةِ التاريخيةِ وتطوُّرِها.. وعلى اختلافِ الأممِ وطبيعَتِها وتحوُّلاتِها، أنَّ أفضلَ ما تمَّ انتاجُهُ من فكرٍ سياسيٍّ ونظرياتٍ في الحُكمِ تلكَ التي خَلُصَت إلى أنَّ الحكوماتِ البرلمانية، هي أفضلُ أنماطِ الحكم، وأكثرُها توازنا وعدالةً وانتاجا، وأقلُّها فسادا وإفسادا، والأسهلُ محاسبةً ومساءلة.
والحكوماتُ البرلمانيةُ لا تولَدُ منَ العدم، أو بموجبِ صُدفةٍ سياسية، أو في لحظةِ تغييراتٍ تكتيكيةٍ اقتضَتها الضرورةُ الآنيَّةُ للإفلاتِ مِن مأزَقٍ سياسيٍّ ما، إذ أنَّ لهذا الشكلِ منَ الحكوماتِ أساساتٌ ومقوماتٌ لا بدَّ من توافُرِها كضروراتٍ وحتميات، ولها مراحلُ وأطوارٌ تمرُّ بها كي تنضُجَ وتُصبِحَ عميقة، وتنتهي إلى أن تكونَ العامودَ الصَّلبَ الذي تقومُ عليهِ النُّظُمُ السياسيَّة.
وهذا يعني أنَّ مُقوِّماتِ وأساساتِ الحكوماتِ البرلمانية، تحتاجُ إلى توفُّرِ شرطينِ موضوعيين، لا غنى عنهما، ولا تستقيمُ فكرةُ الحكوماتِ البرلمانيةِ بدونِهِما، ولا يمكنُ أن تقومَ حكومةٌ من هذا النمط بأحدِهِما فقط، بل بتوافرِ الشَّرطينِ معا:
أولا: بيئةٌ سياسية.
ثانيا: بيئةٌ تشريعية:
هكذا على الترتيب؛ بيئةٌ سياسية، وتاليا بيئةٌ تشريعية.
والبيئةُ السياسية، بفهمي، هي أن تقتنعَ النُّظُمُ السياسيةُ أولا، بألاّ طريقَ للحكمِ الرشيدِ وتحقيقِ الاستقرارِ بكُلِّ أشكالِهِ السياسيةِ والأمنيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية، مِن دونِ إعادةِ النظرِ في بُنيةِ النظامِ السياسيِّ ونمطِ الحكم، وأن تَصِلَ هذِهِ النُّظُمُ إلى قناعةٍ تامةٍ انها لا تستطيعُ الاستمرارَ بطريقةِ حُكمِها السابقة، وأنَّهُ آنَ أوانُ وضعِ الشَّراكةِ معَ القاعدةِ الاجتماعيةِ على الطريقِ القويم.
إنَّ اقتناعَ النظامِ السياسي، اقتناعا تاما، بالتغييرِ في أسلوبِ الحكمِ وطبيعتِه، ورسوخِ هذِهِ القناعةِ على نحوٍ استراتيجيٍ لا تكتيكي، هيَ الخطوةُ الجوهريةُ المُمَهِّدةُ للانتقالِ مرحلةِ الاقتناعِ والإيمانِ بالتغييرِ وضرورتِهِ إلى بناءِ البيئةِ السياسيةِ العامةِ لاستقبالِ وهضمِ هذا التغييرِ واستيعابه، ومِن ثُمَّ، حمايتِهِ منَ الارتجالِ والقفزاتِ المغامِرَة.
ومِن شأنِ هذا الاقتناع، كشرطٍ أساسٍ لنجاحٍ التوجُّه، وانعكاسِهِ في الخطابِ السياسيِّ العام، أن يُشيعَ جواًّ عاماًّ إيجابيا بينَ القاعدةِ الاجتماعيةِ وقُواها ومُكَوِّناتِها السياسية، وينقُلَها مِن حالةِ الشكِّ وعدمِ اليقين، وغيابِ الصِّدقِيَّةِ والمصداقيةِ إلى حالةٍ نقيضةٍ أساسُها الثقة، والتي هيَ مسألةٌ ستدفعُ هذِهِ القُوى والمُكَوِّناتِ إلى الانخراطِ والتفاعلِ معَ الواقعِ الجديد، منذُ البَدء، والمساهمةِ في إنضاجِهِ وتطويرِه.
فالقُوى الاجتماعيةُ والسياسية، وما يُمثِّلُها مِن مؤسساتِ مجتمعٍ مدني، وفي القلبِ منها القُوى الحزبية، لها مصلحةٌ حقيقيةٌ في التفاعلِ معَ الواقعِ السياسيِّ الجديد، وسَتَمُدُّ يدَها إلى النظامِ السياسيِّ لتأسيسِ المسارِ الجديدِ الذي يُفتَرَضُ فيهِ أن يُلبّي طموحاتِ كلِّ أطرافِه، والتي مُحصلتُها، أي هذِهِ الطموحات، بناءُ دولةٍ ديمقراطيةٍ فيها كلُّ اشتراطاتِ وقِيَمِ الديمقراطيةِ التي تُشرِكُ الجميعَ في صياغَتِها، ومِن ثُمَّ جعلِها مسارا لا تراجُعَ عنهُ ولا انتكاساتٌ فيه.
وإذا ما توافرت البيئةُ السياسيَّة، وعمَّت الثقة، وتعاظمت المصداقية، وتأكدت قناعةُ النُّظُمِ السياسيةِ بتغييرِ أسلوبِ الحكمِ وأنماطِه، فإنَّ الشرطَ الثاني، شرطُ البيئةِ التشريعية، يصبحُ لازما ومكملا للبيئةِ السياسية.
