#فيروز حكاية وطن.. من كسب #السورية إلى #لبنان والعالم
جو 24 : مرة كنت استمع إلى إحدى المحطات الإذاعية، كانت تجري حديثاً مع الفنان العربي الكبير الراحل محمد عبدالوهاب، في سياق الحديث بدأ المحاور يسأل عبدالوهاب عن أصوات أشهر المطربين العرب، فتحدث عبدالوهاب عن خصائص وأهمية صوت أم كلثوم وعبدالحليم وفريد الأطرش ووردة و... ثم صمت، فظهرت الدهشة في صوت المحاور الذي سأل عبدالوهاب باستهجان محاولاً دفعه لاستدراك خطأ قد لا يكون متقصداً الوقوع فيه، فقال له: "لم تتحدث عن صوت فيروز؟" فما كان من عبدالوهاب إلا أن رد عليه بالقول "أنت سألتني عن أصوات البشر، ولم تسألني عن أصوات الملائكة".
هذا الصوت الملائكي، كان يدغدغ الوسن الذي يخالط جفون أعيننا ونحن نعاند ساعة الذهاب إلى النوم عندما كنا أطفالاً، وكنا نختبئ وراء أغنيتها التي أثارت فيها تحدي البقاء في حدود الطفولة ولا نغادرها، ونتمنى لو أننا قادرون على فعل ذلك، فندندن معها:
يا دارة دوري فينا ضلي دوري فينا
تاينسو أساميهن وننسى أسامينا
تعا تا نتخبى م درب الأعمار
وإذا هني كبرو نحنا بقينا صغار
وسألونا وين كنتو وليش ما كبرتو أنتو.. منقلن نسينا
واللي نادى الناس تيكبروا الناس راح ونسي ينادينا
يا دارة دوري دوري موعدنا ع العيد
تا يكبر الدوري ويحمر القرميد
ويا هالصبح الناطر قاعد بالقناطر.. نحنا هلق جينا
حبيبي والليل راحوا ببحر الليل.. نسيوني ع المينا
كنا نحاول – معها – الهرب خلف جدار العمر حتى لا توقفنا حواجز الأيام وشدائدها، نسكن هذه الأغنية وندور حول أنفسنا مع دارتها عكس عقارب الساعة لعل النبوءة تتحقق ونعود بالعمر إلى الوراء أو نبقى نرتع في شقاوة الطفولة عندما ينسانا سيف السنين.
بالأمس، وفي ذكرى مولدها الثمانين (21 نوفمبر 1935) أي قبل ثماني سنوات فقط من ولادة دولة لبنان بإعلان استقلالها في 22 نوفمبر 1943، ومنذ ذلك اليوم والاحتفال بمولدها يحمل بشارة بولادة وطن انتمت له فيروز وحملت اسمه.
من كسب السورية إلى إقليم الخروب في لبنان
وعلى الرغم من أن والدها وديع حداد يعود في نسبه إلى بلدة كسب السورية في الريف الشمالي الغربي لمحافظة اللاذقية من الطائفة السريان الكاثوليك، إلا أنه انتقل مبكراً إلى بلدة الدبية في إقليم الخروب التي تبعد نحو 20 كيلومترا إلى الجنوب من بيروت، وهي قرية مطلة على البحر الأبيض المتوسط وسهل الدامور. هناك تزوج من السيدة ليزا البستاني كريمة إحدى العائلات المارونية في هذه القرية، وهناك ولدت نهاد التي عرفت لاحقا باسمها الفني فيروز عام 1935.
زواجها من عاصي الرحباني وانتقالها إلى انطلياس
وعندما انتقل وديع حداد إلى بيروت لم يفارق ساحل البحر، وكأنه اختار أن يبقى على اتصال مع منبته في كسب التي تمد يدها لتلامس البحر هناك في سوريا، وعندما تزوجت عاصي الرحباني، كان البحر حاضراً بينهما، من بيروت إلى قرية انطلياس، تلك القرية التي لها قصة طويلة مع البحر لا تنتهي مع وقفة عاميتها ضد ظلم الأمير بشير الثاني الكبير1820، أو صوت ذاك الشاب عام 1840الذي قاد ثورة ضد قوات إبراهيم باشا بن محمد علي باشا المصري والذي وقف قبالة شاطئ البحر الذي تحول إلى مدد لقوات إبراهيم باشا ليصيح "يا بحر بيروت بدك ردم" حسب التعبير الذي استخدمه منصور الرحباني في مسرحيته " صيف 840".
