دراسة علمية حول الإصلاح الدستوري في الأردن
جو 24 : نشرت المجلة الدولية في السياسة العامة: Digest of Middle East Studies التي تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية، دراسة علمية لكل من الدكتور محمد تركي بني سلامة والدكتور عزام علي العنانزه من جامعة اليرموك بعنوان: الإصلاحات الدستورية في الأردن: تحليل دقيق.
حيث هدفت الدراسة إلى إلقاء الضوء على تجربة الإصلاح الدستوري في الأردن في عهد الملك عبد الله الثاني في ظل الربيع العربي، وسعت لتقديم صورة شاملة ومتكاملة لهذه المحطة الهامة من مسيرة الإصلاح والديمقراطية في البلاد، باعتبار الدستور هو العمود الفقري في النظام السياسي، وذلك من خلال استعراض سريع للرحلة الدستورية في البلاد منذ صدور أول دستور في تاريخ الأردن عام 1928 حتى عام 2015، ثم تناولت بالتحليل أبرز التعديلات الدستورية الأخيرة، بالتعرف على أهم معالم هذه التعديلات ونقاط القوة والضعف فيها وما تمثله من فرص للنجاح أو مخاطر للفشل، وردود الفعل المؤيدة والمعارضة لهذه التعديلات.
وأشارت الدراسة إلى أنه في إطار مسيرة الإصلاح السياسي التي انتهجها النظام السياسي الأردني في عهد الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في مرحلة الربيع العربي، استجابة للضغوط والمطالب الشعبية المتزايدة نحو إصلاح سياسي حقيقي في البلاد، تأتي التعديلات الدستورية التي تعرض لها الدستور الأردني في عهد الملك عبد الله الثاني ابن الحسين على رأس قائمة الإصلاحات السياسية التي شهدتها البلاد، وذلك لسمو الدستور باعتباره سيّد القوانين، حيث يعلو حكمه فوق الأحكام الأخرى، ويمثل المرجعية الأولى في تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ومؤسسات المجتمع والدولة بأجهزتها المختلفة، ويرسم الخطوط العامة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ويرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم. فالإصلاح السياسي المنشود، والتحول الديمقراطي الذي يسعى الأردن إلى تحقيقه ينطلق أساساً من الدستور، فهو الحلقة الأولى في سلسلة الإصلاح، ولا يمكن إحداث إصلاح سياسي حقيقي في الأردن في ظل النصوص الدستورية التي تعطي السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة منها حل مجلس النواب، وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وكذلك صلاحية إصدار القوانين المؤقتة وغيرها من الصلاحيات، وذلك سنداً للدستور الأردني، كما أنه لا فائدة ترجى من الإصلاح الدستوري إذ لم يكن وليد إرادة سياسية جادة ورغبة حقيقية في إحداث تطور سياسي إيجابي في المجتمع.
وبينت الدراسة أنه يرى البعض أن الإصلاحات السياسية التي أطلقها الملك عبد الله الثاني بن الحسين ومنها التعديلات الدستورية خطوة هامة باتجاه تطور وتعزيز المسيرة الديمقراطية بما ينعكس إيجاباً على المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويؤسس لإحداث تنمية شاملة ومستدامة في البلاد، وإقامة دولة القانون والمؤسسات والحق والعدل، وإنشاء مجتمع العدالة والمساواة الذي يحترم كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته، وبالتالي فإن هذا الفريق ينظر إلى التعديلات الدستورية الأخيرة بنوع من الرضا والإعجاب باعتبارها ستنقل البلاد والعباد من حال إلى حال أحسن.
غير أنَّ المعارضة السياسية والحراك الشعبي والقوى الوطنية والنخب المثقفة في البلاد لا تزال تطالب بإجراء المزيد من الإصلاحات السياسية، وفي مقدمتها التعديلات الدستورية، وترى أن التعديلات التي تعرض لها الدستور شكلية، ولا تنسجم مع المبادئ الديمقراطية وعلى رأسها الأمة مصدر السلطات، وترى المعارضة السياسية أنَّ هذه التعديلات هي إجراء يهدف إلى الهروب إلى الأمام، وأنَّ الحقوق تُنتَزع ولا تُمنَح، ولذلك تطالب بإجراء وجبة ثانية من التعديلات الدستورية، وهو الأمر الذي لم يرفضه النظام السياسي، ولكنه لم يقرّه في الوقت نفسه.
وخلصت الدراسة إلى أن الإصلاح الدستوري هو مفتاح الإصلاح الحقيقي المنشود، واستعراض الرحلة الدستورية في الدولة الأردنية منذ صدور أول دستور في تاريخ البلاد عام 1928 حتى الوقت الحاضر الذي شهد إجراء تعديلات كبيرة على الدستور، يبين أن التغيير والتعديل سواء كان إيجابياً أم سلبياً هو صفة تلازم الدساتير الأردنية، وهذا نتاج ظروف البلاد المتأزمة أكثر منها تطوراً طبيعياً. وأنّ التعديلات الدستورية الأخيرة فيها الكثير من الإيجابيات، لا سيما أنها اشتملت على ضوابط لحل مجلس النواب، وتعزيز استقلال السلطة القضائية وبسط ولايتها على جميع الأشخاص في جميع القضايا الجزائية والحقوقية مما يؤكد سيادة القانون على الجميع، وعدم استثناء الوزراء.
وتعزيزاً لاستقلال السلطة القضائية تمّ إنشاء المحكمة الدستورية لتولي تفسير الدستور والرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، وتم إنشاء الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات لمنع تزويرها على النحو الذي ساد في الماضي، وبذلك يمكن القول أن التعديلات السابقة قد وضعت حداً لبعض مظاهر هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وإعادة نوعاً من التوازن المفقود بين السلطات الثلاث، إلا أن هذه التعديلات بقيت منقوصة ولم تؤدِّ إلى القضاء كلياً على كافة مظاهر تغوّل أو هيمنة السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى، لا سيما السلطة التشريعية بشكل يمس هيبة واستقلال السلطة التشريعية.
غير أن الدراسة أكدت على أن الدستور الذي صدر عام 1952 قد حدّد هوية الحكم في البلاد بأنه نيابي ملكي وراثي وعليه فإن من مقتضيات الحكم النيابي في الدستور أن يجد مفهوم تداول السلطة بطريقة ديمقراطية، ويتم تأليف الحكومات من الأكثرية النيابية، وتمارس الحكومة صلاحياتها الدستورية كسلطة تنفيذية بعد نيلها الثقة وتخضع في جميع أعمالها وقراراتها للرقابة والمحاسبة من قبل مجلس النواب، إضافة إلى رقابة القضاء على قراراتها الإدارية، ورقابة الرأي العام بمختلف مؤسساته على أدائها، وعلى هذا الأساس يجب أن يهدف الإصلاح الدستوري إلى تحقيق إرادة الشعب الأردني باعتباره مصدر السلطات جميعها، حيث يتولى مجلس الوزراء إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية بحيث ينأى الملك بنفسه عن ممارسة أي سلطة تنفيذية فعلية، فهو راس الدولة ورمز وحدتها واستمراريتها وهو حامي الدستور، وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية ويقف على مسافة واحدة من جميع السلطات، وبذلك يتحقق مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية. وهذه جميعاً تعد خطوات إصلاحية تسهم في إقامة حكم مدني ديمقراطي تعددي يستند إلى طموحات الشعب العربي الأردني وتطلّعاته في كافة ارجاء البلاد.