والبيئةُ التشريعية، تعني، بفهمي، أن يدعَمَ دستورُ الدولة، أيِّ دولةٍ وفي أيِّ مكان، وبنصٍّ صريحٍ إقامةَ الحكوماتِ البرلمانية، فغيابُ النصِّ الدستوريِّ الجامعِ المانع، سيكونُ شكلاً من القصورِ والعِلَّةِ التي ستصيبُ بالعطبِ أيَّ محاولةٍ لتصميمِ البيئةِ التشريعيةِ التي مِن شأنِها التأسيسُ لأسلوبِ الحكمِ الجديد.
وإذا ما كان دستورُ أيِّ دولةٍ مصاباً بالقصورِ في معالجةِ آلياتِ تشكيلِ الحكوماتِ البرلمانية، فلن تكونَ هناكَ حكومةٌ حقيقيةٌ مِن هذا النوع، لأن ما يصيبُ الدستورَ مِن عِلَلٍ سينتقلُ آلياً إلى بقيةِ التشريعاتِ الناظمةِ التي تُؤسِّسُ للحكمِ البرلماني، وهذا بذاتِهِ يُقيمُ الدليلَ على أنَّ البيئةَ السياسيةَ لم تتوافرْ بعدُ لانتهاجِ هذا النمطِ مِنْ أنماطِ الحكم.
ففي سياقِ اللازمِ التشريعي، ما بعدَ الدستوري، لابدَّ مِنْ إحداثِ أو إيجادِ تشريعينِ مهِمَّينِ وأساسِيَّينِ عندَ التفكيرِ في تصميمِ مرحلةِ الحكوماتِ البرلمانية، وهُما قانونٌ للانتخاب، وآخرُ للأحزاب، وبغيرِهِما يصعُبُ أو يستحيلُ أنْ تكونَ البيئةُ التشريعيةُ ملائمةً وتتيحَ الانتقالَ الفعليَّ والعمليَّ للدخولِ في تغييرٍ عميقٍ لأسلوبِ الحُكم.
فالحكوماتُ البرلمانية، لها اشتراطاتُها وقِيَمُها، وتتطلَّبُ برلمانا بمواصفاتٍ وسِماتٍ مُعينة، وهذِهِ المواصفاتُ والسماتُ لا تُتاح إلاّ بقانونِ انتخابٍ يُعَظِّمُ من قيمةِ الكُتلِ والتكتلاتِ الحزبيةِ السياسيةِ والبرامجية، وهذهِ لا يمكنُ أنْ نَجِدَها في أيِّ برلمانٍ لا يأخُذُ القانونَ الذي انتُخِبَ على أساسِهِ بحساباتِهِ كلِّها أهميةَ تمهيدِ وتسهيلِ طريقِ الأحزاب، بكل تنويعاتِها وخلفياتِها، للوصولِ إلى ذلكَ البرلمان.
وببساطةٍ شديدة، لا حكومةَ برلمانيةً بلا برلمانٍ حزبيٍّ سياسيٍّ برامجي، تُمنحُ فيهِ أكبرُ الكتلِ الحزبيةِ فرصةَ تشكيلِ الحكومةِ بالائتلافِ معَ كتلٍ حزبيةٍ أخرى، وهذا يتطلَّبُ أنْ نفهمَ جيدا، بل أنْ نقتنعَ وبيقينٍ تامٍّ أنَّ النائبَ الفرديَّ المستقلَّ لا يرفعُ مِنْ سَوِيَّةِ العملِ البرلمانيِّ ولا يمكنُ لبرلمانٍ يغلِبُ عليهِ الطابعُ الفرديُّ المستقلُّ أنْ ينجحَ في بناءِ حكومةٍ برلمانية.
وفضلا عن أنَّ الفرديَّةَ في البرلمانِ لا تُنتِجُ حكومةً برلمانيةً ولا ُ لها بأيِّ حال، فهيَ أيضا السببُ في تردّي الأداءِ التشريعيِّ والرقابي، لأنَّ الأصلَ المفترضَ أنْ يُحكمَ أداءُ النائبِ ببرنامَجٍ يؤثر، بل يتحكَّم، في سلوكِهِ ومواقفِهِ واتجاهاتِه، وهذا البرنامَجُ كي يكونَ فعالاً ويُحدِثُ الفرقَ المأمولَ يحتاجُ إلى كتلةٍ تحمِلُه، والكتلةُ كي تكونَ متماسكةً وقادرةَ لابدَ أن تكونَ مسيَّسَة، والتسييسُ لا تتيحُهُ إلاّ الحزبية.
وهذه تفترضُ أيضا، وجودَ قانونِ أحزابٍ على سَوِيَّةٍ عاليةٍ في نصوصِهِ التي تتيحُ العملَ الحزبيَّ وتمنحُهُ هامِشَهُ ومساحةَ حركتِه، وأنْ يكونَ تشريعاً حزبيا مستقرا، تصوغُهُ الدولةُ بشَراكَةٍ حقيقيةٍ معَ الأحزاب، والمكوناتِ ذاتِ الصلة، لا أنْ يصوغُهُ طرفٌ بمعزلٍ عن الآخرين، ويفرضَهُ على الحياةِ السياسيةِ والحزبيةِ دونَ إلمامٍ جَدِّيٍّ بواقعِ الأحزابِ وظروفِها ومتطلباتِ ديمومتِها وتنامي قوَّتِها وحضورِها.
وتوافرُ البيئةِ التشريعية، من دستورٍ وقانونٍ للانتخاب، وآخرَ للاحزاب، يستدعي منَ الأحزابِ ذاتِها أن تبادرَ إلى إعادةِ النظرِ في واقِعِها وأسلوبِ إدارتِها للحالةِ الحزبيةِ والسياسية، وأنْ تُنضِجَ برنامجا واقعيا.. ومِن قبلِ أن تلتقيَ الأحزابُ ذاتُ التوجُهِ الواحدِ على صيغةِ برنامَجٍ جامع، ويُفضَّلُ أن تندمِجَ معا لتشكِّلَ ثقلا حزبيا قادرا على المنافسة، وأن تمنحَ الشبابَ والمرأةَ فرصة، وأن تتحركَ وتنتقلَ إلى الأطرافِ للانخراطِ بين الناسِ في مواقعِهِم، تحاورُهُمْ في ما تفكرُ فيهِ وتسمعُ مِنَ الناسِ ما يفكرون فيهِ ويطمحونَ إليه.