فيروز شرط الصحو
منذ أن تفتحت مسامي على الأنثى، وأدرك النبض المضطرب والمتوتر الذي يعتريني عندما أنظر إلى رائعة من روائع الخلق، كانت فيروز شرطاً من شروط الاقتراب، ورحت أحتال على اللاتي لا يرغبن بها، فأعلمهن كيف يفككن خبايا كلامها وأبعاد صوتها وصلاتها للحب.
كنت أحسبها تخاطبني عندما تغني "وقف يا أسمر" واعتقدت لوهلة أنها تعرف سري الصغير بحجم سنواتي الأولى، وأنها فضحت حبي الطفولي الأول عندما تقول "هالبنت يلي بيتها فوق الطريق حملتني اليوم لعيونك سلام".
وكنت أقول وما زلت، من لا يستمع لصوت فيروز في صباحات الأيام ومع انشقاق الجفن عن الجفن، ولا يرتشف صوتها مع قهوته أو فنان الشاي الصباحي فلا داعي أو ضرورة لاستيقاظه من النوم.
أكاد أجزم أن ما من أحد، ولو لمرحلة من حياته، لم تكتمل صباحاته من دون صوتها الملائكي الذي تحول إلى محطة لازمة لكل المحطات الإذاعية، أو افتتاح البث اليومي للمحطات التلفزيونية عندما كانت تعمل لساعات محددة قبل أن تدخل في دائرة البث الدائم 24/24.
هي رفيقة الصباحات، والصوت الذي يأخذك إلى ما وراء الحلم، ويسمو به في محراب صلاتك اليومية، يعطي لبعدك الإنساني معنى آخر مجبولا بالحب واللوعة ونقاء الروح.
تعيد رسم علاقتك بالآخر الحبيب على شروط أكثر نقاء، وتنقل العلاقة المحسوسة به إلى مستويات عالية من الشفافية والوله الذي لا تتردد في أن تذهب معه إلى أقاصي ما يمكن أن يجود به عليك.
لبنان الموصول بهموم أشقائه العرب
رسمت فيروز بصوتها وبالكلمات والقصائد التي غنتها، حدود لبنان الذي تريد وتحب، لبنان الموصول بهموم أشقائه العرب، فغنت له كما غنت لغيره من البلدان العربية من دون أن تدخل في مهاترات الشراء والبيع والتبعية والإسفاف. فكان لبنان إلى جانب سوريا ومصر وعمان والكويت والسعودية وغيرها من الدول العربية حاضراً في "إنشاد" فيروز.
صدحت بقصيدة سعيد عقل:
غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ اضلعي عيدا
وثنت له
أنا لو رحت استرضي الشذا لانتشى لبنان عطرا يا شأم
ورنمت بغداد
بغداد والشعراء والصور ذهب الزمان وضوعه العطر
فيروز القصة
في سن الخامسة استقطبت الانتباه
في سن الخامسة من عمرها، بدأت نهاد حداد تستقطب الانتباه بصوتها المخملي الذي لم يكن قد وصل إلى النضوج بعد وهي تشارك في كورس الإنشاد المدرسي. وحدث أن سمع هذا الصوت أستاذ الموسيقى محمد فليفل، فسحرته الخامة الواعدة، فأشار عليها أن تلتحق بالمعهد الموسيقي اللبناني، فكان له ذلك وراح يعلمها الغناء والنوتة الموسيقية وبدأ بصقل موهبتها الغنائية، فكان أن تميزت بسرعة التقاطها للألحان والإجادة في تأديتها حسب ما وصفها فليفل نفسه.
في سن الخامسة عشرة، في شباط سنة 1950 وقفت فيروز أمام لجنة الاستماع في الإذاعة اللبنانية والمؤلفة من حليم الرومي وميشال خياط ونقولا المنى وخالد ابو النصر، فلم تتردد هذه اللجنة في تبنيها والتوصية باحتضان هذه الموهبة واستشراف مستقبلها الكبير، حسب تعبير حليم الرومي الذي أطلق عليها اسمها الفني فيروز.
وقبل أن تصل فيروز للوقوف أمام لجنة الاستماع، كانت قد مرت بتجربة في جوقة الأناشيد المدرسية والوطنية في الإذاعة اللبنانية تحت إشراف فرقة الأخوين رحباني وفليفل والتي بدأت معها في سن العاشرة.
أغنيتها الأولى
وفي أوائل شهر نيسان 1950 كانت الأغنية الأولى التي غنتها في حياتها تحت اسم فيروز هي "تركت قلبي وطاوعت حبك"، وأتبعت بأغنية "في جو سحر وجمال"، ثم بمحاورة "عاش الورد" التي غنتها مع حليم الرومي، ثم تلتها أغنيتان: الأولى "يا حمام"، والثانية "أحبك مهما أشوف منك" ثم الكثير من الأغنيات الشعبية والخفيفة والراقصة والقصائد والطرب التي قام بتلحينها حليم الرومي، الذي كلف عدداً من ملحني الإذاعة وغيرهم بالتلحين لفيروز، قاصداً بذلك تنويع الأذواق في أغنياتها، بغية عدم تقييدها في مدار الذوق الواحد.
اشتركت فيروز في أكثر من عشرين عملاً مسرحياً غنائياً عرضت ما بين سنة 1957م وسنة 1977 في إطار مهرجانات بعلبك الدولية، ومعرض دمشق الدولي، ونشاطات مسرح البيكاديلي في بيروت.
ومن مسرحياتها: البعلبكية، وجسر القمر، والليل والقنديل، وهالة والملك، والشخص، ويعيش يعيش، وأيام فخر الدين، وعودة العسكر، ورحيل الآلهة، وجسر العودة، وحكاية الاسوارة، وجبال الصوان، وناس من ورق، وناطورة المفاتيح، وصح النوم، والمحطة، وقصيدة حب، ولولو.
"عتاب" انطلاقتها
وكانت أول أغنية سجلتها فيروز على أسطوانة لعاصي الرحباني هي "بلمح الحب بعيونو"، لكنها لم تظهر في الإسواق، إلا أن أغنية "عتاب" التي ألفها ولحنها الأخوان رحباني وأذيعت من إذاعة دمشق وضعتها على بداية الانطلاقة في العالم العربي.
إلا أن الطموح الفني لفيروز دفعها للانطلاق خارج حدود اللغة العربية والعالم العربي، فكانت لها تجارب غنائية في الفرنسية والإنجليزية، عدا بعض التراتيل الدينية باللغة اليونانية.
نالت فيروز العديد من الأوسمة، كما قدمت لها مفاتيح بعض المدن عرفان محبة وتقدير واحترام لفنها، ومن بين الأوسمة التي نالتها وسامان لبنانيان: وسام الاستحقاق الذي تسلمته في عهد الرئيس كميل شمعون، ووسام الأرز من رتبة ضابط أكبر تسلمته في عهد الرئيس شارل حلو.
ويصف الكاتب محمد أبي سمرا صوت فيروز من خلال تحديده لمواصفات الأغنية الرحبانية فيقول: "وقبل كل شيء هناك الصوت الأنثوي الفيروزي الجديد والخاص في خامته وطبقاته الخافتة الحليمة والأليفة. الصوت العذب والحنون والبريء والباعث على الأمل والرضى. الصوت الطري حتى الماء أو النسيم أو الندى، البهي والملون والطيفي، والآتي غالباً من وراء طبقة رقيقة من الضباب. الصوت القمري الهامس والمداعب كضوء شمس صباحات ريفية، والمسائي في حزنه الشفاف، والطالع من زمن ومكان وذكريات وحنين ومشاهد ولحظات عيش. الصوت الذي يوحي لكل مستمع له يتوجه إليه ويخاطبه وحده وبمفرده دون غيره، كأنما يفشي له بسر خاص. لكن الصوت الطالع أيضاً من حياة الناس وطقوسهم وشعائرهم ومواسمهم الجماعية وفرحهم بالعمل والجنى والحياة...".
فيروز ومواقع التواصل الاجتماعي.. و"لا أحب فيروز"
للمرة الأولى هذه السنة، برزت ظاهرة الاهتمام بمولد السيدة فيروز على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة موقع فيسبوك، وغالبية المشاركين في التعليق على ميلاد فيروز ذهبوا وراء الحنين والتفخيم والذكريات وما تمثله من حالة خاصة على علاقة بالمشاعر الإنسانية لدى الكثيرين.
ولم يخرق أو يكسر رتابة هذه الأجواء الاحتفالية التي وصلت حد التقديس لفيروز، سوى الكاتب الصحافي حازم الأمين الذي كتب على صفحته الفيسبوكية كلاماً مغايراً مجاهراً بعدم حبه لفيروز كفكرة فقال: "لا أحب فيروز كفكرة، أما صوتها والموسيقى التي حملته فلطالما أشعراني بشيء جنائزي يصدح في قرية خرافية أهلها بلهاء، صباح كانت أجمل وكانت ممكنة وأقل ادعاء، وعلى فكرة كانت أجمل".
الموقف الذي أعلنه وكتبه الأمين، لا يخلو من بعد سياسي غامض يدركه بعض المتورطين بالعمل السياسي اللبناني، ما يجعل الكلام وإن كان قابلا للمناقشة والموافقة، حاملاً لموقف سياسي من هذه السيدة، ويذهب إلى أبعد من ذلك، إلى حرمان من يحمل رسالة فنية أن يكون له موقف أو رأي سياسي، معارض أو مخالف لموقف الذي يكتب أو يحاول تقويم هذه التجربة أو أي تجربة أخرى، وكأن على المطرب أن يكون صاحب موقف يتوافق مع موقف الطرف صاحب النقد وإلا فإن تجربته ستكون خاضعة للتعديل.
وإن كان ما قام به حازم الأمين قد أزال محاولات إضفاء القدسية في التعامل والتعاطي مع فيروز، فإنه صوب باتجاه مقارنة تحمل الكثير من الصوابية مع الفنانة صباح، إلا أن كلامه الصادم للبعض أثار ضده الكثير من التعليقات الرافضة وحتى المستهجنة، وذهب بعضها إلى البعد السياسي في تفسير موقفه حتى من قبل الموافقين للأمين. فهذه ديانا مقلد زوجة الأمين ترفع صوتها عالياً رافضة لهذه القسوة التي مارسها حازم الذي انحاز إلى الفنان خالد الهبر، فترد عليه كاتبة: " طيب.. رح علي صوت فيروز بالبيت وصادر أي أغنية للهبر إذا كان في..".
البعض من أصدقاء الأمين، اعتبروا أن كلامه صادما، لم يتجرأ قبله أحد.. ولا بعده أحد ... لكنني وإن كنت أميل كثيرا إليه، إلا أنه سبق السيف العذل.. فيروز فاكهة الحياة الأجمل".
فيروز وجدل الحلال والحرام
في أحد الأيام، وأنا ابن رجل دين كان في ردح من حياته كلاسيكياً، ما يعني أن الغناء حرام خاصة صوت المرأة، ضبطني والدي وأنا أسترق السمع إلى كاسيت لفيروز.
كان حينها في غربة عن لبنان بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وكنت أشتاق للعودة التي كانت تبدو صعبة في حينه، نهرني وقال بحزم "هذا حرام وأنت ترتكب معصية".
لم أملك حينها جوابا أمام القطعية التي أحسست معها أنني دخلت النار وجنهم بما فعلت، لكنني قررت في سري أن أذهب إلى حدود الهاوية في الحصول على موقف مغاير.
في المساء، ومع اجتماع العائلة وسيل الذكريات اللبنانية التي حضرت بكل تفاصيلها التي يكثفها الحنين والبعد القصري، استغللت الفرصة السانحة أمامي، فعمدت إلى المسجل وأدرت صوت فيروز على مطلع أغنيتها الشهيرة "يا قمر مشغره ويا بدر وادي التيم"، فساد صمت مطبق على اجتماع العائلة، وعندما لمحت بريق الدمع والحنين في زوايا عيوني الوالد - الإنسان بعيداً عن الوالد – رجل الدين، سألته بخبث "ماذا تقول الآن، هل هذا الصوت حرام؟!" فما كان منه إلا أن طلب مني إيقاف الصوت، ليستكمل بكاءه بصوت مرتفع، ويقول لي" كم نحن مخطئين إذ نحرم أنفسنا من هذا الصوت وما فيه من مواصفات لا تحمل إلا الحب".
عندها فتح سرة ذاكرته، أيام كان في النجف يدرس العلوم الدينية في حوزتها العلمية، فقال لي ولإخوتي في تلك السهرة العائلية "أذكر أن زميلا لنا، هو الشاعر السيد مصطفى جمال الدين، الذي ينتمي إلى منطقة سوق الشيوخ في الناصرية وله وضعية اجتماعية مميزة شعبية ودينية، كان يأتيني في ليالي النجف، في قيضها وقرها، حاملاً لي كلاماً باللهجة اللبنانية، ويطلب مني أن أفك له أسرار قراءتها وفهمها وأبعادها"، وعندما أسأله لمن هذا الكلام، يعود ليقول لي إنها أغنية جديدة لفيروز، أريد أن أفهمها وأن أحفظها عن ظهر قلب، فهي تساهم في تشكيل وعيي الفني والأدبي وتسمو بي إلى أعلى بديلا عن الأصوات التي أسمعها في منتديات النجف.
