jo24_banner
jo24_banner

المـُعْـلـَنْ والمخفي في مستقبل سوريا

د. لبيب قمحاوي
جو 24 :


سوريا التي نـَعْرِف قد إنتهت، وسوريا التي لا نعرف ولا نريد أن نعرف هي الآن قيد التشكيل، وكذا حال العراق وليبيا واليمن ولبنان وربما تونس والسعودية والأردن والجزائر.

يشعر معظم العرب بحالة متفاقمة من العجز وفقدان القدرة على إستشراف المستقبل أو إستيعاب حقيقة ما يجري الآن هنا وهناك في بلاد العَرَبْ وخصوصاً في سوريا. وأدى هذا الوضع إلى تبلور حالة متفاقمة من الإحباط وفي بعض الأحيان الغضب مما ساهم في دفع الكثيرين بإتجاه تنظيمات متطرفة مثل داعش أملاً في التنفيـس عن غضبهم أو في التوصل إلى أجوبة للعديد من التساؤلات التي تـُبْحـِرْ في عقول الكثيرين دون إجابة. وهذا الوضع شـَكـَّلَ في بداياته مخرجاً للنظام السوري من أزمته الطاحنة التي وضعته في حالة من الشلل الذي غالباً ما يرافق واقع "لا غالب ولا مغلوب". إن دَفـْعَ الأمور في إتجاه حصر الخيار أمام الشعب السوري والعالم الخارجي إمـَّا في بقاء النظام أو في سقوط البلد بيد داعش قد أدت إلى تأزم وضع الإقتتال الداخلي في سوريا وفتح المجال أمام قوى عديدة للتدخل العسكري في الشأن السوري على قاعدة مكافحة الإرهاب والتصدي لتنظيم داعش دون الحاجة لأخذ موافقة الحكومة السورية الحالية على فعل ذلك.

وهكذا، فإن الأرض والأجواء السورية أصبحت الآن مستباحة لكل من يريد أن يتدخل عسكرياً بحجة ضرب داعش والإرهاب. والدول الغربية تسعى إلى تشكيل تحالفات عسكرية خارج إطار الشرعية الدولية بهدف تنفيذ مخططاتها على الأرض السورية دون أي إعتبار للسيادة السورية. ومن الواضح أن النظام السوري يحصد ما زرعه عندما إعتبر سياسة حصر الخيار أمام الشعب السوري بين بقاء النظام أو قدوم داعش هي خشبة النجاة وذلك بعد أن تغاضى النظام نفسه عن بدايات نشاط داعش في الأراضي السورية، هذه الخشبة أصبحت الآن العذر المـُحِلّْ لقصف سوريا أو تدميرها أو تقسيمها، دون أن تشكل ضمانة حقيقية لبقاء النظام. وفي الواقع فإن دور داعش ساهم في إعطاء العـُذر للقوى الخارجية لإستباحة السيادة السورية أكثر من مساهمته في تعزيز فرص بقاء نظام الأسد.

خلافاً لما يعتقده الكثيرون، فإن التواجد الروسي في سوريا ليس تطوراً جديداً، فالوجود الروسي هناك يعود لسنوات طويلة. والتطور الجديد يتمثل بتسمين ذلك الوجود وتفعيل دوره ونشاطه العسكري بشكل ملحوظ ومُعـْلـَنْ. وهذا التطور الأخير لم يأت مفاجئة لأمريكا، ولكنه جاء بعلمها وبالتنسيق معها، مما يعني أنه لا يشكل صورة من صور التنافس الذي مَـيـﱠزَ حقبة الحرب الباردة، ولكنه يعكس التوجه الجديد في التنسيق بين مصالح الدول الكبرى على حساب الدول الصغيرة أو الفاشلة.

يرتكز الموقف الروسي تجاه سوريا على حماية المصالح الروسية لا أكثر ولا أقل. وفي ظل تفاقم الحرب الأهلية في سوريا وإصرار الأسد على البقاء في الحكم بأي ثمن، فإن ذلك قد أدى إلى إختصار الطريق أمام روسيا وحصر الثمن الذي ستدفعه مقابل تحقيق مصالحها هناك بمجرد دعم الأسد والحفاظ على نظامه ولو مؤقتاً.

المشكلة لم تعد الآن محصورة في بشار الأسد أو بقاءه في الحكم أو مغادرته له. فمصير الأسد قد أصبح أحد أدوات التفاوض بيد روسيا وبقاءه من عدمه أصبح مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بمصالح روسيا ولا علاقة له بالعواطف أو الإيديولوجيا. إن خشية روسيا من أن يتأثر وجودها في سوريا فيما لو جاء نظام حكم بديل للأسد يطالبها بالرحيل قد يكون السبب الحقيقي وراء الدعم الروسي للأسد، وقد يكون السبب وراء إستعداد روسيا لتقسيم سوريا إلى دويلات يكون أهمها الدولة العلوية في مناطق تواجد القواعد العسكرية الروسية غربي سوريا إذا ما تطلب الأمر ذلك.

إن إستبدال الهيمنة الأمريكية بالهيمنة الروسية أو العكس، أو الوقوع في فخ حَصْر الخيار أمام السوريين بين هذا وذاك ليس هو الحل ولا يجب أن يكون الطريق إلى الحل أمام أي دولة عربية. وما يجري في سوريا ليس ببعيد عن ذلك. فما يجري في الحقيقة يجعل من إطلالة الحاضر على المستقبل السوري إطلالة مأساوية.