كما بينت الدراسة أن النصوص الدستورية شيء والممارسة على أرض الواقع شيء آخر مختلف تماماً، فاحترام حقوق الأفراد لا يتحقق بتوفر النصوص الدستورية الضامنة لها فقط، وإنما تحتاج بالضرورة أن يكون نظام الحكم قائماً على أنه نابع من الجماعة يخضع معها لسيادة القانون، وبالتالي تصبح النصوص الدستورية واقعاً ملموساً لا من حيث الوجود النظري فقط، ولكن من حيث التمتع بها في الواقع، وبذلك تتوافق النصوص الدستورية مع الواقع العملي عن طريق احترامها في الممارسة والتطبيق، وهذا لم يتحقق في الأردن حتى الآن، فعلى سبيل المثال يشهد الأردن منذ ما يقارب ثلاثة أعوام حراكاً شعبياً يطالب بالإصلاح ومكافحة الفساد، وفي إطار تعامل الحكومة مع الناشطين في الحراك فقد تمّ اعتقال العديد من المواطنين وتعرضوا أثناء الاعتقال للتعذيب والإيذاء وذلك على النحو الذي وثّقه تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان، وهو مؤسسة حكومية، كما تمّ تقديم عدد منهم إلى محكمة أمن الدولة، وهي محكمة عسكرية في الوقت الذي نصت تعديلات الدستور على عدم محاكمة المدنيين إلا أمام محاكم مدنية، وتمّ إغلاق قناة جوسات الفضائية بدون أمر قضائي لبثها حلقة حوارية لبعض أعضاء المعارضة في البلاد، ولا تزال الحكومة ترفض إنشاء نقابة لأساتذة الجامعات، وتتدخل الأجهزة الأمنية في شؤون الحياة اليومية للمواطنين بشكل سافر في مخالفة صريحة لأحكام الدستور التي جعلت هدف الأجهزة هو فقط حماية المواطنين وصيانة حريتهم لا تقويضها، حيث تتجرأ الأجهزة الأمنية على حقوق المواطنين وحرياتهم وبأساليب تنم عن ذهنية عرفية، حيث التنصت على المخاطبات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال، وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب، فالحل الأمنيّ هو الحل الأول والأخير لأي معضلة مهما كانت، فيما المجتمع مجرد من أي قوة لمقاومة السطوة الأمنية وتجاوزاتها، بحيث أصبح حلم التحول من دولة المخابرات إلى مخابرات الدولة حلم بعيد المنال، كل هذا في عهد التعديلات الدستورية الأخيرة.
ووضحت الدراسة أنّ النظام السياسي في الأردن يجيد الحديث عن الإصلاح، ولعل الأوراق الملكية التي طرحها الملك عبد الله للنقاش، وتصريحات كبار المسؤولين الأردنيين خير شاهد على ذلك، ولكن على الصعيد العملي يبدو أنه حتى الآن لا توجد إرادة سياسية جادة لتحقيق الإصلاح المنشود، فالتعديلات الدستورية الأخيرة عكست رؤية النظام السياسي، ولم تتضمن المطالب الرئيسية للقوى الوطنية، كما أنها لم تكبح جماح السلطة أو تحد من فسادها واستئثارها بالقرار النهائي.
كما بينت أن التعديلات المنقوصة التي جرت على الدستور الأردني مؤخراً، قد جاءت نتيجة الربيع العربي والحراك الشعبي الأردني المطالب بإصلاحات سياسية وتعديلات دستورية جوهرية تعيد السلطة إلى الشعب، فالتعديلات التي تمت يمكن أن تكون خطوة صحيحة على طريق الإصلاح، ولكن ليس نهاية المطاف، والحقيقة أنّ المستفيد الأول من إجراء تعديلات جوهرية هو النظام السياسي حيث يعزز شرعيته ويؤكد فاعليته، ويستطيع أن يقدم نفسه بكل فخر كدولة نموذج، ومثال يحتذى في المنطقة، فينال رضى الشعب وإعجاب العرب والعالم.
وخلصت الدراسة إلى التوصيات التالية:
1. احترام أحكام الدستور والالتزام بها من قبل السلطات الثلاث ووقف العبث بالدستور، فالدستور هو الضمان الأكبر لاحترام حقوق الأفراد وحرياتهم، وذلك بما يسهم في تعزيز مكانة الدستور في قلوب ونفوس المواطنين والمسؤولين على حد سواء، وإنهاء التعارض بين النصوص الدستورية والترجمة العملية لها على أرض الواقع، فالخلل الذي يعاني منه الأردن هو في الممارسة أكثر من النصوص الدستورية.
2. اعتبار الإصلاح الدستوري هو المدخل الحقيقي والأساسي للإصلاح السياسي وكافة أنواع الإصلاح الأخرى، وبالتالي لا بدّ من إجراء إصلاح دستوري يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات في الدولة، ويضع قواعد واضحة لإصلاح سياسي شامل يوفر الضمانات لحماية الحقوق والحريات العامة، ويعيد التوازن للعلاقة بين السلطات الثلاث، ويرسخ استقلالها ومبدأ الفصل بينها، ويشتمل على ضمانات تعزز النهج الديمقراطي في الحكم، على أساس التداول السلمي للسلطة والتلازم بين السلطة والمسؤولية، بحيث يتم إلغاء التعديلات التي طرأت على دستور عام 1952 وأفقدته سماته الديمقراطية، وأخلت بالتوازن بين السلطات، وإلغاء الأحكام الدستورية التي فقدت مسوغات وجودها، وتعديل الأحكام الأخرى في ضوء التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وقع خلال السنوات الستين التي مضت على وضع الدستور، ليصبح بعد تعديله أساساً صالحاً لنظام نيابي ملكي دستوري في دولة ديمقراطية.
