من شـرفة على نهر «الهان»
عريب الرنتاوي
جو 24 : من شرفة على نهر “الهان”، أطل من غرفتي في فندق “كونراد” على مشهد بانورامي لمدينة سيؤول، عاصمة كوريا الجنوبية ... ومن الطابق الثاني عشر، في النزل المكوّن من أربعين طابقاً، تبدو الصورة أعم وأشمل، فأنت في مدينة لا تكاد تميزها عن مدن العالم وحواضره الكبرى، ولولا اصطدامك بالحرف الكوري حيثما حللت وارتحلت، لظننت للوهلة الأولى أنك تجول في مدينة أوروبية أو أمريكية كبرى. “الهان” ليس أكبر الأنهار في كوريا ولا أطولها، لكنه منح المدينة مناظر خلابة، ومساحات طبيعية تفتقدها المدن الحديثة بالعادة، وزادت الجسور العريضة والعملاقة التي تربط شطري المدينة بعضها ببعض، من جمال المشهد وهيبته ... لا جسر بمسرب أو مسربين، عشرة مسارب على الأقل، فمن عمل على تأسيس البنية التحتية للعاصمة، كان كريماً وسخياً، أو بالأحرى، كان ذا بصر وبصيرة. استرجع وأنا أتفحص هذا المشهد العمراني المهيب، صوراً احتفظ بها في ذاكرتي، لشرفة على نهر “النيل”، من فندق سمير أميس – الانتركونتننتال في القاهرة ... المدينة التي لا تنام، وتكاد تختنق بملانييها الكثيرة، بالمناسبة سيؤول مدينة لا تهدأ ولا تنام، وملايينها تكاد تعادل ملايين القاهرة، لكنها لا تشعر بالاختناق أبداً، بل تتنفس بملء حريتها وصدرها. على مقربة من “كونراد”، الذي تحيط به غابة من البنايات الزجاجية شاهقة الارتفاع، أتوقف أمام مبنى قديم، من عدة طبقات فقط، لم تصله بعد، رياح الحداثة والعصرنة، أسأل عن المبنى الذي يضم حوانيت ومحالات متواضعة، فيقال لي أنه من “جيل الستينات”، لم تصله بعد، موجة التحديث التي أحالت المدينة خلال نصف قرن فقط، من بلدة شبه زراعية، متخلفة، إلى واحدةٍ من حواضر الكون ... تداعت الصور في ذاكرتي، فرأيت في هذا المبنى المتواضع، صورة عن معظم مباني القاهرة التي كنت على موعد معها، قبل عام فقط، أو أقل قليلا. أعود إلى “مرشدي الأعلى”، الأستاذ “غوغل” لاستنطقه بحثاً عمّا يمكن أن ينعش الذاكرة، ويجلي الصورة، فتأتي النتيجة مفجعة للغاية: فى عام 1965 بلغ الناتج المحلى الإجمالى المصرى نحو 5.1 مليار دولار، بينما كان نظيره في كوريا الجنوبية ثلاثة مليارات دولار فقط، أي بأزيد قليلاً عن نصف الناتج المحلي الإجمالي المصري. اليوم، تقدمت كوريا الجنوبية وتأخرت مصر، الأولى بناتج قومي إجمالي يلامس ضفاف التريليون ونصف التريليون من الدولارات، والثانية، بأقل من ربع هذا المبلغ، مع أن عدد سكان مصر، أقل قليلاً من ضعف عدد سكان كوريا الجنوبية... ويهبط تبعاً لذلك، متوسط دخل الفرد المصري إلى ثلاثة آلاف دولار أو أكثر قليلاً، مقارنة مع 26 ألف دولار معدل دخل الفرد الكوري الجنوبي، وفقاً لأرقام العام 2013. لم يُردد أحدٌ في سيؤول عبارة “كوريا هبة الهان”، مثلما تتردد من دون كلل أو ملل عبارة “مصر هبة النيل” ... هنا سيقول لك إن كوريا هي “هبة هونداي وسامسونج”، في بلد قفز خلال خمسة عشريات من السنين فقط، من بلد زراعي مفقر ومستعمر، إلى بلد يجلس على قدم المساواة، مع الـ 15 الكبار على رأس الاقتصاد الصناعي العالمي، وتنافس جامعاته على مقاعد لها من بين “المائة الكبار” في العالم. نتجادل مع أصدقاء وزملاء في أسباب المعجزة الكورية، ودائماً بالمقارنة مع مصر عربياً، والشطر الشمالي لشبه الجزيرة الكورية آسيوياً .... مصر خاضت حروباً مع إسرائيل، وكوريا خاضت حروباً مع “الشمال”، ولمدة ثلاثة أعوام ... مصر خضعت لاستعمار لا يرحم، وسيؤول تزخر بالمتاحف التي توثق لجرائم الاستعمار الياباني المديد والظالم للبلاد والعباد ... مصر ابتليت بأنظمة ديكتاتورية، وكوريا الجنوبية، لم تخرج من ظلمات “العسكر” إلى أنوار “صناديق الاقتراع”، إلا في مرحلة متأخرة، في المنقلب الثاني من ثمانينيات القرن الفائت فقط. فما هو سر المعجزة والحالة كهذه؟ .... البعض وجد السر في “نظام التعليم”، هنا تنفق الدولة بسخاء على التعليم، وتقدمه على بقية أبواب الصرف ... المدارس والجامعات بيوتات لإنتاج أجيال متعاقبة من الشباب الملتحق بركب العصر واحتياجاته المهنية والعلمية والتكنولوجية ... ساعات دوام طويلة، تستهل جُل نهار الطالب، وأيام عطل لا تزيد عن ستين أو سبعين يوماً في السنة (تذكرت أننا في الأردن نغلق مدارسنا عدداً من الأيام يفوق تلك التي نفتحها بها) ... البعض ردّ المسألة إلى مقاربة لا ترحم مع الفساد والفاسدين والمفسدين في الأرض، حيث تحتل البلاد مكانة متقدمة للغاية على مقياس الشفافية الدولية... نفر آخر من محدثينا بحث عن أسباب المعجزة في خصائص “ثقافية” جعلت من سكان هذه البلاد وجوارها من بوذيين وكونفوشيين، شديدي التمثل لعبارة “العمل عبادة”، قلت ولكنها جزءٌ من إرثنا الديني والثقافي، فقيل لي أننا نكتفي بكتابتها وتعليقها على الجدران، بينما هي هنا، أصبحت قيمة ومعياراً أخلاقياً وثقافياً واجتماعياً، بل وشرط حياة. كوريا الجنوبية، التي تعيش معجزتها الاقتصادية، لم تتطلع شمالاً إلى جارتها ذات “الحكم الشيوعي الوراثي”، الذي تحوّل إلى مادة دسمة، تنسج حولها الغرائب والأساطير، بل ولا تنظر إلى جارتها العملاقة: الصين، التي نجحت بدورها في إنجاز المعجزة الاقتصادية، من دون انفتاح سياسي أو دمقرطة حتى الآن ... كورياً الجنوبية، أتبعت معجزتها الاقتصادية بمعجزة سياسية، عندما تمكنت خلال عشريات ثلاث من السنين فقط (هي بالمناسبة عمر مسارنا الديمقراطي الحديث في الأردن)، إلى ديمقراطية ناجزة، مستوفية لكافة المعايير والمقاييس، وتضع نفسها من دون تردد، بل ويضعها الآخرون من دون “ولكن”، في عداد الديمقراطيات الراسخة.