لقد تحولت الحرب الأهلية السورية إلى حرب إقليمية على الأرض السورية بحكم تضارب المصالح بين دول إقليمية ودولية في حين أن العرب في غياب شبه تام عن تطورات ما يجري ولم يتعدى دورهم دور التبعية للآخرين، وغاب عن ساحة الصراع أي دور عربي مؤثر بإتجاه المحافظة على وحدة الأرض السورية والإصرار على عدم السماح بتقسيمها.

الحوار أو الصراع الدائر حالياً حول سوريا يأخذ أشكالاً متعدده ويدور في دوائر مختلفة منها ما هو بين أمريكا وروسيا ، أو بين روسيا وتركيا أو بين إيران والسعودية إلخ ... وفي الوقت نفسه فإن دولاً عدة منها فرنسا وبريطانيا وأمريكا وتركيا والسعودية تتكلم عن سوريا ولكن لا أحد يتكلم معها أو يستشيرها في قرارات واجراآت تمس الوطن السوري والسيادة السورية أو ما تبقى منها. وفي المقابل لا يصدر عن الحكم السوري أي تصريح أو قرار ذا قيمة أو أثر. وقد تم ملاحظة ذلك بشكل واضح مؤخرا عقب إسقاط طائرة سوخوي الروسية من قبل تركيا وغياب سوريا الكامل عن ما جرى وتبعاته.

إن التصعيد الذي جرى مؤخراً على الجبهة السورية بين كل من روسيا وتركيا قد نقل مستوى الصراع الفعلي من صراع محلي إلى صراع إقليمي – دولي خصوصاً بعد أن أدى إسقاط تركيا لتلك الطائرة إلى رفع مستوى أسلحة الردع المستعملة في المنطقة إلى المستوى الإستراتيجي المتطور عندما قررت موسكو إرسال صواريخ S400 الإستراتيجية إلى قواعدها في سوريا دون استشارة الحكومة السورية ودون خضوع تلك الأسلحة أو كيفية إستعمالها للإشراف السوري . وهذا الوضع يعيد سوريا ثمانون عاماً إلى الوراء وإلى حقبة الإستقلال الشكلي وهيمنة المندوب السامي على إدارة شؤون الدولة.

المؤكد أن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لن يخوضا أي نزاع عسكري مباشر من أجل سوريا أو من أجل أي دولة عربية. وإذا ما كان هنالك أي داع لخوض معارك عسكرية فإن ذلك سوف يتم بأيدي عربية بحيث يقتل العرب بعضهم البعض خدمة لأهداف دول أجنبية كما يجري الآن في سوريا واليمن وإلى حد ما في ليبيا.

تسعى روسيا إلى تحقيق مجموعة من الأهداف تعكس أولويات مصالحها الوطنية من وراء التدخل في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا. إن ما تقدمت به الحكومة الروسية من تبريرات للشعب الروسي بضرورة القضاء على آلاف المواطنين الشيشان المنضمين تحت لواء تنظيم داعش في سوريا قبل عودتهم إلى الشيشان وقيامهم بعمليات ضد روسيا أو الجيش الروسي شـَكـﱠلت مَدْخلاً لإقناع الرأي العام الروسي بأهمية التدخل في الصراع الدائر في سوريا والقضاء على تنظيم داعش في مهده. ولكن ذلك لا يشكل السبب الوحيد أو الحقيقي والإستراتيجي كما تمليه المصالح الروسية الإستراتيجية.

يعتبر الحفاظ على التواجد العسكري الروسي في سوريا من خلال الحفاظ على القواعد العسكرية في طرطوس واللاذقية أولوية قصوى كون التواجد في المياه الدافئة هو هدف روسي إستراتيجي وتاريخي . وهذا الهدف يتطلب إستمرار وجود نظام حكم سوري موالٍ لروسيا وأهدافها . وفي حال تعذر ذلك ، فإن الخيار الروسي قد يتجه نحو تفكيك الدولة السورية وخلق دولة علوية في غرب سوريا تكون عبارة عن دويلة حليفة لروسيا بقاءها يعتمد على الحماية والدعم الروسيين . ومن هنا فإن مستقبل سوريا ووحدة أراضيها مرهون بمدى قناعة روسيا بأن ما ستؤول إليه أمور الحكم فيها لن يتعارض وأهدافها.

إن إعادة الهيبة للدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط ولوضع روسيا الدولي بالإضافة إلى السيطرة على موارد الغاز الهائلة تحت مياة البحر المتوسط والتي سوف تخضع لكل من يسيطر على الساحل السوري تعتبر فوائد إضافة على هامش الأهداف الرئيسية لروسيا.

الجميع ينظر إلى مصالحه بجدية والجميع يعامل وطنه بإحترام ويضع مصالح الوطن والمواطنين أولاً ، ولكن العرب يفتقدون إلى ذلك وينظرون إلى أوطانهم بإعتبارها أرضاً وبشراً في خدمة السلطان وليس أوطاناً يقوم السلطان بخدمتها أو يزول إذا ما فشل.


* الكاتب مفكر ومحلل سياسي
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير