2024-11-25 - الإثنين
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

"باريسية": التربية العاطفية (لفتاة لبنانية) بحسب دانيال عربيد

باريسية: التربية العاطفية (لفتاة لبنانية) بحسب دانيال عربيد
جو 24 : تطلّ دانيال عربيد بفيلم جديد، "باريسية"، أقل ما يقال فيه أنّه يمتلك قدرة هائلة على الإغواء. ثمة أسباب موضوعية واضحة لهذا الإغواء، أولها حضور الشابة التي تضطلع بالبطولة المطلقة (مصطلحاً وفعلاً) منال عيسى، وهي، هذه الشخصية الـ"روميرية"، اكتشاف الاكتشافات. ثانياً، الطابع الشخصي الذي يقوم عليه العمل برمته، فالكثير من العناصر داخل الفيلم مستمدّة من خصوصيات دانيال عربيد وظّفتها في إطار نصّ متخيّل. ثالثاً، ما يغوي في الفيلم فعلاً، هو الموقع الذي ينظر منه شخوصه إلى الحوادث التي تتعاقب في حياتهم. كثيرة هي الأفلام عن نظرة أوروبيين الى الغرباء، ولكن من النادر أن نتّبع قصة من وجهة نظر المهاجر الوافد ومن خلال عينه الملقاة على واقع ليس واقعه؛ واقع يبتعد عنه كلما تقرّب منه، يلفظه قبل أن يروّضه عقب صراع طويل بينهما. باختصار، ثمة كرّ وفرّ مشبّعان بالقسوة والتشرّد نشهدهما، قبل أن تستقيم الأمور وتستقر على حقيقة جديدة وواقع جديد.


"باريسية" يطرح قصة لينا التي تغادر إلى باريس. لينا مراهقة يجتمع فيها الذكاء والسذاجة، بيد أنّ شجاعتها تمدّها بطاقة على الاستمرار مهما حصل. يمكن اعتبار الفيلم تجربة تحوُّلها الى باريسية وانتمائها الى مدينة العالم، حيث كلّ أنواع المهاترات والقضايا والشعارات من أكثرها طوباوية الى أكثرها انخراطاً بالواقع. ولكن هذا الفيلم في الحقيقة هو أكثر من ذلك بكثير. والكثير هنا يعني حتماً عدداً من التفاصيل التي تتمحور بأسرها حول تجربة الصمود في عراء متروبول أوروبي يطلب منك حداً أدنى من التكيّف الاجتماعي ومعرفة "حجمك" كي لا تُداس وتُسحق وتُهان. اختارت عربيد تسعينات القرن الماضي زمناً للحوادث. كان لبنان يخرج آنذاك من نفق الاقتتال. في هذا السياق، تمنحنا لينا الانطباع عبر شخصيتها التي ستزداد تعنتاً كلما اشتد عودها، أنّه، هي الآتية من عاصمة الخوف، ليس لديها ما تخافه. فهي ابنة حرب لم تعشها فعلاً، حربٌ كانت عندها أشبه بأصوات قنابل تأتي من بعيد. أضف الى هذا كله علاقة تبدو متأزمة مع الأب، ومفاتن ينوي أحد الأقارب استغلالها.



لا مقدمات في نصّ عربيد التي أخرجت الفيلم بأحشائها وعاطفتها وشذرات من جنونها المنضبط العقلاني. ندخل باريس، مقاهيها وجامعاتها، استوديواتها الصغيرة حيث يتصاعد منها دخان السجائر، مثلما ندخلها في أي فيلم فرنسي، أو في أي فيلم "فرنكو فرنسي"، كما يحلو للبعض تسميتها، حيث نقاشات بلا حدود. نرافق مغادرة إحداهن عزلة الطفولة الى فضاء الحياة الرحب، والسينما الفرنسية، العاشقة الأبدية للمراهقة، زاخرة بمثل هذه النماذج. تلتقط عربيد تلك الأجواء بحميمية، بقرب من الشخصيات، بصدق كبير، بقدرة على انتزاع بضع دموع من المُشاهد، وإن حاول الأخير المقاومة. وإذ يشكّل الفيلم مدخل لينا الى عاصمة التذمّر والجدالات التي لا تنتهي، فإنه أيضاً مناسبة لعربيد كي تدخل السينما الباريسية الخالصة، وإعلان انفصالها عن الماضي المثقل بمشاعر غير صحية، تلك التي أوصلتها الى مستوى آخر من علاقتها بجذورها بعد منع فيلمها "بيروت بالليل" في لبنان. ولا يبدو أنّه ستكون هناك عودة الى الخلف بعد هذا الفيلم غير "المُستشقر". صفحة من حياة مخرجته تُطوى الى الأبد. نحن أمام جردة حساب طويلة تتداخل فيها اللحظات اللطيفة بأشباح الماضي التي لا تزال تطاردها.