3. العمل على تعزيز استقلال ونزاهة القضاء وتطوير آليّات تطبيق القوانين، وإصلاح النظام القضائي بما يضمن وحدة السلطة القضائية ويعيد للقضاء هيبته واحترام قراراته ترسيخاً لشرعية الدولة، وتحقيقاً لمبدأ المشروعية باعتبارها ركناً أساسياً لتعزيز حكم القانون، وإلغاء جميع أنواع المحاكم الاستثنائية المختصة بمحاكمة المدنيين، وذلك بشكل يتواءم والتزامات الأردن الناشئة عن اتفاقيات حقوق الإنسان.
4. تفعيل دور السلطة التشريعية في الإصلاح الدستوري المنشود بحيث يمارس مجلس النواب دوراً أكبر من الدور الذي مارسه تاريخياً في مسيرة تطور الدستور الأردني، باعتباره صاحب الولاية في التشريع وتعديل الدستور، وأخذ زمام المبادرة في اقتراح المزيد من التعديلات على الدستور، لا سيما تلك التي تضع نهاية لهيمنة السلطة التنفيذية وتغوّلها على بقية السلطات.
5. وقف هيمنة السلطة التنفيذية وتغولها على بقية السلطات في البلاد، ووضع حد لحالة الانفراد بالرأي والحكم والقرار، وتهميش مؤسسات الدولة لصالح المؤسسة الأمنية التي لا تزال تسيطر على كافة مفاصل الحياة في البلاد، وتستخدم سياسة القبضة الحديدية في التعامل مع المعارضة أو المنادين بالإصلاح.
6. إعادة النظر بالنهج السياسي تجاه المعارضة المتمثل بالاستبعاد والشيطنة، فلا بد أن يكون للمعارضة موطئ قدم داخل النظام الديمقراطي، والأردن وطن لكافة أبنائه، كما أنّ المعارضة هي حالة وطنية وشرعية، وضرورة من ضرورات الديمقراطية، وصمام أمان للنظام السياسي، وتضفي عليه قدراً من الشرعية، وليس هناك من بديل عن الحوار معها، للوصول إلى الوفاق الوطني الذي يخرج البلاد من حالة التجاذب والاستقطاب، وعلى قوى المعارضة في ذات الوقت أن تراجع مواقفها وبرامجها وأساليب عملها، وتعيد تنظيم صفوفها، وترتقي إلى مستوى التحديات التي تواجهها من أجل الوصول إلى أهدافها في الإصلاح.
7. إعادة النظر بالقوانين الناظمة للعمل السياسي، وفي مقدمتها قوانين الانتخاب والأحزاب السياسية والاجتماعات العامة والمطبوعات والنشر بحيث يتم تبني قوانين جديدة تنسجم مع نصوص وروح الدستور بعد التعديلات التي طرأت عليه، إذ أنه في ظل القوانين الحالية يبقى العمل السياسي يراوح مكانه، وتصبح التعديلات الدستورية أقرب إلى مجرد ديكور للديمقراطية أو إصلاحات تجميلية.
وذلك من أجل تحقيق مصالح وتطلعات النظام السياسي والشعب الأردني، وبناء الأردن الديمقراطي القائم على مبدأ الأمة مصدر السلطات كحقيقة واقعة وليس مجرد شعار، والذي يشكل الركن الأساسي لثوابت الحكم الديمقراطي، ومشاركة جميع المواطنين في السلطة والثروة، وبناء المواطن الأردني الحر القادر على العمل والعطاء، وتحمل مسؤولياته الوطنية والفردية، وحمل رسالة الوطن والدفاع عنها، ومواجهة المصاعب والتحديات. والحق أنه ومن دون أدنى شك لا يمكن بناء الأردن الحديث، وضمان مستقبل أجياله، وتحقيق الاستقرار السياسي فيه بعيداً عن هذه الرؤية.
حيث هدفت الدراسة إلى إلقاء الضوء على تجربة الإصلاح الدستوري في الأردن في عهد الملك عبد الله الثاني في ظل الربيع العربي، وسعت لتقديم صورة شاملة ومتكاملة لهذه المحطة الهامة من مسيرة الإصلاح والديمقراطية في البلاد، باعتبار الدستور هو العمود الفقري في النظام السياسي، وذلك من خلال استعراض سريع للرحلة الدستورية في البلاد منذ صدور أول دستور في تاريخ الأردن عام 1928 حتى عام 2015، ثم تناولت بالتحليل أبرز التعديلات الدستورية الأخيرة، بالتعرف على أهم معالم هذه التعديلات ونقاط القوة والضعف فيها وما تمثله من فرص للنجاح أو مخاطر للفشل، وردود الفعل المؤيدة والمعارضة لهذه التعديلات.
وأشارت الدراسة إلى أنه في إطار مسيرة الإصلاح السياسي التي انتهجها النظام السياسي الأردني في عهد الملك عبدالله الثاني ابن الحسين في مرحلة الربيع العربي، استجابة للضغوط والمطالب الشعبية المتزايدة نحو إصلاح سياسي حقيقي في البلاد، تأتي التعديلات الدستورية التي تعرض لها الدستور الأردني في عهد الملك عبد الله الثاني ابن الحسين على رأس قائمة الإصلاحات السياسية التي شهدتها البلاد، وذلك لسمو الدستور باعتباره سيّد القوانين، حيث يعلو حكمه فوق الأحكام الأخرى، ويمثل المرجعية الأولى في تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات ومؤسسات المجتمع والدولة بأجهزتها المختلفة، ويرسم الخطوط العامة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ويرسي القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم. فالإصلاح السياسي المنشود، والتحول الديمقراطي الذي يسعى الأردن إلى تحقيقه ينطلق أساساً من الدستور، فهو الحلقة الأولى في سلسلة الإصلاح، ولا يمكن إحداث إصلاح سياسي حقيقي في الأردن في ظل النصوص الدستورية التي تعطي السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة منها حل مجلس النواب، وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وكذلك صلاحية إصدار القوانين المؤقتة وغيرها من الصلاحيات، وذلك سنداً للدستور الأردني، كما أنه لا فائدة ترجى من الإصلاح الدستوري إذ لم يكن وليد إرادة سياسية جادة ورغبة حقيقية في إحداث تطور سياسي إيجابي في المجتمع.
وبينت الدراسة أنه يرى البعض أن الإصلاحات السياسية التي أطلقها الملك عبد الله الثاني بن الحسين ومنها التعديلات الدستورية خطوة هامة باتجاه تطور وتعزيز المسيرة الديمقراطية بما ينعكس إيجاباً على المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويؤسس لإحداث تنمية شاملة ومستدامة في البلاد، وإقامة دولة القانون والمؤسسات والحق والعدل، وإنشاء مجتمع العدالة والمساواة الذي يحترم كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته، وبالتالي فإن هذا الفريق ينظر إلى التعديلات الدستورية الأخيرة بنوع من الرضا والإعجاب باعتبارها ستنقل البلاد والعباد من حال إلى حال أحسن.
غير أنَّ المعارضة السياسية والحراك الشعبي والقوى الوطنية والنخب المثقفة في البلاد لا تزال تطالب بإجراء المزيد من الإصلاحات السياسية، وفي مقدمتها التعديلات الدستورية، وترى أن التعديلات التي تعرض لها الدستور شكلية، ولا تنسجم مع المبادئ الديمقراطية وعلى رأسها الأمة مصدر السلطات، وترى المعارضة السياسية أنَّ هذه التعديلات هي إجراء يهدف إلى الهروب إلى الأمام، وأنَّ الحقوق تُنتَزع ولا تُمنَح، ولذلك تطالب بإجراء وجبة ثانية من التعديلات الدستورية، وهو الأمر الذي لم يرفضه النظام السياسي، ولكنه لم يقرّه في الوقت نفسه.
وخلصت الدراسة إلى أن الإصلاح الدستوري هو مفتاح الإصلاح الحقيقي المنشود، واستعراض الرحلة الدستورية في الدولة الأردنية منذ صدور أول دستور في تاريخ البلاد عام 1928 حتى الوقت الحاضر الذي شهد إجراء تعديلات كبيرة على الدستور، يبين أن التغيير والتعديل سواء كان إيجابياً أم سلبياً هو صفة تلازم الدساتير الأردنية، وهذا نتاج ظروف البلاد المتأزمة أكثر منها تطوراً طبيعياً. وأنّ التعديلات الدستورية الأخيرة فيها الكثير من الإيجابيات، لا سيما أنها اشتملت على ضوابط لحل مجلس النواب، وتعزيز استقلال السلطة القضائية وبسط ولايتها على جميع الأشخاص في جميع القضايا الجزائية والحقوقية مما يؤكد سيادة القانون على الجميع، وعدم استثناء الوزراء.
وتعزيزاً لاستقلال السلطة القضائية تمّ إنشاء المحكمة الدستورية لتولي تفسير الدستور والرقابة على دستورية القوانين والأنظمة، وتم إنشاء الهيئة المستقلة للإشراف على الانتخابات لمنع تزويرها على النحو الذي ساد في الماضي، وبذلك يمكن القول أن التعديلات السابقة قد وضعت حداً لبعض مظاهر هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وإعادة نوعاً من التوازن المفقود بين السلطات الثلاث، إلا أن هذه التعديلات بقيت منقوصة ولم تؤدِّ إلى القضاء كلياً على كافة مظاهر تغوّل أو هيمنة السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى، لا سيما السلطة التشريعية بشكل يمس هيبة واستقلال السلطة التشريعية.
غير أن الدراسة أكدت على أن الدستور الذي صدر عام 1952 قد حدّد هوية الحكم في البلاد بأنه نيابي ملكي وراثي وعليه فإن من مقتضيات الحكم النيابي في الدستور أن يجد مفهوم تداول السلطة بطريقة ديمقراطية، ويتم تأليف الحكومات من الأكثرية النيابية، وتمارس الحكومة صلاحياتها الدستورية كسلطة تنفيذية بعد نيلها الثقة وتخضع في جميع أعمالها وقراراتها للرقابة والمحاسبة من قبل مجلس النواب، إضافة إلى رقابة القضاء على قراراتها الإدارية، ورقابة الرأي العام بمختلف مؤسساته على أدائها، وعلى هذا الأساس يجب أن يهدف الإصلاح الدستوري إلى تحقيق إرادة الشعب الأردني باعتباره مصدر السلطات جميعها، حيث يتولى مجلس الوزراء إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية بحيث ينأى الملك بنفسه عن ممارسة أي سلطة تنفيذية فعلية، فهو راس الدولة ورمز وحدتها واستمراريتها وهو حامي الدستور، وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية ويقف على مسافة واحدة من جميع السلطات، وبذلك يتحقق مبدأ تلازم السلطة والمسؤولية. وهذه جميعاً تعد خطوات إصلاحية تسهم في إقامة حكم مدني ديمقراطي تعددي يستند إلى طموحات الشعب العربي الأردني وتطلّعاته في كافة ارجاء البلاد.
كما بينت الدراسة أن النصوص الدستورية شيء والممارسة على أرض الواقع شيء آخر مختلف تماماً، فاحترام حقوق الأفراد لا يتحقق بتوفر النصوص الدستورية الضامنة لها فقط، وإنما تحتاج بالضرورة أن يكون نظام الحكم قائماً على أنه نابع من الجماعة يخضع معها لسيادة القانون، وبالتالي تصبح النصوص الدستورية واقعاً ملموساً لا من حيث الوجود النظري فقط، ولكن من حيث التمتع بها في الواقع، وبذلك تتوافق النصوص الدستورية مع الواقع العملي عن طريق احترامها في الممارسة والتطبيق، وهذا لم يتحقق في الأردن حتى الآن، فعلى سبيل المثال يشهد الأردن منذ ما يقارب ثلاثة أعوام حراكاً شعبياً يطالب بالإصلاح ومكافحة الفساد، وفي إطار تعامل الحكومة مع الناشطين في الحراك فقد تمّ اعتقال العديد من المواطنين وتعرضوا أثناء الاعتقال للتعذيب والإيذاء وذلك على النحو الذي وثّقه تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان، وهو مؤسسة حكومية، كما تمّ تقديم عدد منهم إلى محكمة أمن الدولة، وهي محكمة عسكرية في الوقت الذي نصت تعديلات الدستور على عدم محاكمة المدنيين إلا أمام محاكم مدنية، وتمّ إغلاق قناة جوسات الفضائية بدون أمر قضائي لبثها حلقة حوارية لبعض أعضاء المعارضة في البلاد، ولا تزال الحكومة ترفض إنشاء نقابة لأساتذة الجامعات، وتتدخل الأجهزة الأمنية في شؤون الحياة اليومية للمواطنين بشكل سافر في مخالفة صريحة لأحكام الدستور التي جعلت هدف الأجهزة هو فقط حماية المواطنين وصيانة حريتهم لا تقويضها، حيث تتجرأ الأجهزة الأمنية على حقوق المواطنين وحرياتهم وبأساليب تنم عن ذهنية عرفية، حيث التنصت على المخاطبات الهاتفية وغيرها من وسائل الاتصال، وانتزاع الاعترافات تحت التعذيب، فالحل الأمنيّ هو الحل الأول والأخير لأي معضلة مهما كانت، فيما المجتمع مجرد من أي قوة لمقاومة السطوة الأمنية وتجاوزاتها، بحيث أصبح حلم التحول من دولة المخابرات إلى مخابرات الدولة حلم بعيد المنال، كل هذا في عهد التعديلات الدستورية الأخيرة.
ووضحت الدراسة أنّ النظام السياسي في الأردن يجيد الحديث عن الإصلاح، ولعل الأوراق الملكية التي طرحها الملك عبد الله للنقاش، وتصريحات كبار المسؤولين الأردنيين خير شاهد على ذلك، ولكن على الصعيد العملي يبدو أنه حتى الآن لا توجد إرادة سياسية جادة لتحقيق الإصلاح المنشود، فالتعديلات الدستورية الأخيرة عكست رؤية النظام السياسي، ولم تتضمن المطالب الرئيسية للقوى الوطنية، كما أنها لم تكبح جماح السلطة أو تحد من فسادها واستئثارها بالقرار النهائي.
كما بينت أن التعديلات المنقوصة التي جرت على الدستور الأردني مؤخراً، قد جاءت نتيجة الربيع العربي والحراك الشعبي الأردني المطالب بإصلاحات سياسية وتعديلات دستورية جوهرية تعيد السلطة إلى الشعب، فالتعديلات التي تمت يمكن أن تكون خطوة صحيحة على طريق الإصلاح، ولكن ليس نهاية المطاف، والحقيقة أنّ المستفيد الأول من إجراء تعديلات جوهرية هو النظام السياسي حيث يعزز شرعيته ويؤكد فاعليته، ويستطيع أن يقدم نفسه بكل فخر كدولة نموذج، ومثال يحتذى في المنطقة، فينال رضى الشعب وإعجاب العرب والعالم.
وخلصت الدراسة إلى التوصيات التالية:
1. احترام أحكام الدستور والالتزام بها من قبل السلطات الثلاث ووقف العبث بالدستور، فالدستور هو الضمان الأكبر لاحترام حقوق الأفراد وحرياتهم، وذلك بما يسهم في تعزيز مكانة الدستور في قلوب ونفوس المواطنين والمسؤولين على حد سواء، وإنهاء التعارض بين النصوص الدستورية والترجمة العملية لها على أرض الواقع، فالخلل الذي يعاني منه الأردن هو في الممارسة أكثر من النصوص الدستورية.
2. اعتبار الإصلاح الدستوري هو المدخل الحقيقي والأساسي للإصلاح السياسي وكافة أنواع الإصلاح الأخرى، وبالتالي لا بدّ من إجراء إصلاح دستوري يقوم على أن الشعب هو مصدر السلطات في الدولة، ويضع قواعد واضحة لإصلاح سياسي شامل يوفر الضمانات لحماية الحقوق والحريات العامة، ويعيد التوازن للعلاقة بين السلطات الثلاث، ويرسخ استقلالها ومبدأ الفصل بينها، ويشتمل على ضمانات تعزز النهج الديمقراطي في الحكم، على أساس التداول السلمي للسلطة والتلازم بين السلطة والمسؤولية، بحيث يتم إلغاء التعديلات التي طرأت على دستور عام 1952 وأفقدته سماته الديمقراطية، وأخلت بالتوازن بين السلطات، وإلغاء الأحكام الدستورية التي فقدت مسوغات وجودها، وتعديل الأحكام الأخرى في ضوء التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي وقع خلال السنوات الستين التي مضت على وضع الدستور، ليصبح بعد تعديله أساساً صالحاً لنظام نيابي ملكي دستوري في دولة ديمقراطية.
3. العمل على تعزيز استقلال ونزاهة القضاء وتطوير آليّات تطبيق القوانين، وإصلاح النظام القضائي بما يضمن وحدة السلطة القضائية ويعيد للقضاء هيبته واحترام قراراته ترسيخاً لشرعية الدولة، وتحقيقاً لمبدأ المشروعية باعتبارها ركناً أساسياً لتعزيز حكم القانون، وإلغاء جميع أنواع المحاكم الاستثنائية المختصة بمحاكمة المدنيين، وذلك بشكل يتواءم والتزامات الأردن الناشئة عن اتفاقيات حقوق الإنسان.
4. تفعيل دور السلطة التشريعية في الإصلاح الدستوري المنشود بحيث يمارس مجلس النواب دوراً أكبر من الدور الذي مارسه تاريخياً في مسيرة تطور الدستور الأردني، باعتباره صاحب الولاية في التشريع وتعديل الدستور، وأخذ زمام المبادرة في اقتراح المزيد من التعديلات على الدستور، لا سيما تلك التي تضع نهاية لهيمنة السلطة التنفيذية وتغوّلها على بقية السلطات.
5. وقف هيمنة السلطة التنفيذية وتغولها على بقية السلطات في البلاد، ووضع حد لحالة الانفراد بالرأي والحكم والقرار، وتهميش مؤسسات الدولة لصالح المؤسسة الأمنية التي لا تزال تسيطر على كافة مفاصل الحياة في البلاد، وتستخدم سياسة القبضة الحديدية في التعامل مع المعارضة أو المنادين بالإصلاح.
6. إعادة النظر بالنهج السياسي تجاه المعارضة المتمثل بالاستبعاد والشيطنة، فلا بد أن يكون للمعارضة موطئ قدم داخل النظام الديمقراطي، والأردن وطن لكافة أبنائه، كما أنّ المعارضة هي حالة وطنية وشرعية، وضرورة من ضرورات الديمقراطية، وصمام أمان للنظام السياسي، وتضفي عليه قدراً من الشرعية، وليس هناك من بديل عن الحوار معها، للوصول إلى الوفاق الوطني الذي يخرج البلاد من حالة التجاذب والاستقطاب، وعلى قوى المعارضة في ذات الوقت أن تراجع مواقفها وبرامجها وأساليب عملها، وتعيد تنظيم صفوفها، وترتقي إلى مستوى التحديات التي تواجهها من أجل الوصول إلى أهدافها في الإصلاح.
7. إعادة النظر بالقوانين الناظمة للعمل السياسي، وفي مقدمتها قوانين الانتخاب والأحزاب السياسية والاجتماعات العامة والمطبوعات والنشر بحيث يتم تبني قوانين جديدة تنسجم مع نصوص وروح الدستور بعد التعديلات التي طرأت عليه، إذ أنه في ظل القوانين الحالية يبقى العمل السياسي يراوح مكانه، وتصبح التعديلات الدستورية أقرب إلى مجرد ديكور للديمقراطية أو إصلاحات تجميلية.
وذلك من أجل تحقيق مصالح وتطلعات النظام السياسي والشعب الأردني، وبناء الأردن الديمقراطي القائم على مبدأ الأمة مصدر السلطات كحقيقة واقعة وليس مجرد شعار، والذي يشكل الركن الأساسي لثوابت الحكم الديمقراطي، ومشاركة جميع المواطنين في السلطة والثروة، وبناء المواطن الأردني الحر القادر على العمل والعطاء، وتحمل مسؤولياته الوطنية والفردية، وحمل رسالة الوطن والدفاع عنها، ومواجهة المصاعب والتحديات. والحق أنه ومن دون أدنى شك لا يمكن بناء الأردن الحديث، وضمان مستقبل أجياله، وتحقيق الاستقرار السياسي فيه بعيداً عن هذه الرؤية.