في باريس.. ماذا قد يقول تونسي لفلسطيني؟
جو 24 : "علينا أن نحرق الحدود يا صاحبي"، "نعم، علينا أن نحرق الأحلام أيضاً".
مكي وشادي يتحدثان. بهدوء. بسكينة من لديه الوقت كله. لا شيء بانتظارهما، فهما لاجئان. عاطلان عن العمل. لكنهما يحييان بالأمل. مكي من تونس. شادي من فلسطين. عدسة 16 ملم، تصورهما، في فيلم "أحرق البحر"، وهما مستلقيان، على تلة، يشرفان على المدينة: "أحب هذا المكان. من هنا تبدو الأمور أصغر. بوسعك أن تغمر كل شيء بسهولة".
- " لدينا لغة واحدة، وثقافة واحدة. لكنني، في قريتي هناك فلسطين، لم أر تونسياً في حياتي. لم أر في واقع الأمر مغاربياً حتى أتيت هنا".
- " نحن مع فلسطين. دوماً".
- ونحن مع تونس. حين حصلت الثورة. نزلنا إلى الشارع. هتفنا معكم. كشعب واحد. فرحنا لكم. أتعرف؟ جسدي الآن هنا، لكن قلبي هناك. في قريتي. أنا غيرك، لم أرغب أن آتي إلى فرنسا لاجئاً. جيء بنا هنا إلى مؤتمر لكي نتحدث عن البلاد. عن فلسطين وحياتنا في ظل الاحتلال وكيف نتدبرها. ثم اتصلت بي أمي، قالت: لا تعد، الجيش الاسرائيلي يبحث عنك لكي يسجنك.
- أنا كنت من بين عشرين ألف تونسي. رمت بهم أمواج "الحراقة" (لقب يطلق على المهاجرين من سواحل المغرب العربي إلى فرنسا عبر البحر ومن دون أوراق) في الأيام الأخيرة لحكم بن علي. كنا في البحر حين تغير كل شيء. وحين وصلنا، كان عمدة باريس يعلن عن تضامنه مع الثورة التونسية، ويزيح الستار عن لافتة لمستديرة سميت باسم "البو عزيزي"، لكن، في الوقت ذاته، كان عشرين ألف تونسي في الشارع، يبحثون عن مأوى. يتم اضطهادهم من قبل الشرطة الفرنسية، حتى رغبنا باحتلال ذلك المبنى في باريس الذي يعود إلى عائلة بن علي، وتم إخلاؤنا منه بالقوة.
- أنا غيرك.. لدينا زيتون. وأنا صغير، كنا أنا وأبي وإخوتي السبعة، نذهب إلى السهول، في الشتاء لشهرين. نبيت في خيمة نصبها في العراء، ونجمع الزيتون. في الصيف، نصطاد في البحر. زيتون فلسطين غال على قلوبنا. أهل البلاد يعتبرون شجرة الزيتون جزءاً من العائلة. يعيشون حياتهم ليدافعوا عنها. أتعرف؟ أنا لا أحلم بتأشيرة لكي أغادر فلسطين. لكن، أحياناً أفكر بأنني أريد أن أسافر. أن "أشم هوا". هناك ناس على هذه الأرض مسموح لهم الحركة، والسفر، وناس، مثلي ومثلك، لا يمكنهم الحصول على تأشيرات. مدفونون.
- السفر يا صاحبي حلم..
- علينا أن نحرق الحدود. علينا أن نحرق الأحلام.
هذا فيلم عن الأحلام. الهجرة. رحلة مكي. من الحياة تحت حكم بن علي وعائلته، حيث "كنا نعمل ليل نهار لكي تزداد عائلة الطرابلسي ثراء. لكي تتضخم المافيا. ونحن، علينا أن لا نتحدث إلى الغرباء عن أي شأن سياسي. علينا أن نبتسم بالرغم من كل شيء. علينا أن نحترم قانون الابتسامة، في وجه السائح، الفرنسي أو الإيطالي أو الألماني، الذي جاء إلى أرضنا، وشواطئنا، لكي يستريح من ضغوطات تركها في بلاده الأم. حين كنت أعمل في الفندق في تونس، كان السواح الفرنسيون يظهرون مودة لي: آه، مكي، كم أنت جميل ورائع. البعض منهم، جاء إلى قريتنا المتواضعة، إلى بيتي، بصحبتي، وطبخت له أمي الكسكس. كانوا يحبونني ويعطونني أرقامهم وعناوينهم في باريس ويطلبون مني أن أتواصل معهم لو زرت المدينة يوماً. وحين حصل الأمر. انهار النظام، ودخلت البلاد في تلك الأيام العصيبة والمتوترة، كنت قد وصلت إلى باريس. بلا سنت واحد في جيبي، لأشتري علبة سجائر أو بطاقة هاتف. وحين نجحت في الاتصال ببعض من أولئك السواح، كنت أقول بفرح: بونجور. أنا مكي. من الشاطئ في تونس. أنا في باريس. هل لديكم الوقت لشرب قهوة؟ بالتأكيد، كانوا يقفلون السماعة في وجهي، ولا يردون على مكالماتي مرة جديدة.
"أحرق البحر" هذا فيلم عن الأيام. كيف تمر بطيئة. تماماً كما هي اللقطات الطويلة للمخرجة ناتلي نامبو، والمتحركة على مهل. بشاعرية. بأسى تضيف من جرعتهما وسينماتوغرافيا نيكولاس راي.
بأسلوب سلس، ناعم، وذكي، يذكرنا بأعمال المخرجة التسجيلية الفرنسية القديرة أنياس بي، تحافظ أيضاً على خاصية السرد، كطريقة لفهم الأحداث. نسمع القصص غالباً على لسان مكي الذي نراه أيضا في الكادرات. يتحدث بثقة وحب وأمل مستغرب، لا يمت إلى صورة "القلق والفزع" التي يبدو عليها عادة اللاجئ في مواضع مثيلة، في السينما الوثائقية.
تضع المخرجة اسمه في عناوين الفيلم، إنه مخرج مساعد. مكي، ابن القرية، الذي صارع أمواج البحر العاتية، التي تغلي كما البركان، بعد رحلة التيه في فرنسا، والمبيت في بيوت غريبة، وعلى أرضيات باردة، تمكن من أن يروي قصته، بل أن يصاحبها إلى منصات مهرجانات سينما عالمية في فرنسا وكندا ودول أخرى.
حين تشاهد الحكاية. لا بد أن تتأثر كمشاهد. حين ألقى قريبه قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي"، وربما تفاجئك دمعة على خدك. صوت المخرجة هذه اللقطة بالأبيض والاسود. الرجل، الذي يقرأ القصيدة بهدوء ومن دون أن يقترف الأخطاء، يحتل نصف الكادر. النصف الآخر أبيض. بدا لي، كأنه صورة لرجل لم يعد موجوداً. ذكرى ميت. "شهيد" بالأبيض والأسود. تونسي يقرأ قصيدة درويش، فيغدو فلسطينياً، بالأبيض والأسود. تماما كما اعتدنا. فالألم اسمه فلسطين، ولكن، حين يهاجر عشرات آلاف التونسيين، على قوارب "الحراقة"، نصبح كلنا في الألم.. شرق.
البيان الاماراتية
مكي وشادي يتحدثان. بهدوء. بسكينة من لديه الوقت كله. لا شيء بانتظارهما، فهما لاجئان. عاطلان عن العمل. لكنهما يحييان بالأمل. مكي من تونس. شادي من فلسطين. عدسة 16 ملم، تصورهما، في فيلم "أحرق البحر"، وهما مستلقيان، على تلة، يشرفان على المدينة: "أحب هذا المكان. من هنا تبدو الأمور أصغر. بوسعك أن تغمر كل شيء بسهولة".
- " لدينا لغة واحدة، وثقافة واحدة. لكنني، في قريتي هناك فلسطين، لم أر تونسياً في حياتي. لم أر في واقع الأمر مغاربياً حتى أتيت هنا".
- " نحن مع فلسطين. دوماً".
- ونحن مع تونس. حين حصلت الثورة. نزلنا إلى الشارع. هتفنا معكم. كشعب واحد. فرحنا لكم. أتعرف؟ جسدي الآن هنا، لكن قلبي هناك. في قريتي. أنا غيرك، لم أرغب أن آتي إلى فرنسا لاجئاً. جيء بنا هنا إلى مؤتمر لكي نتحدث عن البلاد. عن فلسطين وحياتنا في ظل الاحتلال وكيف نتدبرها. ثم اتصلت بي أمي، قالت: لا تعد، الجيش الاسرائيلي يبحث عنك لكي يسجنك.
- أنا كنت من بين عشرين ألف تونسي. رمت بهم أمواج "الحراقة" (لقب يطلق على المهاجرين من سواحل المغرب العربي إلى فرنسا عبر البحر ومن دون أوراق) في الأيام الأخيرة لحكم بن علي. كنا في البحر حين تغير كل شيء. وحين وصلنا، كان عمدة باريس يعلن عن تضامنه مع الثورة التونسية، ويزيح الستار عن لافتة لمستديرة سميت باسم "البو عزيزي"، لكن، في الوقت ذاته، كان عشرين ألف تونسي في الشارع، يبحثون عن مأوى. يتم اضطهادهم من قبل الشرطة الفرنسية، حتى رغبنا باحتلال ذلك المبنى في باريس الذي يعود إلى عائلة بن علي، وتم إخلاؤنا منه بالقوة.