مصطفى جمال الدين هذا، لم يجد سوى فيروز ليهدي صوتها لنجله "حسن" في عيد مولده، في قصيدة قال فيها:
حسون يا أجمل من كل صغار البلد
يا وردة تفتحت على جبين ويد
ويا شذى تجسدت انفاسه في ولد
يا نعما هزت به فيروز قلب معبد
هذه هي فيروز، فإذا ما كانت الغالبية العظمى تتفق على اعتبارها ظاهرة يصعب أن تتكرر، إلا أنها لا تخلو من أصوات ترفض تحويلها إلى أيقونة أو وضعها في مقام القداسة.
العربية نت
هذا الصوت الملائكي، كان يدغدغ الوسن الذي يخالط جفون أعيننا ونحن نعاند ساعة الذهاب إلى النوم عندما كنا أطفالاً، وكنا نختبئ وراء أغنيتها التي أثارت فيها تحدي البقاء في حدود الطفولة ولا نغادرها، ونتمنى لو أننا قادرون على فعل ذلك، فندندن معها:
يا دارة دوري فينا ضلي دوري فينا
تاينسو أساميهن وننسى أسامينا
تعا تا نتخبى م درب الأعمار
وإذا هني كبرو نحنا بقينا صغار
وسألونا وين كنتو وليش ما كبرتو أنتو.. منقلن نسينا
واللي نادى الناس تيكبروا الناس راح ونسي ينادينا
يا دارة دوري دوري موعدنا ع العيد
تا يكبر الدوري ويحمر القرميد
ويا هالصبح الناطر قاعد بالقناطر.. نحنا هلق جينا
حبيبي والليل راحوا ببحر الليل.. نسيوني ع المينا
كنا نحاول – معها – الهرب خلف جدار العمر حتى لا توقفنا حواجز الأيام وشدائدها، نسكن هذه الأغنية وندور حول أنفسنا مع دارتها عكس عقارب الساعة لعل النبوءة تتحقق ونعود بالعمر إلى الوراء أو نبقى نرتع في شقاوة الطفولة عندما ينسانا سيف السنين.
بالأمس، وفي ذكرى مولدها الثمانين (21 نوفمبر 1935) أي قبل ثماني سنوات فقط من ولادة دولة لبنان بإعلان استقلالها في 22 نوفمبر 1943، ومنذ ذلك اليوم والاحتفال بمولدها يحمل بشارة بولادة وطن انتمت له فيروز وحملت اسمه.
من كسب السورية إلى إقليم الخروب في لبنان
وعلى الرغم من أن والدها وديع حداد يعود في نسبه إلى بلدة كسب السورية في الريف الشمالي الغربي لمحافظة اللاذقية من الطائفة السريان الكاثوليك، إلا أنه انتقل مبكراً إلى بلدة الدبية في إقليم الخروب التي تبعد نحو 20 كيلومترا إلى الجنوب من بيروت، وهي قرية مطلة على البحر الأبيض المتوسط وسهل الدامور. هناك تزوج من السيدة ليزا البستاني كريمة إحدى العائلات المارونية في هذه القرية، وهناك ولدت نهاد التي عرفت لاحقا باسمها الفني فيروز عام 1935.
زواجها من عاصي الرحباني وانتقالها إلى انطلياس
وعندما انتقل وديع حداد إلى بيروت لم يفارق ساحل البحر، وكأنه اختار أن يبقى على اتصال مع منبته في كسب التي تمد يدها لتلامس البحر هناك في سوريا، وعندما تزوجت عاصي الرحباني، كان البحر حاضراً بينهما، من بيروت إلى قرية انطلياس، تلك القرية التي لها قصة طويلة مع البحر لا تنتهي مع وقفة عاميتها ضد ظلم الأمير بشير الثاني الكبير1820، أو صوت ذاك الشاب عام 1840الذي قاد ثورة ضد قوات إبراهيم باشا بن محمد علي باشا المصري والذي وقف قبالة شاطئ البحر الذي تحول إلى مدد لقوات إبراهيم باشا ليصيح "يا بحر بيروت بدك ردم" حسب التعبير الذي استخدمه منصور الرحباني في مسرحيته " صيف 840".
فيروز شرط الصحو
منذ أن تفتحت مسامي على الأنثى، وأدرك النبض المضطرب والمتوتر الذي يعتريني عندما أنظر إلى رائعة من روائع الخلق، كانت فيروز شرطاً من شروط الاقتراب، ورحت أحتال على اللاتي لا يرغبن بها، فأعلمهن كيف يفككن خبايا كلامها وأبعاد صوتها وصلاتها للحب.
كنت أحسبها تخاطبني عندما تغني "وقف يا أسمر" واعتقدت لوهلة أنها تعرف سري الصغير بحجم سنواتي الأولى، وأنها فضحت حبي الطفولي الأول عندما تقول "هالبنت يلي بيتها فوق الطريق حملتني اليوم لعيونك سلام".
وكنت أقول وما زلت، من لا يستمع لصوت فيروز في صباحات الأيام ومع انشقاق الجفن عن الجفن، ولا يرتشف صوتها مع قهوته أو فنان الشاي الصباحي فلا داعي أو ضرورة لاستيقاظه من النوم.
أكاد أجزم أن ما من أحد، ولو لمرحلة من حياته، لم تكتمل صباحاته من دون صوتها الملائكي الذي تحول إلى محطة لازمة لكل المحطات الإذاعية، أو افتتاح البث اليومي للمحطات التلفزيونية عندما كانت تعمل لساعات محددة قبل أن تدخل في دائرة البث الدائم 24/24.
هي رفيقة الصباحات، والصوت الذي يأخذك إلى ما وراء الحلم، ويسمو به في محراب صلاتك اليومية، يعطي لبعدك الإنساني معنى آخر مجبولا بالحب واللوعة ونقاء الروح.
تعيد رسم علاقتك بالآخر الحبيب على شروط أكثر نقاء، وتنقل العلاقة المحسوسة به إلى مستويات عالية من الشفافية والوله الذي لا تتردد في أن تذهب معه إلى أقاصي ما يمكن أن يجود به عليك.
لبنان الموصول بهموم أشقائه العرب
رسمت فيروز بصوتها وبالكلمات والقصائد التي غنتها، حدود لبنان الذي تريد وتحب، لبنان الموصول بهموم أشقائه العرب، فغنت له كما غنت لغيره من البلدان العربية من دون أن تدخل في مهاترات الشراء والبيع والتبعية والإسفاف. فكان لبنان إلى جانب سوريا ومصر وعمان والكويت والسعودية وغيرها من الدول العربية حاضراً في "إنشاد" فيروز.
صدحت بقصيدة سعيد عقل:
غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ اضلعي عيدا
وثنت له
أنا لو رحت استرضي الشذا لانتشى لبنان عطرا يا شأم
ورنمت بغداد
بغداد والشعراء والصور ذهب الزمان وضوعه العطر
فيروز القصة
في سن الخامسة استقطبت الانتباه
في سن الخامسة من عمرها، بدأت نهاد حداد تستقطب الانتباه بصوتها المخملي الذي لم يكن قد وصل إلى النضوج بعد وهي تشارك في كورس الإنشاد المدرسي. وحدث أن سمع هذا الصوت أستاذ الموسيقى محمد فليفل، فسحرته الخامة الواعدة، فأشار عليها أن تلتحق بالمعهد الموسيقي اللبناني، فكان له ذلك وراح يعلمها الغناء والنوتة الموسيقية وبدأ بصقل موهبتها الغنائية، فكان أن تميزت بسرعة التقاطها للألحان والإجادة في تأديتها حسب ما وصفها فليفل نفسه.
في سن الخامسة عشرة، في شباط سنة 1950 وقفت فيروز أمام لجنة الاستماع في الإذاعة اللبنانية والمؤلفة من حليم الرومي وميشال خياط ونقولا المنى وخالد ابو النصر، فلم تتردد هذه اللجنة في تبنيها والتوصية باحتضان هذه الموهبة واستشراف مستقبلها الكبير، حسب تعبير حليم الرومي الذي أطلق عليها اسمها الفني فيروز.
وقبل أن تصل فيروز للوقوف أمام لجنة الاستماع، كانت قد مرت بتجربة في جوقة الأناشيد المدرسية والوطنية في الإذاعة اللبنانية تحت إشراف فرقة الأخوين رحباني وفليفل والتي بدأت معها في سن العاشرة.
أغنيتها الأولى
وفي أوائل شهر نيسان 1950 كانت الأغنية الأولى التي غنتها في حياتها تحت اسم فيروز هي "تركت قلبي وطاوعت حبك"، وأتبعت بأغنية "في جو سحر وجمال"، ثم بمحاورة "عاش الورد" التي غنتها مع حليم الرومي، ثم تلتها أغنيتان: الأولى "يا حمام"، والثانية "أحبك مهما أشوف منك" ثم الكثير من الأغنيات الشعبية والخفيفة والراقصة والقصائد والطرب التي قام بتلحينها حليم الرومي، الذي كلف عدداً من ملحني الإذاعة وغيرهم بالتلحين لفيروز، قاصداً بذلك تنويع الأذواق في أغنياتها، بغية عدم تقييدها في مدار الذوق الواحد.
اشتركت فيروز في أكثر من عشرين عملاً مسرحياً غنائياً عرضت ما بين سنة 1957م وسنة 1977 في إطار مهرجانات بعلبك الدولية، ومعرض دمشق الدولي، ونشاطات مسرح البيكاديلي في بيروت.
ومن مسرحياتها: البعلبكية، وجسر القمر، والليل والقنديل، وهالة والملك، والشخص، ويعيش يعيش، وأيام فخر الدين، وعودة العسكر، ورحيل الآلهة، وجسر العودة، وحكاية الاسوارة، وجبال الصوان، وناس من ورق، وناطورة المفاتيح، وصح النوم، والمحطة، وقصيدة حب، ولولو.
"عتاب" انطلاقتها
وكانت أول أغنية سجلتها فيروز على أسطوانة لعاصي الرحباني هي "بلمح الحب بعيونو"، لكنها لم تظهر في الإسواق، إلا أن أغنية "عتاب" التي ألفها ولحنها الأخوان رحباني وأذيعت من إذاعة دمشق وضعتها على بداية الانطلاقة في العالم العربي.
إلا أن الطموح الفني لفيروز دفعها للانطلاق خارج حدود اللغة العربية والعالم العربي، فكانت لها تجارب غنائية في الفرنسية والإنجليزية، عدا بعض التراتيل الدينية باللغة اليونانية.
نالت فيروز العديد من الأوسمة، كما قدمت لها مفاتيح بعض المدن عرفان محبة وتقدير واحترام لفنها، ومن بين الأوسمة التي نالتها وسامان لبنانيان: وسام الاستحقاق الذي تسلمته في عهد الرئيس كميل شمعون، ووسام الأرز من رتبة ضابط أكبر تسلمته في عهد الرئيس شارل حلو.
ويصف الكاتب محمد أبي سمرا صوت فيروز من خلال تحديده لمواصفات الأغنية الرحبانية فيقول: "وقبل كل شيء هناك الصوت الأنثوي الفيروزي الجديد والخاص في خامته وطبقاته الخافتة الحليمة والأليفة. الصوت العذب والحنون والبريء والباعث على الأمل والرضى. الصوت الطري حتى الماء أو النسيم أو الندى، البهي والملون والطيفي، والآتي غالباً من وراء طبقة رقيقة من الضباب. الصوت القمري الهامس والمداعب كضوء شمس صباحات ريفية، والمسائي في حزنه الشفاف، والطالع من زمن ومكان وذكريات وحنين ومشاهد ولحظات عيش. الصوت الذي يوحي لكل مستمع له يتوجه إليه ويخاطبه وحده وبمفرده دون غيره، كأنما يفشي له بسر خاص. لكن الصوت الطالع أيضاً من حياة الناس وطقوسهم وشعائرهم ومواسمهم الجماعية وفرحهم بالعمل والجنى والحياة...".
فيروز ومواقع التواصل الاجتماعي.. و"لا أحب فيروز"
للمرة الأولى هذه السنة، برزت ظاهرة الاهتمام بمولد السيدة فيروز على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة موقع فيسبوك، وغالبية المشاركين في التعليق على ميلاد فيروز ذهبوا وراء الحنين والتفخيم والذكريات وما تمثله من حالة خاصة على علاقة بالمشاعر الإنسانية لدى الكثيرين.
ولم يخرق أو يكسر رتابة هذه الأجواء الاحتفالية التي وصلت حد التقديس لفيروز، سوى الكاتب الصحافي حازم الأمين الذي كتب على صفحته الفيسبوكية كلاماً مغايراً مجاهراً بعدم حبه لفيروز كفكرة فقال: "لا أحب فيروز كفكرة، أما صوتها والموسيقى التي حملته فلطالما أشعراني بشيء جنائزي يصدح في قرية خرافية أهلها بلهاء، صباح كانت أجمل وكانت ممكنة وأقل ادعاء، وعلى فكرة كانت أجمل".
الموقف الذي أعلنه وكتبه الأمين، لا يخلو من بعد سياسي غامض يدركه بعض المتورطين بالعمل السياسي اللبناني، ما يجعل الكلام وإن كان قابلا للمناقشة والموافقة، حاملاً لموقف سياسي من هذه السيدة، ويذهب إلى أبعد من ذلك، إلى حرمان من يحمل رسالة فنية أن يكون له موقف أو رأي سياسي، معارض أو مخالف لموقف الذي يكتب أو يحاول تقويم هذه التجربة أو أي تجربة أخرى، وكأن على المطرب أن يكون صاحب موقف يتوافق مع موقف الطرف صاحب النقد وإلا فإن تجربته ستكون خاضعة للتعديل.
وإن كان ما قام به حازم الأمين قد أزال محاولات إضفاء القدسية في التعامل والتعاطي مع فيروز، فإنه صوب باتجاه مقارنة تحمل الكثير من الصوابية مع الفنانة صباح، إلا أن كلامه الصادم للبعض أثار ضده الكثير من التعليقات الرافضة وحتى المستهجنة، وذهب بعضها إلى البعد السياسي في تفسير موقفه حتى من قبل الموافقين للأمين. فهذه ديانا مقلد زوجة الأمين ترفع صوتها عالياً رافضة لهذه القسوة التي مارسها حازم الذي انحاز إلى الفنان خالد الهبر، فترد عليه كاتبة: " طيب.. رح علي صوت فيروز بالبيت وصادر أي أغنية للهبر إذا كان في..".
البعض من أصدقاء الأمين، اعتبروا أن كلامه صادما، لم يتجرأ قبله أحد.. ولا بعده أحد ... لكنني وإن كنت أميل كثيرا إليه، إلا أنه سبق السيف العذل.. فيروز فاكهة الحياة الأجمل".
فيروز وجدل الحلال والحرام
في أحد الأيام، وأنا ابن رجل دين كان في ردح من حياته كلاسيكياً، ما يعني أن الغناء حرام خاصة صوت المرأة، ضبطني والدي وأنا أسترق السمع إلى كاسيت لفيروز.
كان حينها في غربة عن لبنان بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وكنت أشتاق للعودة التي كانت تبدو صعبة في حينه، نهرني وقال بحزم "هذا حرام وأنت ترتكب معصية".
لم أملك حينها جوابا أمام القطعية التي أحسست معها أنني دخلت النار وجنهم بما فعلت، لكنني قررت في سري أن أذهب إلى حدود الهاوية في الحصول على موقف مغاير.
في المساء، ومع اجتماع العائلة وسيل الذكريات اللبنانية التي حضرت بكل تفاصيلها التي يكثفها الحنين والبعد القصري، استغللت الفرصة السانحة أمامي، فعمدت إلى المسجل وأدرت صوت فيروز على مطلع أغنيتها الشهيرة "يا قمر مشغره ويا بدر وادي التيم"، فساد صمت مطبق على اجتماع العائلة، وعندما لمحت بريق الدمع والحنين في زوايا عيوني الوالد - الإنسان بعيداً عن الوالد – رجل الدين، سألته بخبث "ماذا تقول الآن، هل هذا الصوت حرام؟!" فما كان منه إلا أن طلب مني إيقاف الصوت، ليستكمل بكاءه بصوت مرتفع، ويقول لي" كم نحن مخطئين إذ نحرم أنفسنا من هذا الصوت وما فيه من مواصفات لا تحمل إلا الحب".
عندها فتح سرة ذاكرته، أيام كان في النجف يدرس العلوم الدينية في حوزتها العلمية، فقال لي ولإخوتي في تلك السهرة العائلية "أذكر أن زميلا لنا، هو الشاعر السيد مصطفى جمال الدين، الذي ينتمي إلى منطقة سوق الشيوخ في الناصرية وله وضعية اجتماعية مميزة شعبية ودينية، كان يأتيني في ليالي النجف، في قيضها وقرها، حاملاً لي كلاماً باللهجة اللبنانية، ويطلب مني أن أفك له أسرار قراءتها وفهمها وأبعادها"، وعندما أسأله لمن هذا الكلام، يعود ليقول لي إنها أغنية جديدة لفيروز، أريد أن أفهمها وأن أحفظها عن ظهر قلب، فهي تساهم في تشكيل وعيي الفني والأدبي وتسمو بي إلى أعلى بديلا عن الأصوات التي أسمعها في منتديات النجف.
مصطفى جمال الدين هذا، لم يجد سوى فيروز ليهدي صوتها لنجله "حسن" في عيد مولده، في قصيدة قال فيها:
حسون يا أجمل من كل صغار البلد
يا وردة تفتحت على جبين ويد
ويا شذى تجسدت انفاسه في ولد
يا نعما هزت به فيروز قلب معبد
هذه هي فيروز، فإذا ما كانت الغالبية العظمى تتفق على اعتبارها ظاهرة يصعب أن تتكرر، إلا أنها لا تخلو من أصوات ترفض تحويلها إلى أيقونة أو وضعها في مقام القداسة.
العربية نت