عندما نتحدث عن باريس، لا بدّ أن نتحدث عن التربية العاطفية، تلك التي تتولد بين يدي حبيب أو مَن نعتقده لوهلة حبيباً. ما تخاله لينا الأبدية تنتهي هنا في لحظة، بنظرتين وثلاث كلمات. إنّها الصدمة الأولى في تربيتها العاطفية. هذه من المساحات الوجدانية التي يبرع الفيلم في طرحها، وتبرع لينا بدورها في تحويلها لحظة تراجيدية تتعلق بها دائماً قبل أن يخيب ظنّها. أستاذة تاريخ الفنّ (المدهشة دومينيك بلان) التي تلتحق لينا بصفها، تذكر مقولة لباسكال: "لا نعيش بل نأمل أن نعيش". والأحداث التي يشهدها الفيلم كأنها تستمد منطقها من هذه المقولة. فالشابة لينا عبر كلّ المحطات التي تمرّ بها والعلاقات التي تنسجها، تبيّن موهبة تأجيل الحياة بحلوها ومرّها، بنجاحاتها وإخفاقاتها. إنها السعادة المؤجلة في كلّ لحظة. لدينا دائماً شعور أنّ الحياة الحقيقية مدفوعة إلى خارج جدران الفيلم، وأنّ ما نراه الآن ليس سوى "محاولة عيش"، الأمر الذي يحيلنا على مقولة باسكال.



طبعاً، بعض المواقف كانت تحتمل الاختزال، ولكن ينبغي إدراك حقيقة أنّ الفيلم هذا يستمد قوته من طوله واستمراريته وكمّ الحوادث المتراكمة في مداه، فضلاً عن إمعانه في دراسة الكاراكتيرات، وهذا يحتاج الى إيقاع معيّن ومسافة لبلوغها. في المقابل، ثمة بورتريه لموطن لينا الجديد، بورتريه غير وردية البتة. عندما نقول "غير وردية"، نقصد بها تلك المدرسة السينمائية في قول الأشياء بفجاجة، من دون الإذعان الى اكزوتيكية مفتعلة. فباريس السطوح والجسور، بالكاد نراها، ولكن نلمس جوهرها، عنفوانها المجيد، قيمها التي تتسرّب الى داخل الفيلم. الفرنسيون هنا "حليقو الرؤوس"، ملكيون، رجعيون، عباقرة، انتهازيون، مناضلون ضد الرأسمالية، ودودون وأحرار، ولكن ما يوحّدهم هو توازن نصّ عربيد (كتبته مع جولي بر، التي ورد اسمها في نصوص أفلام آرنو دبلشان) وقدرته على التعبير عن الموزاييك الفرنسي انطلاقاً من كاراكتيرات مختلفة تتصارع في ما بينها صراعاً غير معلن. كما تقول العبارة الفرنسية "نحتاج الى الجميع لبناء عالم". لا حكم أخلاقياً هنا، كأن ثمة صوتاً يهمس في الأذن: لينا نفسها لا تتوانى عن الانقضاض على ضحيتها عندما تنعدم أمامها الخيارات. كلّ شيء هنا يقع على الحدّ الفاصل بين الخير والشر، فمشهد السرقة لا يحوّل لينا سارقة، وتخلي الآخرين عنها لا يحولهم أوغاداً. "لكلٍ أسبابه"، كما كان يقول جان رونوار. حتى الخوف من المهاجرين يتبدّد عندما يحدّق أحدهم في عين لينا، ولمّا يتحول الخصم المجهول الى شخص من لحم ودم. جميعنا أعداء ما نجهل.

لجان دبي تفضّل الموضوع على السينما

في مهرجان دبي السينمائي (٩ - ١٦ الجاري)، حيث عُرض "باريسية"، بعد جولته الدولية التي انطلقت في تورونتو أيلول الماضي، لم يفز الفيلم بأي جائزة. فضّلت لجنة التحكيم بقيادة المخرجة الهندية الكندية ديبا ميتا المواضيع على الأفلام، والمضمون على الشكل، عبر إسناد جوائز لأفلام "وسطية" عن القمع في تونس ("على حلة عيني") وعن "العشرية السوداء" في الجزائر ("الليالي السوداء")، وعن الثورة في مصر ("نوارة"). هكذا هي حال المهرجان السينمائي الأهم والأكثر ألقاً في العالم العربي منذ فترة. ففي العام الماضي مثلاً، كانت الجائزة الكبرى من نصيب أحد أسوأ أفلام المهرجان، "أنا نجوم ابنة العاشرة" لخديجة السلامي، عن زواج القاصرات في اليمن. آنذاك ترأس اللجنة المخرج الأميركي لي دانيالز.

النهار اللبنانية
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير