حقائق قاسية بشأن النمو العالمي
- مايكل سبنس- إن دول العالم المرتفعة الدخل تعيش ورطة اقتصادية تتعلق في أغلبها بالنمو وتشغيل العمالة، والآن تمتد محنة هذه البلدان إلى الاقتصادات النامية. ولكن ما العوامل الكامنة وراء مشاكل اليوم، وما مدى ملاءمة الاستجابات السياسية المحتملة لها؟
يتلخص العامل الرئيسي الأول في برامج تقليص المديونيات وما ينتج عنها من عجز في الطلب الكلي. فمنذ اندلاع الأزمة المالية في العام 2008، كان لزاماً على العديد من الدول المتقدمة، التي عملت على دعم الطلب بالإفراط في الاستدانة والاستهلاك، أن تعمل على إصلاح موازنات القطاعين الخاص والعام، وهو أمر يحتاج إلى وقت طويل -ولقد أدى إلى إضعاف قدرة هذه الدول من حيث النمو وتشغيل العمالة.
إن الجانب غير القابل للتداول من اقتصاد أي دولة متقدمة يتسم بالضخامة (ما يقرب من ثلثي إجمالي النشاط الاقتصادي). وفي هذا القطاع الضخم لا يوجد بديل للطلب المحلي. وقد ينجح الجانب القابل للتداول في تعويض بعض العجز، ولكنه ليس ضخماً بالقدر الكافي للتعويض بالكامل. ومن حيث المبدأ، فإن الحكومات قادرة على سد الفجوة، ولكن الديون المرتفعة (والمستمرة في الارتفاع) تعمل على تقييد قدرتها على القيام بهذه المهمة (ولو أن مدى التقييد ما يزال موضوع مناقشة محتدمة).
خلاصة القول إن تقليص المديونيات سوف يضمن تواضع النمو في أفضل تقدير في الأمدين القريب والمتوسط. وإذا تدهورت الأوضاع في أوروبا، أو انتهت محاولات تجنب "الهاوية المالية" في أميركا إلى طريق مسدود في بداية العام 2013 (عندما ينتهي العمل بالتخفيضات الضريبية وتبدأ عملية خفض الإنفاق التلقائية في العمل)، فإن هذا يعني ارتفاع احتمالات حدوث موجة انحدار اقتصادي كبرى.
ويتصل العامل الثاني الكامن وراء مشاكل اليوم بالاستثمار. فالنمو في الأمد الأبعد يتطلب الاستثمار من قِبَل الأفراد (في التعليم والمهارات)، والحكومات، والقطاع الخاص. ونقص الاستثمار يؤدي في نهاية المطاف إلى تقليص احتمالات النمو وفرص العمل. والحقيقة القاسية هنا هي أن الجانب الآخر من نموذج النمو القائم على الاستهلاك الذي كان سائداً قبل الأزمة كان عبارة عن استثمار منقوص، وخصوصا على جانب القطاع العام.
وإذا تم إنجاز عملية إعادة التوازن جزئياً من خلال خفض الاستثمار، فإن النمو في الأمدين المتوسط والبعيد سوف يعاني، وهذا من شأنه أن يفضي إلى تضاؤل فرص العمل للداخلين الأحدث سناً إلى سوق العمل. ومن ناحية أخرى، فإن دعم الاستثمار يشتمل على تكاليف مباشرة: وهذا يعني تأجيل الاستهلاك.
ولكن استهلاك مَن؟ إذا كان الجميع تقريباً يتفقون على أن المزيد من الاستثمار مطلوب لتنشيط ودعم النمو، ولكن الغالبية يعتقدون أن شخصاً آخر غيرهم يتعين عليه أن يتحمل تكاليف هذا الاستثمار الإضافي، فهذا يعني أن الاستثمار سوف يقع ضحية لمأزق تقاسم الأعباء -الذي ينعكس في العملية السياسية، والاختيارات الانتخابية، وصياغة تدابير دعم الاستقرار المالي.
والقضية الرئيسية هنا هي الضرائب. فإذا كنا راغبين في زيادة الاستثمار في القطاع العام وعدم زيادة الضرائب في الوقت نفسه، فإن تخفيضات الميزانية المطلوبة في أماكن أخرى من أجل تجنب نمو الدين إلى مستويات غير محتملة سوف تكون ضخمة إلى حد غير معقول.
ويتعلق التحدي الأكثر صعوبة بالشمولية -كيف يمكن توزيع فوائد النمو. وهو تحد قديم يرجع في الولايات المتحدة بشكل خاص إلى عقدين من الزمان على الأقل قبل اندلاع الأزمة؛ والواقع أن هذا التحدي الذي تُرِك بلا علاج يهدد التماسك الاجتماعي الآن.
كان نمو الدخل راكداً بالنسبة لأبناء الطبقة المتوسطة في أغلب الدول المتقدمة، وكانت فرص العمل في انحدار، وخصوصا في القطاع القابل للتداول من الاقتصاد. وكان الجزء من الدخل المخصص لرأس المال في ارتفاع، على حساب الجزء المخصص لتشغيل العمالة. وكان توليد فرص العمل غير متناسب في القطاع غير القابل للتداول، وبشكل خاص في الولايات المتحدة.
وتعكس هذه الاتجاهات مزيجاً من قوى السوق التكنولوجية والعالمية التي كانت تعمل على مدى العقدين الماضيين. فعلى الجانب التكنولوجي، ساعدت الابتكارات الموفرة للعمالة في مجال معالجة المعلومات المستندة إلى الشبكات وإدارة المعاملات بطريقة آلية في دق إسفين بين النمو وتوليد فرص العمل في كل من القطاعين القابل للتداول وغير القابل للتداول.
وفي الجزء القابل للتداول من الاقتصادات المتقدمة، كان اقتران تحويل التصنيع إلى العمليات الآلية -بما في ذلك توسيع القدرات الروبوتية، والطباعة الثلاثية الأبعاد (في المستقبل)- بدمج الملايين من الداخلين الجدد إلى سلاسل التوريد العالمية السريعة التطور سبباً في الحد من نمو فرص العمل. والواقع أن تنامي قدرة الشركات المتعددة الجنسيات على تفكيك سلاسل التوريد العالمية هذه حسب الوظيفة والظروف الجغرافية، ثم إعادة دمجها بتكاليف معاملات متزايدة الانخفاض، يعمل على إزالة سبل حماية السوق التي كانت قائمة بفضل المنافسة المحلية على العمال.
وهذا التحدي عصيب بشكل خاص؛ لأن السياسة الاقتصادية لم تركز في المقام الأول على الاتجاهات التوزيعية السلبية الناشئة عن تحول نتائج السوق العالمية. ورغم هذا، فإن توزيعات الدخول في مختلف الاقتصادات المتقدمة، والتي يفترض أنها خاضعة بشكل مماثل لقوى تكنولوجية وأخرى مرتبطة بالسوق العالمية، تختلف إلى حد مذهل في واقع الأمر، الأمر الذي يشير إلى أن الجمع بين السياسات الاجتماعية والمعايير الاجتماعية المختلفة يخلف تأثيراً واضحاً على التوزيع. ورغم أن نظرية ضريبة الدخل المثالية تتعامل بشكل مباشر مع المبادلات بين حوافز الكفاءة والعواقب المرتبطة بالتوزيع، فإن إيجاد التوازن المناسب يظل غاية بعيدة المنال.
وقد تساعد الموازنة العامة المنضبطة للدولة، لأن جزءاً من الدخل المتدفق إلى رأس المال سوف يذهب إلى الدولة. ولكن الأوضاع المالية في مختلف أنحاء العالم، باستثناء الصين، تعاني من ضعف واضح في الوقت الحالي.
ونتيجة لهذا، فإن تقليص المديونيات يظل يشكل أولوية واضحة في مجموعة من البلدان، الأمر الذي يؤدي إلى الحد من النمو، مع تقييد قدرة التدابير المالية المضادة بسبب مستويات الدين والعجز الحكومية المرتفعة. وحتى وقتنا هذا، هناك القليل من الأدلة التي تشير إلى استعداد الساسة، والمشرعين، وربما عامة الناس إلى الحد من مستويات الاستهلاك الحالية من خلال فرض الضرائب من أجل خلق الحيز اللازم للاستثمار الموسع الموجه نحو النمو.
والواقع أن العكس هو الأرجح في ظل الضغوط المالية. ففي الولايات المتحدة، تبدو قِلة من التدابير العملية التي تتعامل مع التحديات المرتبطة بالتوزيع وكأنها جزء من أجندة انتخابية لأي من الحزبين الرئيسيين، رغم اللغة الخطابية التي تحاول تأكيد العكس.
وبقدر ما ينطبق هذا على اقتصادات متقدمة أخرى، فإن الاقتصاد العالمي يواجه فترة ممتدة لعدة سنوات من النمو البطيء، فضلاً عن مخاطر الجانب السلبي المتبقية الناجمة عن جمود السياسات والأخطاء المتكررة في أوروبا، والولايات المتحدة، وأماكن أخرى من العالم. وهذا السيناريو يعني تباطؤ النمو -ربما بما يعادل نقطة مئوية إلى نقطة ونصف النقطة- في الدول النامية، بما في ذلك الصين، ومرة أخرى في ظل وفرة من مخاطر الجانب السلبي.
*حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.
الغد