تأسيساً على ما سبق، ربما نخلُصُ إلى القناعةِ التالية، وهي: أنَّ مقوماتِ الحكومةِ البرلمانيةِ كامنةٌ في وجودِ بيئةٍ سياسيةٍ وأُخرى تشريعية، وفي غيابِ هاتينِ البيئتينِ لا يمكِنُ تصوُّرَ فرصةٍ لوجودِ حكومةٍ برلمانية، فمثلُ هذا الأسلوبِ من أساليبِ الحكمِ لهُ متطلباتٌ ومُقَوِّماتٌ لا يَنشأُ بدونِها، ولو نشأَ بدونِها لا يمكنُ أن يستمِرَّ طويلا نتيجةَ عللٍ واختلالاتٍ مؤكدةٍ في طبيعتِهِ وبُنيتِه.
وهنا أطرحُ التساؤلَ التالي، والذي أظنُّهُ يدورُ في أذهانِكُم الآن: إلى ماذا أصِل، أو نَصِل، إذا ما قاربنا الشروطَ الموضوعيةَ والذاتيةَ التأسيسيةَ للحكومةِ البرلمانية، مع واقِعِنا الوطنيّ..؟!
بموضوعيةٍ تامة، أقولُ أنَّ مسارَ الحكومةِ البرلمانيةِ في الأردنِّ غامض، قياساً بتجربةِ الحكوماتِ البرلمانيةِ في البرلمانِ الحالي، والتي أدَّت نتيجتُها إلى خروجِ أصواتٍ برلمانيةٍ وسياسيةٍ تقولُ أنَّ هذا المسارَ غيرُ مجدٍ، ولم يُحدِثْ أثراً حقيقيا، لأننا لم نرَ حكومةً برلمانيةً كما تقتضيها شروطُ ومعاييرُ ومقوماتُ الحكوماتِ البرلمانيةِ في الأنظمةِ السياسيةِ ذاتِ الصلة.
تلك، بنظري، نتيجةٌ طبيعية، ما كنّا سنصِلُ إلى غيرِها، لأنَّ الشروطَ الموضوعيةَ والذاتيةَ لم تنضُجْ بعدُ لتوليدِ بيئةٍ سياسيةٍ ملائمةٍ وبيئةٍ تشريعيةٍ مناسبةٍ تُمكِّنُ مسارَ الحكوماتِ البرلمانيةِ منَ المُضِيِّ قُدُما.
فكيفَ ببرلمانٍ تركيبتُهُ الحاليةُ- بفعلِ قانونِ الانتخاب- قائمةٌ على النائبِ الفرديِّ المستقل، أو كتلٍ غيرِ مُسيَّسةٍ وغيرِ متماسكةٍ ومفتقدةٌ للبرنامَجِ الواقِعِيِّ أنْ يُنتِجَ حكومةً برلمانية..؟ ومٍنْ ثُمِّ، كيف تكونُ حكومةٌ برلمانيةٌ ليستْ مُشَكَّلَةً من الكتلةِ الأكبرِ والمؤتلٍفَة، بالضرورة، مع كُتلٍ أُخرى..؟ وكيف تكونُ حكومةٌ برلمانيةٌ تَنتُجُ عن برلمان، بالأصل، لا وجودَ حزبياً حقيقياً فيه..؟.
المعنى، هنا، ألاّ شروطَ متوفرة، بالفعل، لإنتاجِ حكوماتٍ برلمانية، وإذا ما عُدنا لفحصِ وتقييمِ سيرةِ الحكوماتِ البرلمانية، المفترضة، في السنواتِ الأخيرة، وبتدقيقِ تلكَ السيرةِ والمسيرةِ نكتشِفُ بِيُسرٍ وسهولةٍ اننا مضينا في مسارٍ غامضٍ غيرِ مُنَسَّقٍ ويفتقدُ المنهجيةَ الصحيحةَ والسليمة، وهو ما أفضى، في مُحَصِّلَتِه، إلى انعدامِ واقعيةِ ومنطقيةِ ما أبدعنا من فكرةٍ عن الحكومةِ البرلمانيةِ التي يبدو ألاّ أصلَ لها في النظرياتِ السياسيةِ والفكرِ السياسي.
لذلك، ربما، عَدَلنا، أو هكذا يُفترض، عن الفكرةِ وتجرِبَتِها، وهذا يُسَجَّلُ لنا لا علينا، لأننا لم نُكمِلِ السيرَ في طريقٍ لا يُنتِجُ واقعا جديدا وإيجابيا بَنَّاءً في أسلوبِ الحكمِ ينقُلُنا من حالٍ لم يَعُدْ يُلبّي الطموحَ وينسجِمُ معَ التطوراتِ ونظرياتِ الحكمِ إلى حالٍ آخرَ أفضلَ يقومُ على تمكينِ شَراكةِ الناسِ في إدارةِ شؤونِهِم وتفاصيلِ حياتِهِم.
والمشكلة، بصراحةٍ تامة، أنَّ قانونَ الانتخابِ المنظور، قد لا يُفضي إلى حالةٍ تأسيسيةٍ جَدِّيةٍ للحكوماتِ البرلمانية، لغيابِ البُنيَةِ التشريعيةِ المناسبة، ولا أظنُّ أنَّ مجلسَ النوابِ سيكونُ بمقدورِهِ أنْ يُغيِّرَ بُنيةَ قانونِ الانتخابِ على النحوِ الذي يتيحُ الفرصةَ لحكومةٍ برلمانيةٍ وازنة.
وأرى أنْ يسبِقَ مناقشةَ قانونِ الانتخابِ في مجلسِ النواب، ندوةٌ وطنيةٌ كبرى، تشاركُ فيها السلطةُ الرسمية، والقوى المجتمعيةُ والسياسية، تناقشُ المسألةَ كلَّها على عدةِ مستويات:
أولا: مناقشةُ البيئةِ الوطنيةِ والسياسيةِ الراهنة، والتحولاتِ الإقليميةِ والدولية، وهل تحتاجُ البيئةُ الوطنيةُ العامةُ إلى تغييرٍ في أنماطِ تشكيلِ الحكومات.
ثانيا: مناقشةُ البيئةِ التشريعية، على اختلافِ مستوياتِها، ومدى ملاءمتِها للمسارِ الديمقراطيِّ بما فيه دورُ القُوى المجتمعيةِ والسياسيةِ ومشاركتُها في صناعةِ القرار.
وثالثا: مناقشةُ المسارِ الذي نريدُ ونطمحُ إليه، وطبيعةِ البيئةِ السياسيةِ والتشريعيةِ التي تناسبُه، وكيفيةِ بناءِ شَراكةٍ وطنيةٍ قادرةٍ على تقديمِ مقترحاتٍ محلِّ إجماعٍ أو توافقٍ لتحقيقِ الطموح.
ويمكنُ لنا، في هذا السياق، أن نَدرُسَ أقربَ التجاربِ إلى واقِعِنا ونظامِنا السياسي، واعتقدُ أنَّ أقربَ هذهِ التجاربِ هيَ التجربةُ المغربية، التي اعتمدتْ نظاما برلمانيا يمنحُ الحزبيةَ فرصتَها الكافية، للمنافسة، ومِن ثُمَّ تكوينِ تكتلاتٍ حزبيةٍ أُتيحَ لها تشكيلَ حكوماتٍ برلمانيةٍ تتحملُ مسؤولياتِها كاملة، وبمقدورِ الناسِ محاسبتَها، وثم معاقبتَها وفقا لآلياتٍ ديمقراطية.
وأظنُّ أنَّ الندوة، وتقييمَ تجاربِ الآخرينَ للاستفادةِ منها، مسألةٌ أساسية، لاستكشاف الواقع، وتقدير متطلبات المستقبل، وسيكون فيها إجاباتٌ عن كلِّ التساؤلاتِ الغامضة، والمسكوتِ عنها، تجاهَ واقِعِنا السياسيِّ وما يعانيهِ من إشكالاتٍ لا يتحمَّلُها طرفٌ واحد، بل كلُّ الأطراف، لأنَّ المسؤولياتِ تتوزعُ بين مراكزَ متعددة، تحتاجُ إلى أن تُراجعَ نفسها وتقول، بصريحِ العبارة، أنها تتحملُ هذا القسطَ أو ذاك، مِنَ المسؤولية..
فبدونِ تقييمٍ واقعيٍّ وموضوعيٍّ وشفافٍّ لايمكنُ أن نُؤسِّسَ لبيئةٍ سياسيةٍ وتشريعيةٍ جديدةٍ بإمكانٍها تقويةَ الوطن، وجعلِهِ على سويةِ تماسكٍ داخليٍّ بمقدورِها أن تُجابِهَ التحدياتِ والأخطار، وقادرةً على الاستجابة، وبمرونة، لكلِّ أشكالِ الاستحقاقاتِ وتداعياتِها..
فنحنُ في بيئةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تعاني حالةَ سيولةٍ سياسية، وتوتُّراتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ كُلَفُها كبيرةٌ وباهظة، تتطلبُ إشراكَ الجميعِ في صوغِ معادلاتٍ داخليةٍ قادرةٍ على مجابهةِ التحديات، وتحقيقُ ذلكَ يحتاجُ إلى برلمانٍ بمواصفاتٍ وسِماتٍ صحيحة، يُنتِجُ حكومةً بمواصفاتٍ وسِماتٍ صحيحةٍ أيضا، وعدا ذلكَ فالواقعُ غيرُ مريحٍ ويثيرُ القلق.
هذا هوَ فهمي، فيما أدليتُ لكُم به، وحاولتُ من خلالِهِ ملامسةَ ومقاربةَ الأفكار، قَدْرَ المستطاع.. ولعلّي أفدت، وأنا الذي يستفيدُ من محاورتِكُم وسماعِ تصوراتِكُم، فالحوارُ يثري الوعي، ويُعَظِّمُ الفِكرة..
شكرا للإخوةِ المنظمين، على كريمِ الدعوةِ وكرمِ الضيافة.. والشكرُ للإخوةِ الحضورِ وصبرِهِمْ علينا..
واضاف في كلمة ألقاها بمحاضرة في مقر حزب جبهة العمل الاسلامي الثلاثاء، إن الحكوماتُ البرلمانيةُ لا تولَدُ منَ العدم، أو بموجبِ صُدفةٍ سياسية، أو في لحظةِ تغييراتٍ تكتيكيةٍ اقتضَتها الضرورةُ الآنيَّةُ للإفلاتِ مِن مأزَقٍ سياسيٍّ ما، إذ أنَّ لهذا الشكلِ منَ الحكوماتِ أساساتٌ ومقوماتٌ لا بدَّ من توافُرِها كضروراتٍ وحتميات، ولها مراحلُ وأطوارٌ تمرُّ بها كي تنضُجَ وتُصبِحَ عميقة، وتنتهي إلى أن تكونَ العامودَ الصَّلبَ الذي تقومُ عليهِ النُّظُمُ السياسيَّة.
وأشار إلى أن مسارَ الحكومةِ البرلمانيةِ في الأردنِّ غامض، قياساً بتجربةِ الحكوماتِ البرلمانيةِ في البرلمانِ الحالي، والتي أدَّت نتيجتُها إلى خروجِ أصواتٍ برلمانيةٍ وسياسيةٍ تقولُ أنَّ هذا المسارَ غيرُ مجدٍ، ولم يُحدِثْ أثراً حقيقيا، لأننا لم نرَ حكومةً برلمانيةً كما تقتضيها شروطُ ومعاييرُ ومقوماتُ الحكوماتِ البرلمانيةِ في الأنظمةِ السياسيةِ ذاتِ الصلة.
وتاليا نص الكلمة ...
في أنظمةِ الحكمِ الديمقراطية، أكانت ملكيةً أم جمهورية، تُعتبرُ الحكوماتُ البرلمانيةُ أساسا متينا في صُلبِ بُنيةِ النظامِ السياسي، ولا يُتَصوَّرُ أنَّ نظاما ديمقراطيا في العالمِ يُمكنُ أن يكونَ قائما وفاعلا دون أن يكون للحكوماتِ البرلمانيةِ مكانُها، وفي بعضِ هذِهِ الأنظمةِ تكونُ السلطةُ كاملةُ أو أغلبُها بيدِ الحكومةِ البرلمانية.
والحكومةُ البرلمانية، في أيِّ نظامٍ سياسي، هي التعبيرُ الحقيقيُّ والعميقُ للشَّراكةِ بين النظام، أيِّ نظام، والقاعدةِ الاجتماعية، فلا تستقيمُ علاقةُ الشَّراكةِ في حالِ كانتِ الأدوارُ في ثناياها مختلةً بين النظامِ والشعبِ الذي يُفترَضُ أنَّهُ مصدرُ السُّلطات، والذي يُفترَضُ أنهُ أساسُ الفعلِ الديمقراطي، وبيدِهِ كاملُ القدرةِ على اختيارِ ممثليه، دونَ تدخلٍ من أيِّ طرف، وصولا إلى تَشَكُّلِ السُّلطاتِ التي هيَ نِتاجُ سُلطَةِ الشعب.
إذن، نفهمُ مِن ذلك، ومِن مراجعةِ النظرياتِ السياسية، على اختلافِ العصورِ والأزمنة.. ومِن مراجعةِ الأنظمةِ السياسيةِ التاريخيةِ وتطوُّرِها.. وعلى اختلافِ الأممِ وطبيعَتِها وتحوُّلاتِها، أنَّ أفضلَ ما تمَّ انتاجُهُ من فكرٍ سياسيٍّ ونظرياتٍ في الحُكمِ تلكَ التي خَلُصَت إلى أنَّ الحكوماتِ البرلمانية، هي أفضلُ أنماطِ الحكم، وأكثرُها توازنا وعدالةً وانتاجا، وأقلُّها فسادا وإفسادا، والأسهلُ محاسبةً ومساءلة.
والحكوماتُ البرلمانيةُ لا تولَدُ منَ العدم، أو بموجبِ صُدفةٍ سياسية، أو في لحظةِ تغييراتٍ تكتيكيةٍ اقتضَتها الضرورةُ الآنيَّةُ للإفلاتِ مِن مأزَقٍ سياسيٍّ ما، إذ أنَّ لهذا الشكلِ منَ الحكوماتِ أساساتٌ ومقوماتٌ لا بدَّ من توافُرِها كضروراتٍ وحتميات، ولها مراحلُ وأطوارٌ تمرُّ بها كي تنضُجَ وتُصبِحَ عميقة، وتنتهي إلى أن تكونَ العامودَ الصَّلبَ الذي تقومُ عليهِ النُّظُمُ السياسيَّة.
وهذا يعني أنَّ مُقوِّماتِ وأساساتِ الحكوماتِ البرلمانية، تحتاجُ إلى توفُّرِ شرطينِ موضوعيين، لا غنى عنهما، ولا تستقيمُ فكرةُ الحكوماتِ البرلمانيةِ بدونِهِما، ولا يمكنُ أن تقومَ حكومةٌ من هذا النمط بأحدِهِما فقط، بل بتوافرِ الشَّرطينِ معا:
أولا: بيئةٌ سياسية.
ثانيا: بيئةٌ تشريعية:
هكذا على الترتيب؛ بيئةٌ سياسية، وتاليا بيئةٌ تشريعية.
والبيئةُ السياسية، بفهمي، هي أن تقتنعَ النُّظُمُ السياسيةُ أولا، بألاّ طريقَ للحكمِ الرشيدِ وتحقيقِ الاستقرارِ بكُلِّ أشكالِهِ السياسيةِ والأمنيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية، مِن دونِ إعادةِ النظرِ في بُنيةِ النظامِ السياسيِّ ونمطِ الحكم، وأن تَصِلَ هذِهِ النُّظُمُ إلى قناعةٍ تامةٍ انها لا تستطيعُ الاستمرارَ بطريقةِ حُكمِها السابقة، وأنَّهُ آنَ أوانُ وضعِ الشَّراكةِ معَ القاعدةِ الاجتماعيةِ على الطريقِ القويم.
إنَّ اقتناعَ النظامِ السياسي، اقتناعا تاما، بالتغييرِ في أسلوبِ الحكمِ وطبيعتِه، ورسوخِ هذِهِ القناعةِ على نحوٍ استراتيجيٍ لا تكتيكي، هيَ الخطوةُ الجوهريةُ المُمَهِّدةُ للانتقالِ مرحلةِ الاقتناعِ والإيمانِ بالتغييرِ وضرورتِهِ إلى بناءِ البيئةِ السياسيةِ العامةِ لاستقبالِ وهضمِ هذا التغييرِ واستيعابه، ومِن ثُمَّ، حمايتِهِ منَ الارتجالِ والقفزاتِ المغامِرَة.
ومِن شأنِ هذا الاقتناع، كشرطٍ أساسٍ لنجاحٍ التوجُّه، وانعكاسِهِ في الخطابِ السياسيِّ العام، أن يُشيعَ جواًّ عاماًّ إيجابيا بينَ القاعدةِ الاجتماعيةِ وقُواها ومُكَوِّناتِها السياسية، وينقُلَها مِن حالةِ الشكِّ وعدمِ اليقين، وغيابِ الصِّدقِيَّةِ والمصداقيةِ إلى حالةٍ نقيضةٍ أساسُها الثقة، والتي هيَ مسألةٌ ستدفعُ هذِهِ القُوى والمُكَوِّناتِ إلى الانخراطِ والتفاعلِ معَ الواقعِ الجديد، منذُ البَدء، والمساهمةِ في إنضاجِهِ وتطويرِه.
فالقُوى الاجتماعيةُ والسياسية، وما يُمثِّلُها مِن مؤسساتِ مجتمعٍ مدني، وفي القلبِ منها القُوى الحزبية، لها مصلحةٌ حقيقيةٌ في التفاعلِ معَ الواقعِ السياسيِّ الجديد، وسَتَمُدُّ يدَها إلى النظامِ السياسيِّ لتأسيسِ المسارِ الجديدِ الذي يُفتَرَضُ فيهِ أن يُلبّي طموحاتِ كلِّ أطرافِه، والتي مُحصلتُها، أي هذِهِ الطموحات، بناءُ دولةٍ ديمقراطيةٍ فيها كلُّ اشتراطاتِ وقِيَمِ الديمقراطيةِ التي تُشرِكُ الجميعَ في صياغَتِها، ومِن ثُمَّ جعلِها مسارا لا تراجُعَ عنهُ ولا انتكاساتٌ فيه.
وإذا ما توافرت البيئةُ السياسيَّة، وعمَّت الثقة، وتعاظمت المصداقية، وتأكدت قناعةُ النُّظُمِ السياسيةِ بتغييرِ أسلوبِ الحكمِ وأنماطِه، فإنَّ الشرطَ الثاني، شرطُ البيئةِ التشريعية، يصبحُ لازما ومكملا للبيئةِ السياسية.
والبيئةُ التشريعية، تعني، بفهمي، أن يدعَمَ دستورُ الدولة، أيِّ دولةٍ وفي أيِّ مكان، وبنصٍّ صريحٍ إقامةَ الحكوماتِ البرلمانية، فغيابُ النصِّ الدستوريِّ الجامعِ المانع، سيكونُ شكلاً من القصورِ والعِلَّةِ التي ستصيبُ بالعطبِ أيَّ محاولةٍ لتصميمِ البيئةِ التشريعيةِ التي مِن شأنِها التأسيسُ لأسلوبِ الحكمِ الجديد.
وإذا ما كان دستورُ أيِّ دولةٍ مصاباً بالقصورِ في معالجةِ آلياتِ تشكيلِ الحكوماتِ البرلمانية، فلن تكونَ هناكَ حكومةٌ حقيقيةٌ مِن هذا النوع، لأن ما يصيبُ الدستورَ مِن عِلَلٍ سينتقلُ آلياً إلى بقيةِ التشريعاتِ الناظمةِ التي تُؤسِّسُ للحكمِ البرلماني، وهذا بذاتِهِ يُقيمُ الدليلَ على أنَّ البيئةَ السياسيةَ لم تتوافرْ بعدُ لانتهاجِ هذا النمطِ مِنْ أنماطِ الحكم.
ففي سياقِ اللازمِ التشريعي، ما بعدَ الدستوري، لابدَّ مِنْ إحداثِ أو إيجادِ تشريعينِ مهِمَّينِ وأساسِيَّينِ عندَ التفكيرِ في تصميمِ مرحلةِ الحكوماتِ البرلمانية، وهُما قانونٌ للانتخاب، وآخرُ للأحزاب، وبغيرِهِما يصعُبُ أو يستحيلُ أنْ تكونَ البيئةُ التشريعيةُ ملائمةً وتتيحَ الانتقالَ الفعليَّ والعمليَّ للدخولِ في تغييرٍ عميقٍ لأسلوبِ الحُكم.
فالحكوماتُ البرلمانية، لها اشتراطاتُها وقِيَمُها، وتتطلَّبُ برلمانا بمواصفاتٍ وسِماتٍ مُعينة، وهذِهِ المواصفاتُ والسماتُ لا تُتاح إلاّ بقانونِ انتخابٍ يُعَظِّمُ من قيمةِ الكُتلِ والتكتلاتِ الحزبيةِ السياسيةِ والبرامجية، وهذهِ لا يمكنُ أنْ نَجِدَها في أيِّ برلمانٍ لا يأخُذُ القانونَ الذي انتُخِبَ على أساسِهِ بحساباتِهِ كلِّها أهميةَ تمهيدِ وتسهيلِ طريقِ الأحزاب، بكل تنويعاتِها وخلفياتِها، للوصولِ إلى ذلكَ البرلمان.
وببساطةٍ شديدة، لا حكومةَ برلمانيةً بلا برلمانٍ حزبيٍّ سياسيٍّ برامجي، تُمنحُ فيهِ أكبرُ الكتلِ الحزبيةِ فرصةَ تشكيلِ الحكومةِ بالائتلافِ معَ كتلٍ حزبيةٍ أخرى، وهذا يتطلَّبُ أنْ نفهمَ جيدا، بل أنْ نقتنعَ وبيقينٍ تامٍّ أنَّ النائبَ الفرديَّ المستقلَّ لا يرفعُ مِنْ سَوِيَّةِ العملِ البرلمانيِّ ولا يمكنُ لبرلمانٍ يغلِبُ عليهِ الطابعُ الفرديُّ المستقلُّ أنْ ينجحَ في بناءِ حكومةٍ برلمانية.
وفضلا عن أنَّ الفرديَّةَ في البرلمانِ لا تُنتِجُ حكومةً برلمانيةً ولا ُ لها بأيِّ حال، فهيَ أيضا السببُ في تردّي الأداءِ التشريعيِّ والرقابي، لأنَّ الأصلَ المفترضَ أنْ يُحكمَ أداءُ النائبِ ببرنامَجٍ يؤثر، بل يتحكَّم، في سلوكِهِ ومواقفِهِ واتجاهاتِه، وهذا البرنامَجُ كي يكونَ فعالاً ويُحدِثُ الفرقَ المأمولَ يحتاجُ إلى كتلةٍ تحمِلُه، والكتلةُ كي تكونَ متماسكةً وقادرةَ لابدَ أن تكونَ مسيَّسَة، والتسييسُ لا تتيحُهُ إلاّ الحزبية.
وهذه تفترضُ أيضا، وجودَ قانونِ أحزابٍ على سَوِيَّةٍ عاليةٍ في نصوصِهِ التي تتيحُ العملَ الحزبيَّ وتمنحُهُ هامِشَهُ ومساحةَ حركتِه، وأنْ يكونَ تشريعاً حزبيا مستقرا، تصوغُهُ الدولةُ بشَراكَةٍ حقيقيةٍ معَ الأحزاب، والمكوناتِ ذاتِ الصلة، لا أنْ يصوغُهُ طرفٌ بمعزلٍ عن الآخرين، ويفرضَهُ على الحياةِ السياسيةِ والحزبيةِ دونَ إلمامٍ جَدِّيٍّ بواقعِ الأحزابِ وظروفِها ومتطلباتِ ديمومتِها وتنامي قوَّتِها وحضورِها.
وتوافرُ البيئةِ التشريعية، من دستورٍ وقانونٍ للانتخاب، وآخرَ للاحزاب، يستدعي منَ الأحزابِ ذاتِها أن تبادرَ إلى إعادةِ النظرِ في واقِعِها وأسلوبِ إدارتِها للحالةِ الحزبيةِ والسياسية، وأنْ تُنضِجَ برنامجا واقعيا.. ومِن قبلِ أن تلتقيَ الأحزابُ ذاتُ التوجُهِ الواحدِ على صيغةِ برنامَجٍ جامع، ويُفضَّلُ أن تندمِجَ معا لتشكِّلَ ثقلا حزبيا قادرا على المنافسة، وأن تمنحَ الشبابَ والمرأةَ فرصة، وأن تتحركَ وتنتقلَ إلى الأطرافِ للانخراطِ بين الناسِ في مواقعِهِم، تحاورُهُمْ في ما تفكرُ فيهِ وتسمعُ مِنَ الناسِ ما يفكرون فيهِ ويطمحونَ إليه.
تأسيساً على ما سبق، ربما نخلُصُ إلى القناعةِ التالية، وهي: أنَّ مقوماتِ الحكومةِ البرلمانيةِ كامنةٌ في وجودِ بيئةٍ سياسيةٍ وأُخرى تشريعية، وفي غيابِ هاتينِ البيئتينِ لا يمكِنُ تصوُّرَ فرصةٍ لوجودِ حكومةٍ برلمانية، فمثلُ هذا الأسلوبِ من أساليبِ الحكمِ لهُ متطلباتٌ ومُقَوِّماتٌ لا يَنشأُ بدونِها، ولو نشأَ بدونِها لا يمكنُ أن يستمِرَّ طويلا نتيجةَ عللٍ واختلالاتٍ مؤكدةٍ في طبيعتِهِ وبُنيتِه.
وهنا أطرحُ التساؤلَ التالي، والذي أظنُّهُ يدورُ في أذهانِكُم الآن: إلى ماذا أصِل، أو نَصِل، إذا ما قاربنا الشروطَ الموضوعيةَ والذاتيةَ التأسيسيةَ للحكومةِ البرلمانية، مع واقِعِنا الوطنيّ..؟!
بموضوعيةٍ تامة، أقولُ أنَّ مسارَ الحكومةِ البرلمانيةِ في الأردنِّ غامض، قياساً بتجربةِ الحكوماتِ البرلمانيةِ في البرلمانِ الحالي، والتي أدَّت نتيجتُها إلى خروجِ أصواتٍ برلمانيةٍ وسياسيةٍ تقولُ أنَّ هذا المسارَ غيرُ مجدٍ، ولم يُحدِثْ أثراً حقيقيا، لأننا لم نرَ حكومةً برلمانيةً كما تقتضيها شروطُ ومعاييرُ ومقوماتُ الحكوماتِ البرلمانيةِ في الأنظمةِ السياسيةِ ذاتِ الصلة.
تلك، بنظري، نتيجةٌ طبيعية، ما كنّا سنصِلُ إلى غيرِها، لأنَّ الشروطَ الموضوعيةَ والذاتيةَ لم تنضُجْ بعدُ لتوليدِ بيئةٍ سياسيةٍ ملائمةٍ وبيئةٍ تشريعيةٍ مناسبةٍ تُمكِّنُ مسارَ الحكوماتِ البرلمانيةِ منَ المُضِيِّ قُدُما.
فكيفَ ببرلمانٍ تركيبتُهُ الحاليةُ- بفعلِ قانونِ الانتخاب- قائمةٌ على النائبِ الفرديِّ المستقل، أو كتلٍ غيرِ مُسيَّسةٍ وغيرِ متماسكةٍ ومفتقدةٌ للبرنامَجِ الواقِعِيِّ أنْ يُنتِجَ حكومةً برلمانية..؟ ومٍنْ ثُمِّ، كيف تكونُ حكومةٌ برلمانيةٌ ليستْ مُشَكَّلَةً من الكتلةِ الأكبرِ والمؤتلٍفَة، بالضرورة، مع كُتلٍ أُخرى..؟ وكيف تكونُ حكومةٌ برلمانيةٌ تَنتُجُ عن برلمان، بالأصل، لا وجودَ حزبياً حقيقياً فيه..؟.
المعنى، هنا، ألاّ شروطَ متوفرة، بالفعل، لإنتاجِ حكوماتٍ برلمانية، وإذا ما عُدنا لفحصِ وتقييمِ سيرةِ الحكوماتِ البرلمانية، المفترضة، في السنواتِ الأخيرة، وبتدقيقِ تلكَ السيرةِ والمسيرةِ نكتشِفُ بِيُسرٍ وسهولةٍ اننا مضينا في مسارٍ غامضٍ غيرِ مُنَسَّقٍ ويفتقدُ المنهجيةَ الصحيحةَ والسليمة، وهو ما أفضى، في مُحَصِّلَتِه، إلى انعدامِ واقعيةِ ومنطقيةِ ما أبدعنا من فكرةٍ عن الحكومةِ البرلمانيةِ التي يبدو ألاّ أصلَ لها في النظرياتِ السياسيةِ والفكرِ السياسي.
لذلك، ربما، عَدَلنا، أو هكذا يُفترض، عن الفكرةِ وتجرِبَتِها، وهذا يُسَجَّلُ لنا لا علينا، لأننا لم نُكمِلِ السيرَ في طريقٍ لا يُنتِجُ واقعا جديدا وإيجابيا بَنَّاءً في أسلوبِ الحكمِ ينقُلُنا من حالٍ لم يَعُدْ يُلبّي الطموحَ وينسجِمُ معَ التطوراتِ ونظرياتِ الحكمِ إلى حالٍ آخرَ أفضلَ يقومُ على تمكينِ شَراكةِ الناسِ في إدارةِ شؤونِهِم وتفاصيلِ حياتِهِم.
والمشكلة، بصراحةٍ تامة، أنَّ قانونَ الانتخابِ المنظور، قد لا يُفضي إلى حالةٍ تأسيسيةٍ جَدِّيةٍ للحكوماتِ البرلمانية، لغيابِ البُنيَةِ التشريعيةِ المناسبة، ولا أظنُّ أنَّ مجلسَ النوابِ سيكونُ بمقدورِهِ أنْ يُغيِّرَ بُنيةَ قانونِ الانتخابِ على النحوِ الذي يتيحُ الفرصةَ لحكومةٍ برلمانيةٍ وازنة.
وأرى أنْ يسبِقَ مناقشةَ قانونِ الانتخابِ في مجلسِ النواب، ندوةٌ وطنيةٌ كبرى، تشاركُ فيها السلطةُ الرسمية، والقوى المجتمعيةُ والسياسية، تناقشُ المسألةَ كلَّها على عدةِ مستويات:
أولا: مناقشةُ البيئةِ الوطنيةِ والسياسيةِ الراهنة، والتحولاتِ الإقليميةِ والدولية، وهل تحتاجُ البيئةُ الوطنيةُ العامةُ إلى تغييرٍ في أنماطِ تشكيلِ الحكومات.
ثانيا: مناقشةُ البيئةِ التشريعية، على اختلافِ مستوياتِها، ومدى ملاءمتِها للمسارِ الديمقراطيِّ بما فيه دورُ القُوى المجتمعيةِ والسياسيةِ ومشاركتُها في صناعةِ القرار.
وثالثا: مناقشةُ المسارِ الذي نريدُ ونطمحُ إليه، وطبيعةِ البيئةِ السياسيةِ والتشريعيةِ التي تناسبُه، وكيفيةِ بناءِ شَراكةٍ وطنيةٍ قادرةٍ على تقديمِ مقترحاتٍ محلِّ إجماعٍ أو توافقٍ لتحقيقِ الطموح.
ويمكنُ لنا، في هذا السياق، أن نَدرُسَ أقربَ التجاربِ إلى واقِعِنا ونظامِنا السياسي، واعتقدُ أنَّ أقربَ هذهِ التجاربِ هيَ التجربةُ المغربية، التي اعتمدتْ نظاما برلمانيا يمنحُ الحزبيةَ فرصتَها الكافية، للمنافسة، ومِن ثُمَّ تكوينِ تكتلاتٍ حزبيةٍ أُتيحَ لها تشكيلَ حكوماتٍ برلمانيةٍ تتحملُ مسؤولياتِها كاملة، وبمقدورِ الناسِ محاسبتَها، وثم معاقبتَها وفقا لآلياتٍ ديمقراطية.
وأظنُّ أنَّ الندوة، وتقييمَ تجاربِ الآخرينَ للاستفادةِ منها، مسألةٌ أساسية، لاستكشاف الواقع، وتقدير متطلبات المستقبل، وسيكون فيها إجاباتٌ عن كلِّ التساؤلاتِ الغامضة، والمسكوتِ عنها، تجاهَ واقِعِنا السياسيِّ وما يعانيهِ من إشكالاتٍ لا يتحمَّلُها طرفٌ واحد، بل كلُّ الأطراف، لأنَّ المسؤولياتِ تتوزعُ بين مراكزَ متعددة، تحتاجُ إلى أن تُراجعَ نفسها وتقول، بصريحِ العبارة، أنها تتحملُ هذا القسطَ أو ذاك، مِنَ المسؤولية..
فبدونِ تقييمٍ واقعيٍّ وموضوعيٍّ وشفافٍّ لايمكنُ أن نُؤسِّسَ لبيئةٍ سياسيةٍ وتشريعيةٍ جديدةٍ بإمكانٍها تقويةَ الوطن، وجعلِهِ على سويةِ تماسكٍ داخليٍّ بمقدورِها أن تُجابِهَ التحدياتِ والأخطار، وقادرةً على الاستجابة، وبمرونة، لكلِّ أشكالِ الاستحقاقاتِ وتداعياتِها..
فنحنُ في بيئةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ تعاني حالةَ سيولةٍ سياسية، وتوتُّراتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ كُلَفُها كبيرةٌ وباهظة، تتطلبُ إشراكَ الجميعِ في صوغِ معادلاتٍ داخليةٍ قادرةٍ على مجابهةِ التحديات، وتحقيقُ ذلكَ يحتاجُ إلى برلمانٍ بمواصفاتٍ وسِماتٍ صحيحة، يُنتِجُ حكومةً بمواصفاتٍ وسِماتٍ صحيحةٍ أيضا، وعدا ذلكَ فالواقعُ غيرُ مريحٍ ويثيرُ القلق.
هذا هوَ فهمي، فيما أدليتُ لكُم به، وحاولتُ من خلالِهِ ملامسةَ ومقاربةَ الأفكار، قَدْرَ المستطاع.. ولعلّي أفدت، وأنا الذي يستفيدُ من محاورتِكُم وسماعِ تصوراتِكُم، فالحوارُ يثري الوعي، ويُعَظِّمُ الفِكرة..
شكرا للإخوةِ المنظمين، على كريمِ الدعوةِ وكرمِ الضيافة.. والشكرُ للإخوةِ الحضورِ وصبرِهِمْ علينا..