- أنا غيرك.. لدينا زيتون. وأنا صغير، كنا أنا وأبي وإخوتي السبعة، نذهب إلى السهول، في الشتاء لشهرين. نبيت في خيمة نصبها في العراء، ونجمع الزيتون. في الصيف، نصطاد في البحر. زيتون فلسطين غال على قلوبنا. أهل البلاد يعتبرون شجرة الزيتون جزءاً من العائلة. يعيشون حياتهم ليدافعوا عنها. أتعرف؟ أنا لا أحلم بتأشيرة لكي أغادر فلسطين. لكن، أحياناً أفكر بأنني أريد أن أسافر. أن "أشم هوا". هناك ناس على هذه الأرض مسموح لهم الحركة، والسفر، وناس، مثلي ومثلك، لا يمكنهم الحصول على تأشيرات. مدفونون.
- السفر يا صاحبي حلم..
- علينا أن نحرق الحدود. علينا أن نحرق الأحلام.
هذا فيلم عن الأحلام. الهجرة. رحلة مكي. من الحياة تحت حكم بن علي وعائلته، حيث "كنا نعمل ليل نهار لكي تزداد عائلة الطرابلسي ثراء. لكي تتضخم المافيا. ونحن، علينا أن لا نتحدث إلى الغرباء عن أي شأن سياسي. علينا أن نبتسم بالرغم من كل شيء. علينا أن نحترم قانون الابتسامة، في وجه السائح، الفرنسي أو الإيطالي أو الألماني، الذي جاء إلى أرضنا، وشواطئنا، لكي يستريح من ضغوطات تركها في بلاده الأم. حين كنت أعمل في الفندق في تونس، كان السواح الفرنسيون يظهرون مودة لي: آه، مكي، كم أنت جميل ورائع. البعض منهم، جاء إلى قريتنا المتواضعة، إلى بيتي، بصحبتي، وطبخت له أمي الكسكس. كانوا يحبونني ويعطونني أرقامهم وعناوينهم في باريس ويطلبون مني أن أتواصل معهم لو زرت المدينة يوماً. وحين حصل الأمر. انهار النظام، ودخلت البلاد في تلك الأيام العصيبة والمتوترة، كنت قد وصلت إلى باريس. بلا سنت واحد في جيبي، لأشتري علبة سجائر أو بطاقة هاتف. وحين نجحت في الاتصال ببعض من أولئك السواح، كنت أقول بفرح: بونجور. أنا مكي. من الشاطئ في تونس. أنا في باريس. هل لديكم الوقت لشرب قهوة؟ بالتأكيد، كانوا يقفلون السماعة في وجهي، ولا يردون على مكالماتي مرة جديدة.
"أحرق البحر" هذا فيلم عن الأيام. كيف تمر بطيئة. تماماً كما هي اللقطات الطويلة للمخرجة ناتلي نامبو، والمتحركة على مهل. بشاعرية. بأسى تضيف من جرعتهما وسينماتوغرافيا نيكولاس راي.
بأسلوب سلس، ناعم، وذكي، يذكرنا بأعمال المخرجة التسجيلية الفرنسية القديرة أنياس بي، تحافظ أيضاً على خاصية السرد، كطريقة لفهم الأحداث. نسمع القصص غالباً على لسان مكي الذي نراه أيضا في الكادرات. يتحدث بثقة وحب وأمل مستغرب، لا يمت إلى صورة "القلق والفزع" التي يبدو عليها عادة اللاجئ في مواضع مثيلة، في السينما الوثائقية.
تضع المخرجة اسمه في عناوين الفيلم، إنه مخرج مساعد. مكي، ابن القرية، الذي صارع أمواج البحر العاتية، التي تغلي كما البركان، بعد رحلة التيه في فرنسا، والمبيت في بيوت غريبة، وعلى أرضيات باردة، تمكن من أن يروي قصته، بل أن يصاحبها إلى منصات مهرجانات سينما عالمية في فرنسا وكندا ودول أخرى.
حين تشاهد الحكاية. لا بد أن تتأثر كمشاهد. حين ألقى قريبه قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي"، وربما تفاجئك دمعة على خدك. صوت المخرجة هذه اللقطة بالأبيض والاسود. الرجل، الذي يقرأ القصيدة بهدوء ومن دون أن يقترف الأخطاء، يحتل نصف الكادر. النصف الآخر أبيض. بدا لي، كأنه صورة لرجل لم يعد موجوداً. ذكرى ميت. "شهيد" بالأبيض والأسود. تونسي يقرأ قصيدة درويش، فيغدو فلسطينياً، بالأبيض والأسود. تماما كما اعتدنا. فالألم اسمه فلسطين، ولكن، حين يهاجر عشرات آلاف التونسيين، على قوارب "الحراقة"، نصبح كلنا في الألم.. شرق.
البيان الاماراتية